خاص: قراءة- سماح عادل
يواصل الكتاب الحكي عن الدين لدى الحضارة البابلية، ويتناول أسطور “عشتار وتموز” وفكرة الموت والبعث من جديد، كما يتناول “أناشيد التوبة” والترانيم، والسحر وطرد الأرواح الشريرة. في الحلقة الخامسة والعشرين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
أسطورة عشتار وتموز..
ينتقل الكتاب في إطار الحكي عن الدين في الحضارة البابلية إلى الحديث عن عشتار وتموز: ” وهناك أسطورة عشتار وتموز وكان تموز حسب نص القصة السومري أخاً أصغر لعشتار، أما في النص البابلي فهو أحياناً حبيبها وأحيانا ابنها. ويلوح أن كلا النصين قد سرى إلى أسطورة فينوس (الزهرة) وأدنيس، وأسطورة دمتر وبرستون، وإلى عشرات العشرات من القصص الأخرى التي تتحدث عن الموت والبعث. وتموز هذا، ابن الإله العظيم إي، راع يرعى غنمه تحت أريد الشجرة العظيمة (التي تغطي الأرض كلها بظلها)، وبينما هو يرعاها إذا شغفت بحبه عشتار، وهي دوماً ظمأى إلى الحب، واختارته زوجاً لها في شبابها. ولكن خنزيراً برياً يطعن تموز طعنة قاتلة فيهوى كما يهوى جميع الموتى إلى الجحيم المظلم تحت الأرض، واسمه أرالو عند البابليين.
وكانت تحكمه إرشكجال أخت عشتار التي كانت تغار منها وتحسدها. وتحزن عشتار ويبرح بها الحزن، فتعتزم النزول إلى أرالو لتعيد الحياة إلى تموز وذلك بأن تغسل جروحه في مياه إحدى العيون الشافية. وسرعان ما تظهر عند باب الجحيم في جمالها الرائع وتطلب أن يؤذن لها بالدخول. وتقص الألواح قصتها في صورة واضحة قوية:
فلما سمعت إرشكجال هذا
كانت كمن يقطع الطرفاء (ارتجفت؟)
وكما يقطع الإنسان قصبة (اضطربت؟)
أي شيء حرك قلبها، أي شيء (خفقت له) كبدها؟
يا من هناك، (هل) هذه (تريد أن تقيم) معي؟
وأن تتخذ من الطين طعاماً، وأن تشرب (التراب) خمراً؛
إنني أبكي الرجال الذين فارقوا أزواجهم،
وأبكي النساء اللاتي انتزعن من أحضان أزواجهن؛
والصغار الذين (احتضروا قبل الأوان)،
اذهب أيها الخازن وافتح لها الباب،
وعاملها بمقتضى القرار القديم”.
وهذا القرار القديم يقضي بألا يُدخل أرالو إلا العراة. وعلى هذا فإن الخازن يخلع عن عشتار ثوباً من ثيابها أو حلية من حليها عن كل باب يتحتم عليها أن تجتازه: فيخلع عنها أولاً تاجها، ثم قرطيها، ثم عقدها، ثم حلية صدرها، ثم منطقتها ذات الجواهر الكثيرة، ثم الزركشة البراقة التي في يديها وقدميها، ثم يخلع عنها آخر الأمر منطقة حقويها؛ وتمانع عشتار في رقة، ثم تخضع:
فلما نزلت عشتار إلى الأرض التي لا يعود منها من يدخلها
أبصرتها إرشكجال وأغضبها مجيئها.
وألقت عشتار بنفسها عليها من غير تفكير،
وفتحت إرشكجال فاها وتحدثت إلى نمتار رسولها…
اذهب، يا نمتار، (واسجنها؟) في قصري،
وسلط عليها ستين مرضاً،
مرض العيون على عينها،
ومرض الجنب على جنبيها،
ومرض الأقدام على قدميها،
ومرض القلوب على قلبها،
ومرض الرأس على رأسها،
على جميع جسدها.
وبينما كانت عشتار حبيسة في الجحيم بما أرسلته عليها أختها، شعرت الأرض بأنها فقدت ما كان يوحي به إليها وجودها على ظهرها، فنسيت جميع الفنون وطرائق الحب، فلم يعد النبت يلقح النبت، وذبلت الخضر، ولم تشعر الحيوانات بحرارة، وامتنع الرجال عن الحنين:
ولما نزلت السيدة عشتار إلى الأرض التي لا يعود منها من يدخلها
لم يعل الثور البقرة، ولم يقرب الحمار الأتان
والفتاة في الطريق لم يقترب منها رجل؛
ونام الرجل في حجرته،
ونامت الفتاة وحدها.
وأخذ السكان يتناقصون، وارتاعت الآلهة حين رأت نقص ما ترسله إليها الأرض من القرابين، واستولى عليها الذعر فأمرت إرشكجال أن تطلق سراح عشتار، وتصدع إرشكجال بأمر الآلهة، ولكن عشتار تأبى أن تعود إلى ظهر الأرض إلا إذا سمح لها أن تأخذ معها تموز. وتجاب إلى طلبها، وتجتاز وهي ظافرة الأبواب السبعة، وتتسلم منطقة حقويها ثم الزركشة البراقة التي كانت على يديها وقدميها، ثم منطقتها ، ثم حلي صدرها، وعقدها، وقرطيها، وتاجها. فلما ظهرت على الأرض نما النبات وأينع من جديد، وامتلأت الأرض طعاماً، وعاد كل حيوان يعمل للإكثار من نسله.
وعاد الحب- وهو أقوى من الموت- إلى مكانه الحق سيد الآلهة والأناسي. تلك قصة كل ما يراه فيها عالم اليوم أنها قصة رائعة خليقة بالإعجاب، ترمز في صورة جميلة ممتعة إلى موات التربة وعودتها إلى الحياة في كل عام، إلى ما للحب من قدرة دونها كل قدرة، وصفها لكريتس في شعره القوي حين تحدث عن الزهرة (فينوس)”.
عقيدة الخلود..
وعن تقديس البابليين لتموز يشرح الكتاب: “أما البابليون فكان لهم تاريخاً مقدساً يؤمنون به أقوى إيمان، ويحتفلون بذكرى وقائعه في يوم يحزنون فيه وينتحبون ويبكون تموز الميت، يتلوه يوم يبتهجون فيه ويمرحون وهو يوم بعثه. بيد أن عقيدة الخلود لم يكن فيها ما تبتهج له نفس البابلي. ذلك أن دينه كان ديناً أرضياً عميقاً. فإذا صلى لم يكن يطلب في صلاته ثواباً في الجنة بل كان يطلب متسعاً في الأرض، ولم يكن يثق بآلهته بعد أن يوارى في قبره.
نعم إن نصاً من نصوصهم يصف مردك بأنه “الذي يحيي الموتى”، وأن قصة الطوفان تقول أن من نجوا منه قد عاشا أبد الدهر. ولكن فكرة البابليين عن الحياة الآخرة كانت في جملتها شبيهة بفكرة اليونان: فكرة أموات- فيهم قديسون وأنذال، وفيهم عباقرة وبلهاء؛ يذهبون كلهم إلى مكان مظلم في جوف الأرض ولا يرى الضوء من بعد ذلك أحد منهم. وكانت هناك جنة ولكنها اختصت بالإلهة، أما أرالو التي يهبط إليها جميع الناس فكانت داراً للعقاب في معظم الأحوال ولم تكن قط دار نعيم، تقيد فيها أيدي الموتى وأرجلهم أبد الدهر، وترتجف فيها أجسامهم من البرد، يجوعون فيها ويظمئون إلا إذا وضع أبناءهم لهم الطعام في قبورهم في أوقات معينة. ومن كان منهم كثير الذنوب على ظهر الأرض لقي فيها أشد العذاب، فسلط عيه الجذام يأكل جسمه أو غيره من الأمراض التي أعدها له ترجال وآلات سيد أرالو وسيدتها ليتطهر بها من ذنوبه”.
دفن الموتي..
ويفصل الكتاب عن عادة دفن الموتى لدى البابليين: “وكانت أكثر أجسام الموتى تدفن في قباب، ومنها ما كان يحرق وهو قليل ثم تحفظ بقاياه في قوارير، ولم تكن الجثث تحنط، ولكن نادبين محترفين كانوا يغسلون الجثة، ويلبسونها ثياباً حسنة، ويصبغون خديها، ويسودون جفونها، ويلبسونها خواتم في أصابعها، ويضعون معها بديلاً من الملابس الداخلية التي تلبسها. وإذا كانت الجثة لامرأة وضعت معها قوارير العطور، والأمشاط، وأقلام الأدهان، وكحل العينين، وذلك لكي تحتفظ بطيب رائحتها وجمال وجهها في الدار الآخرة. وكانوا يعتقدون أن الميت إذا لم يدفن على خير وجه عذّب الأحياء، وإذا لم يدفن قط حامت روحه حول البالوعات والميازيب تطلب فيها الطعام، وقد تصيب مدينة برمتها بالأوبئة الفتاكة. وهذا كله خليط من الأفكار ليست كلها منطقية متماسكة تماسك الهندسة الإقليدية، ولكن فيها ما يكفي لحفز البابلي الساذج على أن يقدم لآلهته وقساوسته كفايتهم من الطعام والشراب.
وكان الطعام والشراب أكثر ما ُيقرّب من القرابين؛ وذلك لأن ما يتبقى منها لا يُتلف حتماً إذا لم يطعمه الآلهة. وكثيراً ما كان الضأن يضحى به على المذابح البابلية، وقد وصلت إلينا رقبة بابلية هي سابقة عجيبة لكبش الفداء عند اليهود والمسيحيين: “الكبش فداء للإنسان، الكبش الذي يفتدي به حياته”. وكان تقريب القربان من الطقوس المعقدة التي تتطلب كاهن خبير بشئونها. وكانت التقاليد المتوارثة تقرر كل عمل يعمل، وكل لفظ يقال، فإذا أقدم على هذا العمل شخص هاو غير أخصائي فيه، ثم حاد قيد شعره عن المراسم المقررة، قد يكون معنى هذا أن تأكل الآلهة الطعام ولا تصغي للدعاء.
المراسم الصحيحة..
وعن اهتمام الببابلين بتنفيذ المراسم الدينية بدقة يذكر الكتاب: “وكان الدين عند البابليين يُعنى بالمراسم الصحيحة أكثر مما ُيعنى بالحياة الصالحة. فإذا شاء الإنسان أن يؤدي ما يجب عليه نحو الآلهة كان عليه أن يقرب القربان اللائق للهياكل، ويتلو الصلوات والأدعية المناسبة. أما فيما عدا هذا فقد كان في وسعه أن يفقأ عين عدوه المهزوم، ويقطع أيادي الأسرى وأرجلهم، ويشوي ما بقى من أجسامهم وهم أحياء، دون أن يؤذي بذلك آلهة السماء.
وكان أهم ما يجب أن يعمله البابلي التقي المتمسك بدينه أو يشترك في المواكب الطويلة المهيبة كالمواكب التي كان الكهنة ينقلون فيها صورة مردك من هيكل إلى هيكل، ويمثلون فيها مسرحية موته وبعثه المقدسة، أو أن يحضر هذه الاحتفالات وهو خاشع، وأن يطلي الأصنام بالزيوت المعطرة، ويحرق البخور بين يديها، ويلبسها أحسن الثياب وأغلاها، أو يزينها بالجواهر؛ وأن يقدم ابنته العذراء في احتفال عشتار العظيم وأن يقدم الطعام والشراب للآلهة، وأن يكون كريماً مضيفاً للكهنة.
أو لعلنا نظلمه كما سيظلمنا المستقبل بلا ريب حين يحكم علينا بالقليل الذي سوف تبقيه المصادفات المحضة من آثارنا، وتنجيه من عبث الزمان. استمع مثلا إلى ما يقوله نبوخد نصر الفخور مخاطباً مردك في تذلل وخضوع:
إذ لم تكن أنت يا ربي فماذا يكون
للملك الذي تحبه وتنادي باسمه؟
وستبارك لقبه حسب مشيئتك،
وتهديه صراطاً مستقيماً.
أنا الأمير الطائع لك،
باق كما صنعتني يداك؛
إنك أنت خالقي،
وأنت الذي حَكَّمتني في جيوش العباد
وبمقتضى رحمتك، يا مولاي،…
بدِّل قوتك الرهيبة حباً ورحمة،
وابعث في قلبي الاحترام لربوبيتك
وهبني ما ترى فيه الخير لي.
الترانيم و”أناشيد التوبة”..
وعن الترانيم الدينية يشير الكتاب: “هذا وإن الآداب الباقية لنا من عهد البابليين لتكثر فيها الترانيم التي تفيض بالتذلل الحار التي يحاول السامي أن يسيطر به على كبريائه ويخفيه عن الأنظار. وأكثر هذه الترانيم في صورة “أناشيد التوبة” وهي تهيئنا لتلك المشاعر العاطفية والصور الرائعة التي نراها في “مزامير” داود. ومن يدري لعل هذه كانت مثالاً احتذته تلك المزامير المتعددة النغمات.
أنا خادمك أضرع إليك وقلبي مفعم بالحسرات،
إنك لتقبل الدعاء الحار الصادر ممن أثقلته الذنوب،
إنك لتنظر إلى الرجل، فيعيش ذلك الرجل…
فانظر إليَّ بعطف حق وتقبل دعائي…
ثم يقول بعد ذلك وكأنه لا يعرف أذكر ذلك أم أنثى:
متى يا إلهي؛
متى يا إلهتي، يتجه وجهك إليَّ؟
متى يا إلهي، يا من أعرفه، ولا أعرفه، يهدأ غضب قلبك؟
متى يا إلهتي، يا من أعرفها ولا أعرفها، يهدأ قلبك الغضوب؟
لقد فسد الإنسان، وساء حكمه؛
ومَن مِن الأحياء كلهم يعرف شيئا؟
إنهم لا يعرفون أخيراً يفعلون أم شراً،
أي إلهي لا تنبذ خادمك،
لقد ألقى في الوحل فخُذ بيده!
والذنب الذي أذنبته بدله رحمة!
والظلم الذي ارتكبته، مر الريح أن تحمله!
واخلع عني ذنوبي الكثيرة كما يخلع المرء الثياب!
أي إلهي إن ذنوبي سبعة في سبعة؛ فاصفح عن ذنوبي!
أي إلهتي إن ذنوبي سبعة في سبعة؛ فاصفحي عن ذنوبي!
اصفحي عن ذنوبي تريني ذليلاً أمامك
لعل قلبك يبتهج كما تبتهج الأم التي ولدت الأبناء؛
لعله يبتهج كما تبتهج الأم التي ولدت الأبناء، والأب الذي أنجب!
وهذه الأناشيد والمزامير كان ينشدها الكهنة تارة، والمصلون تارة، وتارة ينشدها هؤلاء وأولئك معاً، وهم يتمايلون ذات الشمال وذات اليمين. ولعل أغرب ما في هذه الترانيم والأناشيد أنها- ككل آداب بابل الدينية- كتبت باللغة السومرية القديمة. وكان شأن هذه اللغة في الكنيستين البابلية والآشورية كشأن اللغة اللاتينية في الكنيسة الكاثوليكية لا تفترق عنها في شيء.
وكما أن الترنيمة الكاثوليكية قد تحتوي بين سطورها اللاتينية ترجمتها بإحدى اللغات الحديثة، فكذلك نجد لبعض الترانيم التي وصلت إلينا من أرض الجزيرة ترجمة لها باللغة البابلية أو الآشورية بين سطور اللغة السومرية الأصلية “الفصحى”، على النحو الذي نشاهده في كتب بعض تلاميذ المدارس في هذه الأيام. وكما أن صيغة الترانيم وطقوسها هي التي مهدت لمزامير اليهود وطقوس الكنيسة الكاثوليكية، فإن موضوعاتها تنذر بالترانيم اليهودية والمسيحية الأولى، وترانيم المتطهرة المحدثين، تلك الترانيم المتشائمة التي يسري فيها شعور بالذنب والخطيئة. ذلك أن الشعور بالذنب، وإن لم يكن له شأن كبير في حياة البابليين، تفيض به ترانيمهم، وتسري فيها كلها نغمة ما تزال باقية في الطقوس السامية وما اشتق منها من ترانيم غير الساميين.
وإلى القارئ مثلاً من هذه الترانيم: “رب إن ذنوبي عظيمة، وأفعالي السيئة كثيرة!… إني أرزح تحت أثقال العذاب، ولم يعد في وسعي أن أرفع رأسي، إني أتوجه إلى إلهي الرحيم أناديه، وأنا أتوجع وأتألم!… رب لا ترد عنك خادمك!”.
الخطيئة..
وعن تصور البابليين للخطيئة يوضح الكتاب: “وكانت فكرة الخطيئة عند البابليين مما جعل هذه التضرعات تصدر عن إخلاص حق شديد. ذلك أن الخطيئة لم تكن مجرد حالة معنوية من حالات النفس؛ بل كانت كالمرض تنشأ من سيطرة شيطان على الجسم في مقدوره أن يهلكه. وكانت الصلاة عندهم بمثابة رقية تخرج العفريت الذي أقبل عليه من طوائف القوى السحرية التي كان الشرق القديم يعيش فيها ويخوض عبابها.
وكان البابليون يعتقدون أن هذه الشياطين المعادية للناس تترصده في كل مكان. فقد كانت تعيش في شقوق عجيبة وتتسلل إلى البيوت من خلال أبوابها، أو من فتحات مزالجها أو أوقابها، وتنقض على فريستها في صورة مرض أو جنة إذا ما ارتكب خطيئة أبعدت عنه إلى حين حماية الآلهة الخيرين. وكان للمردة، والأقزام، والمقعدين، وللنساء بنوع خاص، كان لهؤلاء كلهم في بعض الأحيان القدرة على إدخال الشياطين في أجسام من لا يحبون وذلك بنظرة من “عين حاسدة”.
وكان من المستطاع اتقاء شر هؤلاء الشياطين إلى حد ما باستعمال التمائم والطلاسم وما إليها من الرقى والأحاجي. وكانت صور الآلهة إذا حملها الشخص معه تكفي في الغالب لإخافة الشيطان وإبعاده. وكان من أقوى التمائم أثراً قلادة من حجارة صغيرة تسلك في خيط أو سلك وتعلق في العنق؛ على أن يراعى في الحجارة أن تكون من النوع الذي تربط الأقوال المأثورة بينه وبين الحظ الحسن، وفي الخيط أن يكون أسود أو أبيض أو أحمر حسب الغرض الذي يريده منه صاحبه. وكان من أشد الخيوط أثراً الخيط الذي يغزل من عنزة لم يقربها تيس.
وكان من الحكمة أن يستعان فضلاً عن هذه الوسائل بالرقى الحارة والطقوس السحرية لإخراج الشيطان من الجسم، كرشه بالماء المحمول من أحد المجاري المقدسة كدجلة والفرات. وكان من المستطاع عمل صورة للشيطان، ووضعها في قارب، وإلقاؤها في الماء بعد أن تتلى عليها صيغة خاصة. وإذا أمكن صنع القارب بحيث ينكفئ كان ذلك أفضل. وكان من المستطاع إقناع الشيطان بالرقية الصحيحة بترك ضحيته البشرية وتقمص جسم الحيوان- كجسم طير أو خنزير أو حمل، والأخير أكثر شيوعاً”.
السحر وطرد الشياطين..
ويواصل الكتاب: “وكانت أكثر الكتابات البابلية التي وجدت في مكتبة أشور بانيبال هي الكتابات المحتوية على صيغ سحرية لطرد الشياطين واتقاء أذاها، والتنبؤ بالغيب. ومن الألواح التي وجدت كتب في التنجيم، ومنها ما هو قوائم في الفأل السماوي منه والأرضي، وإلى جانبها إرشادات عديدة تهدي إلى طريقة قراءتها؛ ومنها بحوث في تفسير الأحلام لا تقل براعة وبعداً عن المعقول عن أرقى ما أخرجته بحوث علم النفس الحديث. ومنها إرشادات في التنبؤ بالغيب ببحث أحشاء الحيوانات أو بملاحظة مكان نقطة من الزيت وشكلها إذا سقطت في إبريق ما.
وكان من أساليب التنبؤ الشائعة عند البابليين ملاحظة كبد الحيوان، وقد أخذ ذلك عنهم ما جاء بعدهم من الأمم القديمة. ذلك أن الاعتقاد السائد عند هذه الأمم هو أن الكبد مركز العقل في الحيوان والإنسان على السواء. ولم يكن ملك يجرؤ على شن حرب أو الاشتباك في واقعة، ولم يكن بابلي يجرؤ على البت في أمر من الأمور، أو الإقدام على مشروع خطير، إلا إذا استعان بكاهن أو عراف ليقرأ له طالعه بطريقة من الطرق الخفية السالفة الذكر”.