خاص: قراءة- سماح عادل
يستأنف الكتاب الحديث عن أسرار الدين في الحضارة اليونانية وعن الطقوس والعبادات والهياكل. وذلك في الحلقة الثالثة عشر بعد المائتين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
علم اللاهوت..
يواصل الكتاب الحكي عن الدين في الحضارة اليونانية القديمة: “ويقول علم اللاهوت الأرفي إن الروح تذهب بعد الموت إلى الجحيم حيث يحاسبها آلهة العالم السفلي على أعمالها، وكانت الترانيم والطقوس الأرفية ترشد المؤمنين إلى ما يجب أن يتبعوه من هذا الحساب النهائي الشامل، شأنها في هذا شأن كتاب الموتى عند قدماء المصريين.
فإذا حكم على الميت بأنه مذنب عوقب عقابا شديدا. فمن قول إن هذا العقاب أبدي وهو الذي أخذت منه فكرة النار فيما بعد وهناك فكرة أخرى تقول بالتناسخ أي أن الروح تولد مرة بعد مرة لتحيا حياة أسعد من حياتها الأولى أو أشقى منها حسب طهارتها الأولى أو عدم طهارتها، ويتكرر هذا المولد مرة بعد مرة حتى تتطهر الروح من ذنوبها تطهرا تاما فيسمح لها بالدخول في جزائر المنعمين.
وهناك قول ثالث يبعث الأمل في قلوب الموتى وخلاصته أن العقاب الذي يلقاه الميت في الجحيم قد ينتهي إذا كفر الإنسان عن ذنبه قبل موته أو كفر عنه أصدقاؤه بعد موته، وبهذه الطريقة نشأت عقيد التطهير وصكوك الغفران؛ ويصف أفلاطون وهو مغضب غضبا لا يكاد يقل عن غضب لوثر بيع هذه الصكوك في أثينة في القرن الرابع قبل الميلاد فيقول:
“يقرع المتنبئون المتسولون أبواب الأغنياء ويدخلون في روعهم أنهم قد وهبوا القدرة على أن يكفروا لهم خطاياهم أو خطايا آبائهم بضروب من التضحية والرقَي. ثم يخرجون من حقائبهم مجموعة ضخمة من الكتب بخط موسيوس أو أرفيوس. يمارسون منها طقوسهم، ويقنعون الأفراد ومدنا بأكملها أن التوبة من الذنوب والتكفير عنها يتمان بتقريب القرابين والقيام بضروب التسلية والاحتفالات التي يشغلون بها ساعات الفراغ، والتي يتقدمون بها إلى الأحياء وإلى الموتى على السواء، وهم يسمون العمل الأخير “الاحتفالات” طقوسا خفية، ويدعون إنها تنجينا من عذاب النار، فإذا أغفلناها فلا يعلم أحد ماذا يصيبنا من عذاب”.
رهبنة..
وعن بدايات الرهبة: “على أن الأرفية كان فيها بالرغم من هذا اتجاهات مثالية هي التي أدت إلى الفلسفة الأخلاقية والرهبنة في المسيحية. ذلك أن ما كان يعزى إلى آلهة أولمبس من انحلال خلقي واستهتار قد حل محله قانون صارم للسلوك؛ وثُلَ عرش زيوس الجبار شيئا فشيئا وحلت محله شخصية أرفيوس الظريفة بنفس الطريقة التي ثل بها عرش يهوه ليحل محله المسيح فيما بعد.
ودخلت في التفكير اليوناني فكرة الخطيئة والضمير والنظرة الثنائية إلى الجسم والروح، التي تقول إن الجسم خبيث وإن الروح مقدس، وصار إخضاع الجسم أهم أغراض الدين كما صار شرطا لخلاص الروح. ولم يكن لطائفة الإخوان الأرفيين نظام ديني أو حياة خاصة بمعزل عن حياة الناس، وكل ما كان يميزهم عن غيرهم ثيابهم البيضاء وامتناعهم عن أكل اللحم، وتقشفهم إلى درجة لم تكن مما يتفق عادة مع الحياة اليونانية، كانوا يمثلون في اليونان إصلاحا كإصلاح المتطهرين من عدة وجوه.
وكان لهذه الطائفة أثر بعيد طويل؛ ولعل الفيثاغوريين قد أخذوا منها طعامهم ولباسهم ونظريتهم في تقمص الأرواح. ومما هو جدير بالذكر أن أقدم ما لدينا من الوثائق الأرفية قد وجدت في جنوبي إيطاليا. وكان أفلاطون يعتقد بنظريتها في تعارض الجسم والروح، وبنزعتها التزمتية، وبأملها في الخلود، وفي وسعنا أن نرجع بعض ما في الرواقية من زهد ومن وحدة الله والكون إلى أصل أرفي.
الكتابات الأرفية..
ويضيف الكتاب: “وقد كان في حوزة رجال الأفلاطونية الجديدة بالإسكندرية مجموعة كبيرة من الكتابات الأرفية اتخذوها أساسا للاهوتهم وطقوسهم وتصوفهم. كذلك أثرت فكرة النار والمطهر والجنة، وتعارض الجسم والروح، والابن المقدس الذي قتل ثم ولد من جديد، والعشاء الرباني وهو أكل جسم الإله ودمه وقدسيته، أثرت هذه كلها من قرب أو من بعد في المسيحية التي كانت هي نفسها دينا ذا طقوس ومراسم خفية، فيها الكفارة والأمل والوحدة التصوفية وتحرر الروح، ولا تزال الأفكار والعبادات التي تشتمل عليها الديانة الأرفية منتشرة بيننا في هذه الأيام.
العبادات..
وعن الطقوس والعبادات يكمل الكتاب: “لم تكن الطقوس الدينية اليونانية أقل تنوعا واختلافا من الآلهة التي كانت تحتفل بها وتعظمها: فقد كان للآلهة الأرضية طقوس حزينة يسكن بها غضبها ويتقى شرها، وكان للآلهة الأولمبية طقوس سارة كلها ترحيب بها وثناء عليها. ولم تكن هذه أو تلك تحتاج إلى كهنة يقومون بها. فقد كان الأب يقوم مكان الكاهن في الأسرة، وكان الحاكم الأكبر يقوم مقامه في الدولة.
بيد أن الحياة في بلاد اليونان لم تكن حياة دنيوية كما يصفها المؤرخون، بل كان للدين فيها شأن كبير في كل مكان، وكانت كل حكومة ترعى الطقوس الدينية الرسمية وترى أنها لا بد منها للنظام الاجتماعي والاستقرار السياسي. على أنه بينما كان الكهنة في مصر وبلاد الشرق الأدنى يسيطرون على الدولة، كانت الدولة في بلاد اليونان هي التي تسيطر على الكهنة، وكان لها الزعامة في الشؤون الدينية، ولم يكن الكهنة سوى موظفين صغار في الهياكل.
كذلك كانت أملاك الكهنة، عقارا كانت أو نقودا أو عبيدا، يراجعها ويدير شؤونها موظفون من قبل الدولة. ولم تكن هناك معاهد لتخريج الكهنة بل كان في استطاعة أي إنسان أن يختار أو يعين كاهنا بلا جلبة أو مشقة إذا كان يعرف المراسم الدينية التي تتطلبها الآلهة، وكان هذا المنصب في كثير من الأحيان يتولاه من يؤدي له أكبر الأثمان. ولم تكن هناك طبقة كهان خاصة، أو هيئه لهم جامعة، ولم يكن بين كهنة أحد المعابد أو إحدى الدول وزملائهم في معبد آخر أو دولة أخرى رابطة ما؛ ولم يكن للدولة دين رسمي، يستمسك به جميع أفرادها أو عقائد ثابتة مقررة”.
الهيكل..
وعن الهيكل يتابع الكتاب: “ولم يكن قوام الدين هو الإقرار بعقائد معينة؛ بل كان قوامه الاشتراك في الطقوس الرسمية، وكان في وسع أي إنسان أن يؤمن بما يشاء من العقائد على شريطة ألا يكفر بآلهة المدينة أو يسبها، وملاك القول أن الدين والدولة كانا شيئا واحدا في بلاد اليونان.
أما مكان العبادة فيمكن أن يكون هو موقد الدار، أو موقد البلدية القائم في قاعة المدينة العامة، ويمكن أن يكون شقا في الأرض يسكنه إله أرضي أو هيكلا لإله أولمبي. وكان حرم الهيكل مكانا مقدسا، لا يعتدى عليه، يجتمع فيه العابدون، ويجد فيه اللاجئون مكانا أمينا يحتمون فيه ولو كانوا ممن ارتكبوا أشنع الجرائم.
ولم يكن الهيكل مكانا لاجتماع المصلين بل كان بيت الإله، ينصب فيه تمثاله، ويوقد أمامه ضوء لا ينطفئ أبدا وكثيرا ما كان الناس يعتقدون أن الإله هو التمثال نفسه ولذلك كانوا يعنون بغسله، وكسوته، وإحاطته بكثير من ضروب الرعاية، وكانوا أحيانا يؤنبونه إذا أهمل أمرهم، وكانوا يقصون على من يستمع إليهم كيف تصبب التمثال عرقا في بعض الأحايين أو كيف بكى أو أغمض عينيه. وكان يحفظ في سجلات الهيكل تاريخ أعياد الإله والحوادث الهامة في حياة المدينة أو الجماعة التي تعبد الإله صاحب الهيكل، وكان هذا التاريخ أو التواريخ اليونانية والمنبع الذي استمدت منه أولى أشكال الكتابات التاريخية”.
الاحتفال..
وكان الاحتفال يتألف من موكب، وأناشيد، وقربان؛ وأدعية، يضاف إليها في بعض الأحيان وجبة مقدسة؛ وقد يشمل الموكب سحرا، ومقنعات، وجماهير من الممثلين يعملون مجتمعين، ومسرحية تمثيلية. وكان أهم أجزاء الطقوس في معظم الأحيان تحددها العادات المألوفة؛ وكانت كل حركة فيها، وكل كلمة في الترانيم أو الصلوات، مدونة في كتاب محفوظ عند الأسرة أو الدولة مقدس لديها، لا يكاد يتغير فيه لفظ، أو جزء من لفظ، أو نغمة من النغمات خشية ألا يحب الإله هذه البدعة أو ألا يفهمها. فقد تتغير اللهجات الحية ولكن لغة الطقوس تظل على حالها، وقد لا يستطيع المتعبدون على مر الزمان أن يفهموا الألفاظ التي ينطقون بها ولكن النشوة التي يبعثها فيهم قدم العهد كانت تغنيهم عن الفهم.
وكثيرا ما كان الاحتفال يبقى بعد أن ينمحي من ذاكرة المحتفلين كل شيء عنه، ولا يبقى فيها حتى سبب هذا الاحتفال أو الباعث عليه. فإذا حدث هذا اخترعت أساطير جديدة تفسر قيامه فتتغير الأسطورة أو العقيدة وتبقى المراسم والطقوس”.