قصة الحضارة (224): استحوذت أُثينا علي روائع الخزف

قصة الحضارة (224): استحوذت أُثينا علي روائع الخزف

خاص: قراءة- سماح عادل

يواصل الكتاب عن الفنون في الحضارة اليونانية، وعن المزهريات والخزف الدقيق الملون. وذلك في الحلقة الرابعة والعشرين بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الخزف..

يستأنف الكتاب الحكي عن الخزف اليوناني: “لكن سادة حي الخزافين في خارج أثينة برزوا إلى الأمام حوالي عام 550 ق.م وألقوا عن كاهلهم عبء النفوذ الشرقي، واستولوا بمصنوعاتهم ذات الرسوم السوداء على أسواق البحر الأسود، وقبرص، ومصر، وإتروريا، وأسبانيا. وأخذ النابغون من صناع الخزف من ذلك الحين يهاجرون إلى أثينة إن لم يكونوا قد ولدوا فيها ونشأت فيها مدرسة عظيمة وتقاليد ثابتة لأن الأبناء أخذوا يرثون فن الآباء، وأصبحت صناعة الخزف الجميل إحدى الصناعات الكبرى في المدينة ثم أمست إحدى الصناعات التي تحتكرها أتكا وتقر لها غيرها من الأقاليم بهذا الاحتكار.

وتحمل المزهريات نفسها من حين إلى حين صورا لحوانيت الخزافين، ويرى فيها الصانع يعمل مع صبيانه أو يراقبهم وهم يقومون بالعمليات المختلفة: يخلطون الألوان والطين، ويشكلون العجينة، ويلونون الأرضية، ويحفرون الصور، ويحرقون الآنية، ويحسون بالسعادة التي يحس بها من يرون صور الجمال تظهر على أيديهم. ونحن نعرف أكثر من مائة من هؤلاء الخزافين أهل أتكا، ولكن الدهر قد عدا على آياتهم الفنية فحطمها ولم يبق لنا إلا أسماء مبدعيها.

ونحن نقرأ الآن على كأس الشراب قول الصانع مفتخراً بصنعه Nikosthenes me poiesen ” صنعني نكسثنيز وكان أجزسياس أعظم من نكسثنيز هذا وأجل قدراً. وفي متحف الفاتيكان قارورة فخمة ذات مقبضين من صنعه، وكان واحداُ من طائفة كبيرة من الفنانين يشجعهم أنصار الفن في عهد بيسستراتس وأبنائه وينعمون بعهد السلم الذي ساد البلاد وقتئذ. ومن أيدي كلتياس وإرجتموس خرجت مزهرية فرنسوا الذائعة الصيت التي عثر عليها في إتروريا عام 560 فرنسي يحمل هذا الاسم، وهي الآن ضمن كنوز متحف الآثار بفلورنس، وهي إناء كبير عليه صفوف من الأشكال والمناظر مستمدة من الأساطير اليونانية يعلو بعضها بعضا.

وكان هذان الصانعان أشهر صناع طراز الرسوم السوداء في أتكا في القرن السادس. ولا حاجة بنا إلى المبالغة في جودة صنع الإناء، فهو لا يضارع في فكرته ولا في إخراجها خير الأواني الباقية من عهد أسرة تانج أو سونج الصينيتين؛ غير أن الفنان الصيني كان له غرض يختلف عن غرض الفنان الشرقي، فلم يكن همه الأول هو الألوان بل الخطوط، ولا النقش بل الشكل. ولذلك كانت الرسوم التي على الآنية اليونانية رسوماً صورها العرف، وثبت طرازها فجعلها ضخمة ضخامة غير عادية في الكتفين دقيقة في الساقين”.

مخاطبة الخيال..

وعن مداعبة هذا الخزف للخيال يضيف الكتاب: “وإذا كان هذا الطراز قد ظل سائدا طوال عهد اليونان الزاهر فمن واجبنا أن نفترض أن الخزاف اليوناني لم يكن يفكر قط في الدقة الواقعية، فكأنه في فنه هذا يقرض الشعر لا يكتب النثر، ويخاطب الخيال لا العين، ولهذا السبب عينه لم يتوسع فيما يستخدمه من المواد أو الألوان. فقد استخدم صلصال السرمكوس الأحمر اللطيف، وهدأ لونه باللون الأصفر، وصغر الرسوم بعناية، وملأ ما بين الخطوط باللون الأسود الزجاجي البراق، فاستحالت الأرض على يديه آنية موفورة العدد تقترن فيها المنفعة بالجمال، منها أباريق ماء، وقوارير ذات مقبضين، ودنان خمر وأقداح، وآنية خلط، وقنينات عطر. وكان هو الذي فكر في التجارب، وابتكر الموضوعات، وابتدع الأعمال الفنية التي أخذها عنه صانعو البرونز، والمثالون، والرسامون.

وهو الذي قام بالتجارب الأولى في رسم المناظر فنيا كما تبدو بحجمها الطبيعي للعين، وفي فن المنظور، وتوزيع الظلال، وعمل النماذج. وقد مهد السبيل لنحت التماثيل بأن صنع من الطين المحروق صورا لما لا يحصى من الموضوعات والأشكال، وحرر فنه من الرسوم الهندسية الدورية ومن المغالاة الشرقية، وجعل صور الآدميين مصدر حياته ومحورها الذي تدور عليه. ومل الخزاف الأثيني قبيل الربع الأخير من القرن السادس الرسوم السوداء على الأرضية الحمراء.

فعكس الوضع وابتدع طراز الرسوم الحمراء الذي ظلت له السيادة في إقليم البحر الأبيض المتوسط مائتي عام. وكانت الصور لا تزال جامدة ذات زوايا، والأجسام مصورة من جانبها، والعين في مواجهة الناظر تماما، ولكنه كان يستمتع في نطاق هذه الحدود بحرية جديدة ومجال أوسع في التفكير والتنفيذ، وكان يخدش الخطوط الخارجية للصورة خدشا خفيفا بسن رفيع، ويرسم تفاصيلها بعدئذ بالقلم، ويملأ خلفيتها باللون الأسود، ثم يضيف إليها لمساتها الصغرى بمادة زجاجية ملونة.

وفي هذا المجال أيضاً خلد بعض كبار الفنانين أسماءهم؛ من ذلك أن قارورة ذات أذنين قد كتب عليها: “رسم صورها يوثيميدس بن بلياس رسما لم يستطعه يفرنيوس “.وكان هذا تحديا ليفرنيوس ودعوة له أن يصنع مثلها. لكن يفرنيوس هذا ظل يوصف بأنه أعظم الخزافين في عصره. ويظن بعضهم أنه هو صاحب الخابية التي صور فيها هرقل يصارع أنتيوس. وتعزى إلى معاصرة سسياس مزهرية من أشهر المزهريات اليونانية صور عليها أكليز يضمد جرحاً في ذراع بتركلوس. وقد أبرز في هذه الصورة جميع دقائقها، وأفاض عليها الكثير من حبه وعطفه، ولم تستطع القرون الطوال أن تنال من منظر الألم الصامت وهو يبدو على ملامح الفتى المحارب”.

روائع فنية..

وعن روعة الخزف اليوناني: “ونحن مدينون إلى أولئك الرجال وغيرهم ممن لا نعرف أسماءهم الآن بكثير من الروائع الفنية أمثال الكأس التي نرى في داخلها صورة إلهة الفجر تندب ولدها المتوفي، وإبريق الماء المحفوظ في متحف الفن بنيويورك والذي رسم عليه جندي يوناني، قد يكون أكليزي يطعن بالحربة امرأة من المحاربات جميلة ذات ثديين، وكان إناء من أمثال هذه الأواني هو الذي وقف أمامه جون كيتس في يوم من الأيام صامتا مذهولا حتى أطلقت خياله تلك “النشوة الجامحة” و”الدفعة الهائجة” فأنطقتا لسانه بقصيدة أعظم شأنا من أية قارورة يونانية.”

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة