قصة الحضارة (223): وصلت صناعة الخزف إلي تطور ساحر

قصة الحضارة (223): وصلت صناعة الخزف إلي تطور ساحر

خاص: قراءة- سماح عادل

يحكي الكتاب عن الفنون في الحضارة اليونانية، وعن المزهريات والخزف الدقيق الملون. وذلك في الحلقة الثالثة والعشرين بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الفنون..

يستأنف الكتاب الحكي عن الفنون في الحضارة اليونانية القديمة: “أكمل نتاج الحضارة اليونانية، ولكن لا نجد من بقايا هذا النتاج العظيم إلا النزر اليسير. ذلك أن التدمير الذي عاناه الأدب اليوناني من جراء عدوان الزمان وتحكم ذوي العقول الضيقة الجاهلة، وتغير الأنماط والأهواء العقلية، لا يعد شيئا مذكورا إذا قيس إلى ما وقع على الفن اليوناني من تدمير. ولقد بقي لدينا من عصر الفنون الزاهر قطعة برونزية واحدة هي راكب العربة في دلفي، وتمثال واحد من الرخام هو تمثال هرمس من صنع المثال بركستيليز، أما الهياكل فلم يصل إلينا منها هيكل واحد  ولا هيكل الثسيوم نفسه  بالشكل أو باللون الذي كان عليه في بلاد اليونان القديمة.

كذلك لم يكد يبقى لدينا شيء من النقوش اليونانية على المنسوجات، أو الخشب، أو العاج، أو الفضة، أو الذهب، ذلك أن هذه المواد كانت أضعف أو أثمن من أن تنجو من أيدي الناهبين أو عبث الأيام. لذلك كان علينا أن نعيد تصوير هذه الفنون مستعينين على ذلك بما بقي لدينا من آثارها المحطمة القليلة.

نشأة الفن اليوناني..

يواصل الكتاب: “وكانت الأسباب التي أدت إلى نشأة الفن اليوناني هي الرغبة في تصوير الأجسام وتزيينها، والنزعة البشرية في الديانة اليونانية، والروح الرياضية، والمثل العليا للرياضيين. ولما ارتقى اليوناني البدائي عن المرحلة التي اعتاد أن يضحي بها بالآدميين لكي يصبحوا الموتى ويقوموا على خدمتهم، استبدل بهم التماثيل المنحوتة أو الصور كما فعل غيره من البدائيين. ووضع بعد ذلك صورا لآبائه في بيته، أو وضع في المعابد صورا وتماثيل شبيهة به أو بمن يجب، اعتقادا منه أن هذه الصور والتماثيل ستتمكن بقوة سحرية من بسط حماية الإله ورعايته.

لقد كان الدين المينوي، والدين الميسيني، وكانت طقوس اليونان الأرضية نفسها، عبارات غامضة مبهمة غير شخصية، وكان فيها أحيانا من الرهبة والسخف ما ينأى بها عن جمال التصوير ولكن الخصائص البشرية الصريحة التي كان يتصف بها آلهة أولمبس، وحاجتها إلى مواطن وهياكل تقيم فيها على سطح الأرض، كل هذه قد فتحت أمام اليونان آفاقا واسعة للنحت والعمارة ولعشرات من الفنون المتصلة بهما. دينهم شجع الآداب والفنون. ولا نكاد نجد فيما لدينا من آثار اليونان الأقدمين كتابا، أو مسرحية، أو تمثالا، أو بناء، أو مزهرية لا يمت إلى الدين بصلة في موضوعه، أو غرضه، أو الإلهام به.

ولكن الإلهام وحده لم يكن ليرفع من شأن الفن اليوناني إلى الدرجة التي ارتفع إليها، فقد كان يحتاج إلى البراعة الفنية العالية التي تنشأ من الصلات الثقافية، وإلى تطور الصناعات اليدوية وانتقالها من طور إلى طور. والحق أن الفن لم يكن عند الرجل اليوناني إلا نوعا من الصناعة اليدوية، وارتقى الفنان من الصانع الماهر ارتقاء طبيعيا تدريجيا حتى لم يكن اليونان يميزون أحدهما من الآخر تمييزا دقيقا. لقد كان الفنانون في حاجة إلى العلم بجسم الإنسان لأن نموه الصحي السليم هو الذي يكسبه تناسبا وتناسقا وجمالا”.

الحاجة إلي الحب..

وعن ارتباط الفن بالحب يضيف الكتاب: “كانوا في حاجة إلى حب للجمال عاطفي قوي جنسي يهون معه كل صعب إذا ما أدى إلى تخليد لحظة من لحظاته الحية، وصورها في صورة تبقى على مر الزمان. وكانت نساء إسبارطة يضعن في حجرات نومهن صورا لأبلو، ونارسس، وهياسنثس، أو أي إله آخر وسيم حتى يلدن بذلك أطفالا جمالا. وأقام سبسلوس مباراة في الجمال بين النساء من زمن بعيد يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد، ويقول أثينيوس إن هذه المباراة الدورية استمرت إلى العهد المسيحي.

ومن أقوال ثيوفراستوس في هذا المعنى “إن مباريات تقام” في بعض الأماكن “بين النساء في الخفر، وحسن التدبير. كما تقام مباريات في الجمال، كالمباريات التي تقام. في تندوس ولسبوس”.

المزهريات..

وينتقل الكتاب إلي أول نوع من الفنون اليونانية: “من الأقاصيص الظريفة الشائعة في بلاد اليونان أن أول قدح للشراب قد شكل فوق ثدي هيلين، فإذا كان هذا صحيحا فإن القالب الذي صنع على هذا الطراز قد ضاع عقب الغزو الدوري، لأن ما وصل إلينا من الآنية الفخارية من العهود اليونانية القديمة لا يذكرنا قط بهيلين وما من شك في أن هذا الغزو قد أثر أسوأ الأثر في تطور هذا الفن، وأفقر الصناع، وشتت المدارس، وقضى إلى حين على انتقال أصوله ذلك بأن المزهريات اليونانية تبدأ من بعد هذا الغزو بسيطة بدائية فجة، كأن كريت لم تسم بصناعة الفخار فتجعلها فنا جميلا.

ويغلب على الظن أن مزاج الفاتحين الدوريين الذي كانت تغلب عليه الخشونة هو الذي أخرج مما بقي من قواعد الفن المينوي الميسيني ذلك الطراز الهندسي الذي كانت له السيطرة على أقدم الفخار اليوناني بعد العصر الهومري. لقد محى من هذا الفخار ما كانت تزدان به الآنية الكريتية من رسوم الأزهار والمناظر الطبيعية، والنباتات وكانت النزعة الصارمة التي أقامت مجد الهياكل الدورية هي التي قضت على صناعة الفخار اليونانية. وليس في الجرار الضخمة التي يمتاز بها هذا العصر ما يمت بصلة إلى الجمال، فقد كان الغرض من صنعها حفظ الخمر أو الزيت أو الحبوب، ولم يكن يقصد بها أن تكون متعة للفنان الخبير بصناعة الخزف.

ويكاد نقشها كله أن يكون وحدات من مثلثات أو دوائر أو سلاسل، أو خطوط متقاطعة، ومعينات، وصلبان، أو خطوط أفقية متوازية بسيطة تتكرر مرة بعد مرة. وحتى الرسوم الآدمية التي تتخلل هذه الأشكال  كانت رسوما هندسية، فجذع التمثال العلوي كان مثلث الشكل، وفخذاه وساقاه كانت مخروطية. وانتشر هذا الطراز الهين من الزينة في جميع بلاد اليونان، وكان هو الذي حدد صورة المزهريات الدبيلونية في أثينة. ولكن الآنية الضخمة التي كانت تصنع في العادة لتوضع فيها جثث الموتى كانت ترسم عليها بين خطوط الأشكال الهندسية صور جانبية لوجوه النائحين، وعربات، وحيوانات غاية في السماجة.

فلما آذن القرن الثامن بالانتهاء رسمت على الفخار اليوناني صور حية أكثر من الصور السابقة، واستعمل لونان لأرضية الصور، واستبدلت الدوائر بالخطوط المستقيمة، وظهر على الصلصال سعف النخل، والأزورد، والجياد القافزة، والآساد المصيدة، وحلت الزخارف الشرقية محل الطراز الهندسي الساذج.

خزف دقيق ملون..

وعن ازدهار هذا الفن: “وأعقب ذلك العصر عصر مليء بالتجارب غمرت فيه ميليتس السوق بمزهرياتها الحمراء، وساموس بمصنوعاتها المرمرية، ولسبوس بآنيتها السوداء، ورودس بآنيتها الحمراء، وكلزميني بآنيتها الرمادية اللون، وأصدرت فيه نقراطس الخزف الدقيق الملون والزجاج نصف الشفاف. واشتهرت إرثيرا برقة مزهرياتها، وكلسيس ببريقها وحسن صقلها، وسكيون وكورنثة بقوارير الرائحة الدقيقة الصنع، والأباريق ذات الرسوم المتقنة الأنيقة الشبيهة بمزهريات شيجي في رومة.

وقامت بين صناع الخزف في المدن المختلفة منافسة قوية، وكانت هذه المدينة أو تلك تجد مشترين لخزفها في كل ثغر من ثغور البحر الأبيض المتوسط، وفي روسيا، وإيطاليا، وبلاد غالة. وخيل إلى مدينة كورنثة في القرن السابع أنها فازت على منافساتها في هذه الحرب الخزفية، فقد كانت مصنوعاتها في كل مكان وفي يد كل إنسان، وكان صناع الفخار فيها قد كشفوا طرقا جديدة للحفر والتلوين، وابتكروا كثيرا من الأشكال الجديدة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة