قصة الحضارة (218): ادخل الفينيقيون الكتابة لليونان في القرن 14 ق.م

قصة الحضارة (218): ادخل الفينيقيون الكتابة لليونان في القرن 14 ق.م

خاص: قراءة- سماح عادل

يستأنف الكتاب الحديث عن  تكوين الدولة في الحضارة اليونانية، وعن دخول الكتابة وتجميع لغة من لغات مختلفة. وذلك في الحلقة الثامنة عشر بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

فردية الدولة..

يحكي الكتاب عن الدولة وتكوينها في الحضارة اليونانية القديمة: “بلغت الثقافة الأوربية قمة مجدها في بلدين: اليونان القديمة وإيطاليا في عهد النهضة. ولم تكن تعتمد في كلا العهدين على نظام سياسي أكبر من دويلات المدن. ويغلب على الظن أن الأحوال الجغرافية قد أعانت بلاد اليونان على أن تصل إلى هذه النتيجة. ذلك أن الجبال ومجاري المياه تعترض السائل فيها أينما ذهب؛ وكانت القناطر فيها قليلة والطرق وعرة وغير معبدة.

نعم إن البحر كان طريقا عاما مفتح الأبواب، ولكنه كان يربط المدينة بأخواتها من المدن التجارية لا بما يجاورها من المدن. على أن الأحوال الجغرافية لا تفسر وحدها قيام دول المدن، فقد كان هناك من أسباب الانفصال بين طيبة وبلاتية القائمتين على نفس السهل البؤوتي بقدر ما كان بين طيبة وإسبارطة؛ وكان بين سيباريس وكروتونا القائمتين على نفس الساحل الإيطالي من دواعي الانفصال أكثر مما كان بين سيباريس وسرقوسة.

إن علينا أن نضم إلى العوامل الجغرافية عوامل أخرى كثيرة، فاختلاف المصالح الاقتصادية والسياسية باعد بين المدن وجعلها يحارب بعضها بعضاً للحصول على الأسواق أو الحبوب، أو تكون أحلافا متنافسة للسيطرة على المسالك البحرية”.

اختلاف أصول السكان..

وعن اختلاف أصول السكان وتاثيره علي الدولة: “ومن العوامل الأخرى التي ساعدت على هذا الانفصال اختلاف أصول السكان. نعم إن اليونان كانوا يرون أنهم كلهم من عنصر واحد، ولكنهم كانوا شديدي الإحساس باختلاف القبائل التي كانوا ينتمون إليها  الإيولية، والأيونية، والآخية، والدُّورية  ومن أجل ذلك كانت أثينة وإسبارطة تحقد كلتاهما على الأخرى حقدا لا يقل عن حقد العناصر المختلفة في هذه الأيام.

وقوى اختلاف الأديان الانقسامات السياسية، كما زادت هذه الانقسامات ما بين الأديان من اختلاف، فقد نشأ من الطقوس الدينية التي اختصت بها بعض الأماكن أو بعض القبائل أعياد خاصة، وتقاويم خاصة، وعادات، وشرائع، ومحاكم تختلف باختلاف المدن، بل إن هذه الطقوس قد أقامت في بعض الأحيان حدودا بين المدن وذلك لأن أحجار التخوم كانت فاصلا بين ممالك الإله، كما كانت فاصلاً بين المجتمعات البشرية، لأن من الواجب المحتوم أن يكون دين الإقليم هو دين حاكمه. وكانت هذه العوامل مجتمعة هي وعوامل أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هي التي أوجدت دول المدن اليونانية.

ولم يكن هذا طرازا جديدا من النظم الإدارية، فلقد رأينا أنه كانت في بلاد سومر، وبابل، وفينيقية، وكريت، دول مدن قبل هومر وبركليز بمئات السنين أو آلافها، وكانت دولة المدينة من وجهة النظر التاريخية هي بعينها مجتمع القرية في مرحلة من الامتزاج أو التطور أعلى من مرحلته القروية  كان لها سوقها المشتركة، ومكان اجتماعها، ومجلس قضائها للفصل في منازعات الأهلين الذين يحرثون ما يجاورها من أرض زراعية؛ وكان أهلها من أصل واحد يعبدون إلها واحدا”.

دولة المدينة..

ويفصل الكتاب عن دولة المدينة: “أما من الناحية السياسية فقد كانت دولة المدينة عند اليونان خير ما يستطيعون الوصول إليه من وسائل التوفيق بين العنصرين المتناقضين اللذين يتألف منهما المجتمع الإنساني، واللذين يتناوبان الغلبة عليه، ونقصد بهما عنصر النظام، وعنصر الحرية، فالمجتمع الصغير لا يأمن على نفسه من الاعتداء، والمجتمع الكبير يصبح مجتمعا استبداديا. وكانت أكبر أمنية للفلاسفة أن تتكون بلاد اليونان من دول  مدن مستقلة ذات سيادة تتعاون كلها داخل نظام فيثاغوري مؤتلف منسجم.

وكانت فكرة أرسطو عن الدولة أنها جماعة من الأحرار يخضعون لحكومة واحدة، ويستطيعون الالتقاء في جمعية واحدة، وكان يرى أن الدولة إذا زاد عدد مواطنيها على عشرة آلاف تعجز على إدارة شئونها. ومن أجل هذا كان لفظ واحد  بوليس Polis يطلق على المدينة والدولة في بلاد اليونان.

وما من أحد يجهل أن هذا التفتت السياسي قد جر على بلاد اليونان كثيرا من المآسي بسبب ما قام بين أهلها وهم إخوة من نزاع. فقد خضعت أيونيا لسيطرة الفرس لأنها عجزت عن أن تتحد للدفاع عن نفسها؛ وضاعت في آخر الأمر تلك الحرية التي كان اليونان يعتزون بها ويقدسونها، لأن بلاد اليونان لم تستطع الثبات متحدة في وجه أعدائها رغم ما أقامته من أحلاف وعصب”.

الفردية المدنية..

وعن شعور الفردية: “ولكننا نعود فنقول أنه لولا دول  المدن لما كانت بلاد اليونان، ولولا شعور اليونان بالفردية المدنية، واعتزازهم الشديد باستقلالهم، ولولا ما كان بين أنظمتهم وعاداتهم وفنونهم، وآلهتهم من تباين، لما كان ما بينهم من تسابق وتنافس حافزا لهم على أن يحيوا حياة إنسانية كاملة فيها من الحماسة والإبداع ما لا نظير له في أي مجتمع آخر. وهل في وقتنا الحاضر نفسه رغم ما فيه من حيوية وتنوع، وما يمتاز به من آلات ضخمة وقوى جبارة، مجتمع في حجم المجتمعات اليونانية أو في عدد سكانها يستطيع أن يهب المدينة من النعم قدر ما وهبتها حرية اليونان المضطربة التي كانت هي والفوضى سواء؟”.

الكتابة والقراءة ..

وعن الكتابة يواصل الكتاب: “على أنه كان في حياة هذه الدول، ذات النزعة الانفصالية القوية، عدة عوامل مشتركة، منها أننا نجد في شبه جزيرة اليونان كلها منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد لغة واحدة تنتمي إلى مجموعة اللغات “الهند- أوربية” التي تشمل الفارسية والسنكسريتية، والسلافونية، واللاتينية، والألمانية، والإنجليزية. وإنا لنجد لآلاف الكلمات التي تعبر عن العلاقات الأولية في حياة الناس، أو عن الأدوات التي كانوا يستخدمونها، أصولا مشتركة في هذه اللغات جميعها، وهي لا تدل فقط على قدم مسميات هذه الكلمات وانتشارها في البلاد التي تنطق بهذه اللغات، بل تدل كذلك على ما بين الشعوب التي كانت تستخدم هذه المسميات في فجر التاريخ من قرابة أو رابطة .

نعم إن اللغة اليونانية قد تشعبت لهجات مختلفة الإيولية، والدورية، والأيونية، والأتكية؛ ولكن الناطقين بهذه اللهجات المختلفة كان يفهم بعضهم بعضا، ثم خضعت كلها في القرنين الخامس والرابع إلى لهجة مشتركة koine dialektos  انبعث معظمها من أثينة، وكانت تنطق بها الطبقات المتعلمة كلها تقريبا في العالم اليوناني بأجمعه. وكانت اللغة اليونانية الأتكية لغة جزلة، قوية مرنة، حلوة النغم، فيها من الشذوذ مثل ما في أية لغة حية، ولكنها تقبل في يسر كل التراكيب التي تجعلها صالحة للتعبير عن أغراضها، وفيها التدرج والاختلاف الدقيق في المعاني، وفيها المدركات الفلسفية الدقيقة. وفيها جميع أنواع التعبيرات الأدبية السامية الرفيعة من شعر هومر الطنان الرنان إلى نثر أفلاطون الهادئ الواضح السلس .”

معرفة الكتابة..

وعن بداية التعرف علي الكتابة في الحضارة اليونانية: “وتعزو الرواية اليونانية المتواترة إدخال الكتابة في بلاد اليونان إلى الفينيقيين في خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وليس لدينا ما ينقض هذه الرواية، بل إن بين الكتابات اليونانية التي ترجع إلى القرنين الثامن والسابع وبين الحروف المنقوشة على حجر مؤاب في القرن التاسع تشابها كبيرا. من ذلك أن النقوش اليونانية كتبت على الطريقة السامية من اليمين إلى اليسار؛ وفي القرن السادس كانت كالنقش الذي وجد في جورتينا تنقش من اليمين إلى اليسار في أحد السطور ثم من اليسار إلى اليمين على الدوام، واستلزم هذا قلب وضع الحروف كذلك سميت الحروف بأسمائها السامية مع تعديلات طفيفة، ولكن اليونان أدخلوا على هذه الأسماء تغيرات أساسية، أهمها أنهم أضافوا إليها حروفا للحركة لا نجدها عند الساميين، فاستخدموا بعض الحروف السامية الساكنة، وحروف التنفس لتمثيل الحركات التي تدل عليها u,o,i,e,a وأضاف الأيونيون فيما بعد حروف المد إيتا eta e الممدوة، أومجا o-mega  لتمثل o الممدوة أو o المزدوجة).

وأخذت عشر أبجديات يونانية مختلفة ينازع بعضها بعضا، فكان هذا النزاع جزءا من الحروب القائمة بين دول المدن وتغلبت الحروف الهجائية الأيونية في بلاد اليونان ثم انتقلت منها إلى أوربا الشرقية وبقيت فيها إلى اليوم، أما رومة فقد اتخذت الحروف الكلسيدية من كومي وهي التي أصبحت الحروف اللاتينية والحروف الإنجليزية. وكانت الأبجدية الكلسيدية ينقصها حرف الـ e والـ o الممدودان، ولكنها فعلت ما لم تفعله الأبجدية الأيونية فاستبقت vau الفينيقية حرفا ساكنا (وهي الـ v التي يقرب نطقها من نطق حرف w)؛ ومن أجل هذا كان الأثينيون يسمون النبيذ oinos والكلسيديون يسمونه voinos والرومان يسمونه vinum والإنجليزية يسمونه wine. كذلك استبقى الكلسيديون حرف koppa أو q وانتقل منهم إلى رومة ثم إلى اللغة الإنجليزية؛ أما أيونيا فقد أهملته واكتفت بحرف k وكتبت أيونيا حرف l بهذه الصورة A، أما كلسيز فقد كتبته l؛ وعدلت رومه هذه الصورة الثانية فجعلتها معتدلة، وانتقلت منها على هذا النحو إلى أوربا؛ وكتب الأيونيون حرف R كما نكتب نحن حرف P ؛ أما إيطاليا اليونانية فقد أضافت إلى P فأصبحت R”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة