قصة الحضارة (222): وصلت الألعاب في اليونان إلي الوحشية

قصة الحضارة (222): وصلت الألعاب في اليونان إلي الوحشية

خاص: قراءة- سماح عادل

يستأنف الكتاب الحديث عن الألعاب في الحضارة اليونانية، وعن أنواع الألعاب. وذلك في الحلقة الثانية والعشرين بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الرمح..

وعن لعبة رمي الرمح: “اللعبة الثالثة هي قذف الحربة أو الرمح بالاستعانة بِشَرعة من الجلد متصلة بوسط السهم. وكانت المباراة الرابعة هي الجري مسافة قصيرة بأقصى سرعة في الملعب نفسه، وكانت هذه المسافة تبلغ نحو مائتي ميل في الغالب. وكانت المباراة الخامسة هي المصارعة، وهي من المباريات المحببة كثيراً إلى اليونان، ومنها اشتق لفظ Palaistra نفسه، وما أكثر ما يروى من القصص عن الأبطال المصارعين.

وكانت الملاكمة من الألعاب القديمة، ونكاد نوقن أنها مأخوذة عن كريت المينوية وبلاد اليونان الميسينية. وكان المتبارون ينازل بعضهم بعضاً بكرات للكم معلقة بمحاذاة الرأس ومحشوة ببذور التين أو الدقيق أو الرمل. وفي عصر اليونان الزاهر (أي في القرنين الخامس والرابع) كان الملاكمون يلبسون “قفازات لينة” من جلد الثيران، معالجة بالدهن، وتكاد تصل إلى المرافق، وكانت الضربات مقصورة على الرأس ولكنهم لم تكن لديهم قواعد تحرم ضرب اللاعب إذا وقع على الأرض. ولم تكن هناك أشواط أو فترات للراحة، بل كان الملاكمان يواصلان اللعب حتى يستسلم أحدهما أو يعجز عن الملاكمة.

ولم يكونوا يقسمون حسب أوزانهم، بل كان في مقدور أي إنسان مهما يكن وزنه أن يشترك في المباريات. ومن ثم كان ثقل الجسم ذا نفع كبير لصاحبه، وانحطت الملاكمة لهذا السبب في بلاد اليونان وتحولت من مباراة في المهارة إلى منازلة بالقوة العضلية”.

وحشية..

وعن التوحش في بعض الألعاب: “وازدادت وحشية اللاعبين على مر الزمن فجمعوا المصارعة والملاكمة في مباراة جديدة سموها لعبة القوى مجتمعة (pankration). وكان يسمح في هذه اللعبة بكل شيء عدا العض وفقأ العين، وحتى الركل في البطن كان مسموحاً به أيضا. وقد وصلت إلينا أسماء ثلاثة من أبطال هذه المباراة هزموا من نازلوهم لأنهم كسروا أصابعهم، وكال أحدهم لغريمه ضربات وحشية بأصابعه الممدودة وأظافره الطويلة القوية التي اخترق بها جلده وانتزع بها أمعاءه من بطنه.

لكن ميلو الكروتوني كان ملاكما أظرف من هؤلاء وأحب إلى النفوس، ويروى عنه أنه نمى قوة جسمه بحمل عجل صغير في كل يوم من حياته حتى كبر هذا العجل وأصبح ثوراً كامل النمو. وكان الناس يحبونه لحيله ودهائه، فقد كان يمسك في يده الرمانة ويقبض عليها بقوة لا يستطيع معها أي إنسان أن ينتزعها منه، ومع ذلك كانت الرمانة تبقى سليمة لا ينالها أذى وكان يقف على قرص من الحديد مدهون بالزيت ويقاوم كل ما يبذل من الجهد لزحزحته عن مكانه.

ويربط حبلا حول جبهته ثم يقطع الحبل بوقف نفسه ودفع الدم إلى رأسه. وقضت عليه مواهبه هذه آخر الأمر “ذلك أنه التقى مصادفة بشجرة ذابلة كما يقول بوزنياس “دقت فيها أوتاد لتفصل خشبها بعضه عن بعض، فخيل إليه أن يفصل هذا الخشب بيديه، ولكن الأوتاد انخلعت من الشجرة وانطبق خشبها عليه، وافترسته الذئاب”.

العدو..

وعن لعبة أخري: “وكانت الألعاب تشمل فضلا عن السباق السريع القصير المدى مسابقات أخرى في العدو، منها مسابقة طولها أربعون ياردة، وأخرى طولها أربعة وعشرون شوطا أو ميلان وثلثا ميل، ومنها سباق مسلح يحمل كل عداء فيه ترساً، وليس لدينا ما نستدل منه على الأرقام القياسية في هذه المسابقات. وكان الشوط يختلف باختلاف المدن، ولم يكن لدى اليونان آلات يقيسون بها أجزاء الزمن الصغيرة. وتحدثنا الأقاصيص عن عداء يوناني كان يسبق الأرنب، وعن آخر سابق جوادا من كرونيا إلى طيبة (حوالي عشرين ميلاً) وسبقه، وعن فيدبديس Pheidippides الذي جرى من أثينة إلى إسبارطة – 150 ميلاً – في يومين، ونقل إلى أثينة بشرى النصر في مرثون التي تبعد عنها أربعة وعشرين ميلا، ثم مات متأثراً بما عاناه من التعب. ولكن بلاد اليونان لم تكن فيها “مسابقات مرثونية.”

سباق الخيل..

وعن الخيل يواصل الكتاب: “وقد أنشأت أولمبيا في السهل الواقع في أسفل الملعب مضمارا لسباق الخيل خاصة. وكان للنساء والرجال على السواء أن يتقدموا بخيولهم إلى هذا السباق، وكانت الجائزة في ذلك الوقت تعطى لصاحب الجواد  كما هي الحال في وقتنا هذا  لا لراكبه، وإن كان الجواد في بعض الأحيان يجازى بأن يقام له تمثال، وكانت آخر المباريات هي مباراة المركبات، وكان يجر كل مركبة جوادان أو أربعة جياد تسير جنباً إلى جنب. وكثيراً ما كان يشترك في المباراة الواحدة عشر مركبات في كل منها أربعة جياد، وكان على كل مركبة أن تدور حول الأنصاب المقامة في الحلبة ثلاثاً وعشرين دورة في آخر السباق، ولذلك فإن حوادث خطيرة كانت تحدث وقتئذ، وكانت هذه الحوادث أهم ما يثير المشاعر في الألعاب. وقد حدث في سباق منها بدأ بأربعين مركبة أن لم تتمه إلا مركبة واحدة. وفي وسعنا أن نتصور اهتياج النظارة وجدلهم حول من يناصرون، وأسفهم وهم منفعلون حينما يطوف الظافرون آخر طواف لهم حول الأنصاب.

فإذا انتهت هذه المباريات المجهدة بعد خمسة أيام كاملة، نالوا جوائزهم، ولف كل منهم عصابة من الصوف حول رأسه، ثم وضع المحكمون على هذه العصارة إكليلاً من أوراق الزيتون البري وأغصانه، ونادى مناد أسماء الظافرين وأسماء مدنهم. وكان هذا الإكليل النباتي هو الجائزة الوحيدة التي تعطى في الألعاب الأولمبية، ولكنه مع ذلك كان الشرف الذي يبذل المتبارون في بلاد اليونان أقصى جهودهم ليظفروا به. وقد بلغ من أهمية هذه الألعاب وحرص اليونان عليها أن الغزو الفارسي نفسه لم يحل بينهم وبين إقامتها، فبينما كانت حفنة من اليونان تقف في وجه خشيارشاي في ترموبيلي كانت آلاف مؤلفة منهم تشهد كعادتها ثيجنيس الثاسوسي، في اليوم الذي دارت فيه المعركة، يظفر بإكليل ألعاب القوى المجتمعة.

وصاح جندي فارسي في وجه قائده يقول: “رباه! أي صنف من البشر أولئك الأقوام الذي أتيت بنا لنقاتلهم؟  إنهم رجال لا يقاتل بعضهم بعضا من أجل المال بل من أجل الشرف! “. وما من شك في أن هذا الجندي الفارسي، أو اليوناني الذي اخترع القصة، قد جاوز الحد في الثناء على اليونان بقوله هذا، وليس ذلك لأنه كان من واجبهم أن يكونوا في ذلك اليوم في ترموبيلي بدل أن يكونوا في أولمبيا فحسب، بل لهذا السبب ولغيره من الأسباب؛ ذلك أن الظافرين كانوا يحصلون على جوائز أخرى كبيرة من طريق غير مباشر.

وإن كانت الجائزة المباشرة التي ينالونها في الألعاب نفسها كانت قليلة لا تسمن ولا تعني من جوع. لقد كانت مدن كثيرة تمنح الظافرين جوائز مالية كبيرة بعد أن يعودوا من الألعاب الأولمبية، وكان بعضها يعينهم قوادا لجيوشه، وكانت الجماهير تقدسهم تقديساً يحسدهم عليه الفلاسفة ويشكون منه.

استئجار الشعراء..

ويضيف الكتاب: “وكان بعض الظافرين أو أنصارهم يستأجرون شعراء مثل سمنيدس أو بندار لينشئوا القصائد في مدحهم وتكريمهم، وكانت هذه الأشعار تغنيها جماعات من الغلمان في الموكب الذي يخرج لاستقبالهم، وكانت الأموال تدفع للمثالين ليخلدوا ذكراهم بالتماثيل البرونزية أو الحجرية، وكانوا في بعض الأحيان يطعمون بلا ثمن في ردهة المدينة. وفي وسعنا أن نقدر ما يتكلفه هذا الطعام إذا عرفنا من مصدر مشكوك في دقته  أن ميلو أكل عجلة بنت أربع سنوات، وأن ثيجنيس أكل ثوراً، في يوم واحد.

وكان القرن السادس هو العهد الذي بلغت فيه الألعاب الرياضية أعظم روعتها وتغلغل حبها في قلوب الشعب إلى أبعد حد. ففي عام 582 أنشأ الحلف الاثنا عشري الألعاب الفيثية في دلفي تكريماً لأبلو. وفي تلك السنة نفسها أنشئت ألعاب البرزخ في كورنثة تكريماً لبوسيدن، وبعد ست سنوات من ذلك الوقت أنشئت الألعاب النيمية تكريماً لزيوس النيمي، وأضحت هذه المواسم كلها أعياداً يحتفل بها اليونان على بكرة أبيهم. وقد نشأت منها ومن الألعاب الأولمبية دورة (Periodos)، وكان أعظم ما يطمع فيه اليوناني الرياضي أن ينال أكاليل فيها جميعاً. وقد أضيفت مباريات في الموسيقى والشعر إلى المباريات الجسمية في الألعاب الفيثية، والحق أن هذه المباريات الموسيقية كانت تقام في دلفي قبل إنشاء الألعاب الرياضية فيها بزمن طويل. وكان موضوع المباريات في بادئ الأمر أنشودة يخلد بها انتصار أبلو على الأفعى الدلفية؛ ثم أضيفت إليها في عام 582 مباريات في الغناء وفي العزف على القيثارة والنفخ في الناي موسيقية مثلها تقام في كورنثة، ونيميا، وديلوس، وغيرها من المدن؛ وذلك لأن اليونان كانوا يعتقدون أنهم يستطيعون بهذه المباريات العامة أن ينموا مقدرة العازفين وذوق الجماهير في وقت واحد. وكانوا يسيرون على هذا المبدأ نفسه في كل فن من الفنون تقريبا كصناعة الخزف، والشعر، والنحت، والتصوير، والغناء الجماعي، والخطابة، والتمثيل”.

الكمال الجسمي..

ويتابع الكتاب: “وبهذه الطريقة وغيرها من الطرق أصبح للألعاب أكبر الأثر في الفنون، والآداب، بل كان لها أيضاً أعمق الأثر في كتابة التاريخ نفسه؛ وذلك لأن أهم طريقة لحساب السنين في كتب التاريخ المتأخرة كانت هي التاريخ بالفترات الأولمبية، وكانت كل فترة تميز باسم الظافر في سباق الجري شوطاً واحداً. وكان الكمال الجسمي الذي بلغه الرياضيون البارعون في الألعاب جميعها في القرن السادس قبل الميلاد هو الذي أوحى إلى اليونان بالمثل الأعلى في نحت التماثيل، وهو المثل الذي بلغ غايته على يدي ميرون Meiron وبليكليتوس. وقد أتاحت ألعاب العراة في مضامير الألعاب وفي أثناء الأعياد للمثال فرصاً لدراسة جسم الإنسان في جميع أشكاله وأوضاعه، فأضحت الأمة هي نفسها نماذج لفنانيها على غير علم منها، وتعاونت الألعاب الرياضية اليونانية مع الدين اليوناني على إيجاد الفن اليوناني.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة