خاص: قراءة- سماح عادل
يستأنف الكتاب الحديث عن الخرافات في الحضارة اليونانية، وعن الاعتقاد بوجود ارواح غريبة ووجود عفاريت والقدرة علي انزال النقمة بالناس. وذلك في الحلقة الرابعة عشر بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الخرافات..
انتقل الكتاب إلي الحكي عن الخرافات في الحضارة اليونانية: “وكان بين قطبي الدين اليوناني العلوي والسفلي، الأولمبي والأرضي، بحر يزخر بالسحر والخرافات، والأباطيل وكان من وراء العباقرة الذين سنشيد بذكرهم فيما يلي من صحائف هذا الكتاب، كما كان من ورائهم، جمهرة الشعب من الفقراء والسذج الذين لم يكن الدين في نظرهم إلا شراكا من الخوف لا سلما للآمال؛ ولم يكن اليوناني العادي يكتفي بتصديق القصص التي تروي المعجزات كصعود منسيوس من بين الموتى ليحارب في مرثون، أو تحويل الماء إلى خمر على يد ديونيسس، ذلك أن أمثال هاتين القصتين تظهر عند جميع الشعوب، وهي جزء من الشعر المباح الذي ينير به الخيال الحياة العادية.
بل إن في وسع الإنسان أن يذهب إلى أبعد من هذا فيتغاضى عن حرص أثينة على أن تأوي فيها عظام ثسيوس، وحرص إسبارطة على أن تسترد من تيجيا عظام أرستيز ، فقد يكون ما يعزوه الحكام لهذه الآثار من قدرة على فعل المعجزات جزءا من فن الحكم وأساليبه. أما الذي كان يثقل على اليوناني الصالح فهو الأرواح المحتشدة من حوله التي يعتقد أنها متأهبة على الدوام لأن تعرف مخبآتها، وأن تتدخل في شؤونه وتلحق به الأذى، وأن في مقدورها أن تفعل به هذا كله. وكانت هذه الشياطين لا تنفك تعمل لأن تتقمصه، وكان عليه أن يحذرها ويتقي أذاها على الدوام، وأن يقيم الاحتفالات السحرية ليطردها بها”.
روح غريبة..
وعن فكرة الأرواح الغريبة: “وأوشكت هذه الخرافات أن تكون علما من العلوم الطبيعية، وكانت إلى حد ما سوابق لنظرية الجراثيم التي نعرفها اليوم. فقد كان معنى الأمراض جميعها عند اليوناني أن المريض قد حل فيه روح غريب، وأن من يلمس الشخص المريض يعدى بقذارته أو “يلبسه ذلك الروح الغريب نفسه”. وليست المكروبات والبكتريا إلا صورا جديدة شائعة لما كان اليونان يسمونه كريس أو الجن الصغيرة. ومن ثم كان الميت “نجسا” لأن الجني قد استحوذ عليه كل الاستحواذ؛ وكان اليوناني إذا خرج من بيت فيه ميت رش نفسه بالماء من إناء يوضع لهذا الغرض عند باب البيت، وذلك لكي يطرد من جسمه الروح الذي غلب الميت على أمره.
وقد امتدت هذه الفكرة عند اليونان إلى ميادين كثيرة لم يمتد إليها علمنا الحديث رغم ما ينتابنا من رهبة البكتريا وجزعنا منها. وكان الجماع من أسباب النجاسة، كولادة الطفل أو القتل ولو كان غير متعمد، وكان الطفل المولود نفسه نجسا. ولم يكن الجنون إلا حلول روح غريب في جسم المصاب بهِ، وكان يقال إن الجنون قد “خرج عن نفسه”، وكان لا بد في هذه الحالات من القيام باحتفال يطهر فيه الشخص النجس”.
التطهير بالماء..
وكانوا يستعينون بالماء ضد الأرواح: “وكانت المنازل، والهياكل، والمدن بأجمعها في بعض الأحيان؛ تطهر بالماء أو الدخان كما نطهرها نحن الآن، وكان وعاء به ماء نظيف يوضع عند مدخل كل هيكل، حتى يطهر به نفسه كل قادم للتعبد، أو لعل هذا الوعاء كان رمزا يوحي إلى الناس بضرورة التطهر. وكان الكاهن نفسه خبيرا بأصول التطهير، وكان في مقدوره أن يطرد الأرواح الشريرة من الأجسام بالضرب على إناء من البرونز، أو بقراءة العزائم، أو بالسحر أو الصلاة.
وحتى قاتل النفس عمد كان يمكن تطهيره إذا أجريت له الطقوس والمراسم الملائمة. ولم تكن التوبة ضرورة محتومة في مثل هذه الأحوال، بل كل ما كان يحتاجه المتطهر هو أن يتخلص من الشيطان الشرير الذي تقمصه؛ وذلك لأن الدين لم يكن أمر أخلاق بقدر ما كان فنا لمعالجة أمور الأرواح. غير أن كثرة المحرمات ومراسم التطهير قد أكسبت اليوناني المتدين مزاجا عقليا يشبه شبها عجيبا الشعور بالخطيئة عند طائفة المتطهرين المتزمتين البيورتان من الإنجليز. وإن القول بأن اليونان كانوا مجردين من فكرتي الضمير والخطيئة لا يكاد يبقى له أثر عند من يقرأ كتب بندارا وإسكلس وقد نشأت من اعتقاد اليونان بأنهم يعيشون في جو من الأرواح مئات من الخرافات لخصها ثيوفراستوس خليفة أرسو في جزء من كتابه الأخلاق فقال:
“يبدو أن الإيمان بالخرافات ضرب من الجبن وخور العزيمة أمام القوة الإلهية. إن الرجل المخرف لا يعرف من داره أول النهار إلا بعد أن يغسل يديه ويرش نفسه بالماء من العيون التسع، ويضع في فمه قطعة من ورقة شجرة في معبد، فإذا ما اعترضت طريقه قطة لم يواصل السير حتى يمر به إنسان آخر، أو يقذف بثلاثة أحجار في الشارع. وإذا أبصر أفعى في بيته وكانت من النوع الأحمر استنجد بديونيسس، أما إذا كانت أفعى مقدسة فإنه يقيم لها ضريحا من فوره في البقعة التي أبصرها فيها.
وإذا مر بأحد الحجارة الملساء المقامة في مفترق الطرق صب عليه الزيت من قنينة ولم يواصل السير في طريقه إلا بعد أن ركع له ويتعبد، وإذا قرض فأر جعبة طعامه، توجه إلى الساحر وسأله ماذا يفعل، فإذا أشار عليه بأن “يرسل الجعبة إلى الإسكافي ليرقعها”، عمل بهذه النصيحة، وتخلص من النذير المشئوم بطقوس تمنع عنه الشر المرتقب. وإذا وقعت عينه على رجل مصاب بالجنون أو بالصرع، ارتجف وبصق على صدرهِ”.
العفاريت..
وعن إيمانهم بالعفاريت: “وكان اليونان السذج يؤمنون، ويعلمون أطفالهم أن يؤمنوا، بأنواع لا حصر لها من العفاريت. وكانت مدن بأكملها تروع بين الفينة والفينة بما تنذر به أحداث غريبة كمولد حيوانات مشوهة أو أناس مشوهين. وكان الاعتقاد بوجود أيام مشئومة منتشرا إلى درجة تجعل من المؤمنين بهذه العقيدة لا يقدمون في هذه الأيام على زواج ولا يعقدون فيها جمعية. ولا تجتمع فيها محكمة، ولا يبدءون فيها مشروعاً خطيراً. وكانت عطسة، أو عثرة قدم، تكفي في بعض الأحيان لحمل العاطس أو العاثر على العدول عن سفره أو عمل هام، وكان خسوف جزئي يكفي لوقف زحف الجيوش أو ردها على أعقابها، وقد يؤدي إلى ختام الحرب بكارثة مدلهمة”.
انزال النقمة..
وعن الحاق الأذى: “يضاف إلى هذا الاعتقاد بأن بعض الناس قد وهبوا قدرة عجيبة على إنزال النقمة ممن يشاءون، فالأب إذا أغضب قد يصب على من أغضبه، والسائل إذا أهمل قد يُصب على مَن أهمله، لعنة لا تقوم لها بعدها قائمة. وكان بعض الناس مهرة في فنون السحر، فكان في وسعهم أن يمزجوا شراباً للعشق أو دواء مقوياً للباه، وكان في وسعهم أن يضعفوا ببعض العقاقير السرية قدرة الرجل على الجماع أو يعقموا المرأة فلا تحمل أبداً. وقد رأى أفلاطون أن شرائعه لا تكمل إلا إذا تضمنت تشريعاً يعاقب من يؤذي الناس أو يقتلهم بسحرهِ. فليست الساحرات إذن من اختراع العصور الوسطى، فها هي ذي ميديا في روايات يوربديز، وسميثا في روايات ثيوكريتس وهما ساحرتان. وقصارى القول أن الخرافات من أقوى الظواهر الاجتماعية، وأنها بقيت في خلال أحقاب المدنية لا تكاد تتغير في قواعدها وأصولها ولا في صورها وأشكالها”.