قصة الحضارة (197):  استمر “بيسستراتس” في إصلاح أثينة ودعم الفقراء

قصة الحضارة (197):  استمر “بيسستراتس” في إصلاح أثينة ودعم الفقراء

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن حكم “بيسستراتس” في أثينة. الذي استمر في مناصرة الفقراء، لكنه اتخذ الديكتاتورية وسيلة للحكم .وذلك في الحلقة السابعة والتسعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

دكتاتورية بيسستراتس..

يستنأنف الكتاب الحكي بعد مغادرة صولون: “لما غادر صولون أثينة عادت الجماعات المتنازعة التي سيطر عليها مدى جيل كامل إلى ما كانت عليه من دسائس ومشاحنات سياسية متأصلة في طبيعتها. وكان فيها، ثلاثة أحزاب تسعى جاهدة ليكون منها صاحب السلطان الأقوى: “الشاطئ” ويتزعمه تجار الثغور الذين يميلون إلى صولون؛ و “السهل” ويتزعمه ملاك الأراضي الذين يكرهون صولون؛ و “الجبل” ويتألف من خليط من الفلاحين وعمال المدن، وكانوا ما يزالون يطالبون بإعادة توزيع الأراضي.

ورضي بيسستراتس، كما رضي بركليز بعد مائة عام من ذلك الوقت، أن يتزعم حزب العامة، وإن كان هو من الأشراف مولدا، وثروة، وأخلاقا، وميولا. وكشف في إحدى جلسات الجمعية عن جرح قال إنه أصابه به أعداء الشعب، وطلب أن يعين له حرس خاص؛ واحتج صولون على هذا الطلب، لأنه كان يعرف ما عليهِ قريبه من دهاء، وظن أن الجرح قد أحدثه هو في جسمه، وأن الحرس الخاص سيمهد السبيل إلى الدكتاتورية، وقال محذرا الأثينيين: “يا رجال أثينة! إني أكثر من بعضكم حكمة، وأكثر من البعض الآخر شجاعة: أكثر حكمة ممن لا يدركون غدر بيسستراتس، وأكثر شجاعة ممن يدركونها ولكنهم لخوفهم يسكتون عنها”. ولكن الجمعية رغم هذا التحذير وافقت على أن يكون له حرس مؤلف من خمسين رجلا، غير أن بيسستراتس لم يكتف بخمسين بل جمع أربعمائة، واستولى على الأكروبول، وأعلن نفسه حاكما بأمره. ونشر صولون على الأثينيين رأيه فيهم فقال إن “كل واحد منكم يمشي وهو منفرد بخطى الثعلب فإذا اجتمعتم كنتم إوزا”، ثم وضع أسلحته ودرعه في باب بيته إشارة إلى أنه لم يعد يهتم بالسياسة، وخص أيامه الباقية بقرض الشعر”.

اتحاد أصحاب المال..

وعن تجمع الأغنياء واتفاقهم: “واتحدت قوات أصحاب المال من حزبي الشاطئ والسهل زمنا ما، وطردت الطاغية من البلاد، ولكن بيسستراتس اصطلح مع حزب الشاطئ سرا، وعاد إلى أثينة في ظروف يلوح أنها تؤيد رأي صولون في عقلية الجماعة. وأكبر الظن أن حزب الشاطئ قد غض الطرف عن هذه العودة. وأقبلت امرأة طويلة حسناء مدرعة بدرع أثينا إلهة المدينة وعليها ثيابها، تجلس في مركبة جلسة العظماء والكبرياء، وتقود جيش بيسستراتس إلى المدينة، بينما كان المبشرون ينادون أن ربة المدينة وحاميتها أخذت تعيد إليه بنفسها سلطته.

ويقول هيرودوت في هذا: “ولم يكن لدى أهل المدينة أقل شك في أن هذه المرأة هي الإلهة نفسها، فخروا سجدا أمامها، ورضوا بعودة بيسستراتس”. وانقلب زعماء الشاطئ عليه مرة أخرى، وأخرجوه من المدينة مرة ثانية، ولكنه عاد إليها من جديد في عام 546، وهزم الجنود الذين سيروا لقتاله وبقي في هذه المرة حاكماً بأمره تسعة عشر عاما، كادت سياسته وخططه الحكيمة في خلالها أن تكفر عن الأساليب الروائية غير الشريفة التي استولى بها على أزمة الحكم”.

أخلاق بيسستراتس..

ويواصل الكتاب عن أخلاق الحكام الجديد: “وكانت أخلاق بيسستراتس مزيجا نادرا من الثقافة، وقوة العقل، ومن الكفاية الإدارية، والجاذبية الشخصية. وكان في وسعه أن يقاتل دون أن تأخذه بأعدائه رحمة، وأن يعفو عنهم دون ما تردد؛ وكان في مقدوره أن يعيش في أكثر التيارات الفكرية تقدما في أيامه، وأن يحكم دون أن يتأثر بما يتأثر به الرجل المفكر من تردد في الهدف وإحجام عن البت في الأمور. وكان دمث الأخلاق، رحيما في أحكامه، كريما في معاملته جميع الناس. ويقول فيه أرسطاطاليس: “وكان حكمه معتدلا وسار فيه سيرة السياسي لا سيرة الرجل الظالم الشديد”. ولم ينتقم إلا من عدد قليل من أعدائه الجدد؛ ولكنه نفى من البلاد من لم يستطيع استرضاءهم من معارضيه، وقسم ضياعهم على الفقراء.

وأصلح الجيش، وأنشأ الأسطول، ليصد بهما الاعتداء من خارج البلاد؛ وجعل أثينة بمنجاة من الحرب، ونشر في المدينة التي لم تخرج من غمار المنازعات الطائفية إلا من عهد قريب لواء الأمن والنظام والرضا والطمأنينة، حتى أصبح من الأقوال التي تألف الأذن سماعها أنه أعاد إليها عصر كرونوس الذهبي.

وأدهش الناس كلهم باحتفاظه بدستور صولون وعدم إدخاله شيئا على تفاصيله إلا القليل الذي لا يستحق الذكر. ذلك أنه كان يعرف، كما عرف أغسطس من بعده، كيف يزين الدكتاتورية ويؤيدها بالمنح والأشكال الديمقراطية. لقد ظل الأركونون يختارون كما كانوا يختارون من قبل، وظلت الجمعية، والمحاكم الشعبية، ومجلس الأربعمائة، ومجلس شيوخ الأريوبجوس يجتمع وتقوم بواجباتها كما كانت تفعل قبل أيامه، وكل ما جد أن اقتراحات بيسستراس كانت تلقى فيها كلها أذنا واعية.

ولما أن اتهمه أحد المواطنين بالقتل مَثل أمام مجلس الشيوخ وعرض عليه أن يتقدم للمحاكمة، فما كان من الشاكي إلا أن قرر أنه لا يستمسك بالتهمة. ورضي الناس بحكمهِ على مر السنين، وكان أكثرهم رضا أقلهم ثراء، وما لبثوا أن تفاخروا بهِ، وفي آخر الأمر أحبوه وأولعوا بهِ، وأكبر الظن أن أثينة كانت بعد صولون في حاجة إلى رجل مثل بيسستراتس أوتي من الشدة ما يستطيع به أن يستبدل بما كان في الحياة الأثينية من اضطراب نظاما واستقرارا، وأن يعود الناس بالإكراه في بادئ الأمر عادات النظام وطاعة القانون، وهما للمجتمع البشري كالهيكل العظمي للحيوان يكسبانه الشكل والقوة وإن لم يكسباه الحياة المبدعة الخلاقة. ولما زالت الدكتاتورية بعد جيل من ذلك الوقت، بقيت عادات النظام، وبقي معها الإطار الخارجي لدستور صولون، لترثهما الديمقراطية. فكأن بيسستراتس لم يأتِ ليمحو القانون بل ليوطد أركانه، وربما كان قد فعل ذلك على غير علم منه”.

تحرير الشعب..

وعن ما فعله الحاكم الجديد بالاقتصاد يضيف الكتاب: “أما خططه الاقتصادية فقد واصل بها تحرير الشعب، وهو التحرير الذي بدأه صولون. وقد حل المشكلة الزراعية بأن وزع على الفقراء ما كانت تمتلكه الدولة من الأراضي، وما كان يمتلكه منها الأشراف الذين نفوا من البلاد، وهكذا استقر في الأرض الزراعية آلاف من الأثينيين الذين كانت بطالتهم خطرا على البلاد، وظلت أتكا بعدئذ قرونا طوالا لا نسمع فيها عن تذمر بين الزراع. وأوجد عملا للمحتاجين فيما شرع فيه من منشآت متسعة النطاق، فقد أنشأ سلسلة من المجاري لنقل ماء الشرب إلى المدينة، ومن الطرق المعبدة، وشاد هياكل عظيمة للآلهة، وشجع استخراج الفضة من مناجم لوريوم.

وسك للبلاد عملة جديدة خاصة بها. وجاء بالمال اللازم لهذهِ الأعمال بأن فرض ضريبة قدرها عشرة في المائة على جميع المحصولات الزراعية، ويبدو أنه خفض هذهِ الضريبة فيما بعد إلى خمسة في المائة. ووضع مشروعا لإقامة مستعمرات في النقط الحربية الهامة على الدردنيل، وعقد معاهدات تجارية مع كثير من الدول. وراجت التجارة في أيامه رواجا عظيما، وازدادت الثروة، ولم تكن زيادتها بين عدد قليل من الناس بل شملت الأهلين بوجه عام؛ فقد أصبح الفقراء أقل فقرا؛ ولم يعد الأغنياء أقل غنى؛ عما كانوا؛ وامتنع تركيز الثروة الذي كاد يقذف بالمدينة في أتون الحرب الأهلية؛ وانتشر الرخاء وسنحت له الفرص فوضعت بذلك الأسس الاقتصادية للديمقراطية الأثينية”.

نهوض أثينة..

وعن النهوض بشكل عام في أثينة: “وتبدلت أحوال أثينة جسما وعقلا في أيام بيسستراتس وولده فقد كانت إلى ما قبل أيامهما بلدة في المرتبة الثانية بين بلاد العالم اليوناني، تسبقها ميليتس وإفسوس، ومتليني، وسرقوسة، في الثروة والثقافة، والحيوية والنتاج العقلي. أما في أيامهما فقد قامت فيها أبنية من الحجر والرخام شاهدة بما كانت فيه وقتئذ من بهجة ونعيم، وزين معبد أثينة القديم القائم على الأكروبول بأن ضم إليه رواق دوري الطراز، وبدئ العمل في هيكل زيوس الأولمبي الذي تزين أعمدته الكورنثية الفخمة، حتى وهي محطمة، الطريق الممتد بين أثينة ومرفئها. وأقام الألعاب الأثينية الجامعة، وخلع عليها الصبغة اليونانية العامة، فأولى المدينة بذلك شرفا عظيما، فضلا عما بعثه فيها من النشاط رؤيتها وجوها أجنبية، ومباريات وأساليب غير أساليبها، وفي أيامه أصبح عيد أثينة الجامع عيدا قوميا عاما للشعب اليوناني كله.

وما يزال موكبه العظيم يتحرك أمامنا على إفريز البارثنون. وقد أقبل على بلاطهِ، بفضل منشآته العامة وحياته الخاصة، المثالون، والمهندسون، والشعراء، وجمع في قصرهِ مكتبة من أولى المكتبات التي أنشئت في بلاد اليونان. وقد عين لجنة أعطت للإلياذة والأوديسة الصورتين اللتين نعرفهما بهما الآن”.

المسرح الأثيني..

وعن النهوض بالفن المسرحي: “وبفضل إدارته الرشيدة وتشجيعه العظيم ارتقى تسبيس وغيره من الكتاب بالتمثيل من تقليد هزلي ساخر إلى عمل فني قابل لأن يصل إلى ذروة الكمال في العهد الثلاثي العظيم من عهود المسرح الأثيني.

ولم يكن “استبداد” بيسستراتس إلا جزءا من حركة عامة في المدن التجارية النشيطة التي كانت قائمة في بلاد اليونان في القرن السادس، والتي كانت تسعى لكي تستبدل بالحكم الإقطاعي على أيدي الملاك الأشراف السلطان السياسي للطبقة الوسطى المتحالفة مؤقتا مع الطبقات الفقيرة . وكانت أهم الظروف التي مهدت لهذه     الدكتاتوريات هي تركيز الثروة في أيد قليلة تركيزا وخيم العاقبة، وعجز الأغنياء عن الاتفاق على وسيلة للتوفيق بينهم وبين غيرهم من الطبقات.

وإذ لم يكن للفقراء بد من أن يختاروا بين المال والحرية السياسية، فإنهم كالأغنياء سواء بسواء يؤثرون المال على الحرية، والحرية السياسية التي تستطيع البقاء وهي التي تشذب بحيث تمنع الأغنياء أن يستخدموا ما عندهم من مقدرة أو دهاء في تجريد الفقراء مما عندهم، وتمنع الفقراء أن ينهبوا الأغنياء بعنفهم أو بأصواتهم. ومن ثم كانت السبيل إلى السلطة في المدن التجارية اليونانية ممهدة سهلة: فما على من يريدها إلا أن يهاجم الأشراف، ويدافع عن الفقراء، ويتفاهم مع الطبقات الوسطى. فإذا وصل الطاغية إلى ما يرجوه من سلطان ألغى الديون، أو صادر الضياع الواسعة، وفرض الضرائب على الأغنياء ليمول بحصيلتها ما ينشئه من الأشغال العامة، أو أعاد توزيع الثروة المركزة في أيد قليلة بوسيلة أخرى غير هذه الوسيلة.

وفي الوقت الذي يضم فيه الجماهير إلى جانبه بهذه الوسائل وأشباهها، يحصل على معونة رجال الأعمال بتشجيع التجارة عن طريق العملة الرسمية وعقد المعاهدات التجارية الأجنبية، ورفع المنزلة الاجتماعية للطبقات الوسطى. وإذ كان الحاكم بأمره مضطرا إلى الاعتماد على حب الشعب له لا على حقه الموروث في السلطان، فإن الدكتاتوريات كانت في الأغلب الأعم تتجنب الحروب وتناصر الدين، وتحفظ النظام، وتحث على الأخلاق الفاضلة، وترفع منزلة النساء في المجتمع، وتشجع الفنون، وتنفق المال بسخاء في تجميل مدائنها.

والطغاة يفعلون هذا كله في كثير من الأحيان وهم محتفظون بصورة الحكومة الشعبية وأساليبها في العمل، ومن ثم كان الناس حتى في عهود الاستبداد يتعلمون طرائق الحرية. وبعد أن تنتهي الدكتاتورية من تحطيم الأرستقراطية كان الشعب يحطم الدكتاتورية، ولم يكن يحتاج إلى تغييرات كثيرة ليجعل ديمقراطية الأحرار قائمة شكلا وعملا”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة