خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن الثورة الصولونية في أثينة التي تنتمي للحضارة اليونانية. وكيف استطاعت قوانين صولون أن تنهض بأثينه وتحقق المساواة علي قدر ما استطاعت.وذلك في الحلقة السادسة والتسعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
المساواة..
يستأنف الكتاب الحديث عن الثورة الصولونية: “حدث مساواة الطبقات الدنيا للطبقات العليا في حق الاختيار بالقرعة إلى الهيليائيا، وهي هيئة من خمسة آلاف من المحلفين تتألف منهم أنواع المحاكم التي تنظر في جميع القضايا عدا قضايا القتل والخيانة، والتي يصح أن ترفع إليها الشكاوى من أعمال الحكام على اختلاف أنواعها. ويقول أرسطوطاليس في هذا: “يظن البعض أن صولون قد تعمد إدخال الغموض على قوانينهِ ليمكن العامة من استخدام سلطتهم القضائية لتقوية نفوذهم السياسي”؛ ذلك أنه “لما كان الخلاف بينهم وبين الحكام لا يمكن تسويته بتطبيق حرفية القانون، فقد كان عليهم أن يعرضوا جميع منازعاتهم على القضاة، وكان هؤلاء إلى حد ما سادة القوانين”. كما يقول أفلوطرخس نفسه. وقد كان حق الاستئناف إلى المحاكم الشعبية الإسفين الذي وسع نطاق الديمقراطية الأثينية، كما كان حصنها الحصين في مستقبل الأيام.
وأضاف صولون إلى هذا التشريع الأساسي، وهو أهم ما في تاريخ أثينة من تشريعات، طائفة أخرى من الشرائع المختلفة يقصد بها معالجة مشاكل الوقت التي لم تكن لها مثل ما للمسائل الأساسية السابقة من خطر. وكان أول ما فعله أن جعل الثروة الفردية التي قررتها العادات قبل معترفا بها قانونيا. وإذ كان للرجل أولاد كان عليه أن يقسم ثروته بينهم قبل وفاته، فإذا لم يكن له أولاد كان له أن يوصي لأي إنسان بأملاكه التي كانت تؤول حتى ذلك الوقت ومن تلقاء نفسها لقبيلته. فبقوانين صولون بدأ حق الوصية وقانونها”.
تشجيع التجارة والصناعة..
وعن تشجيع الاقتصاد: “وإذ كان هو من رجال الأعمال فقد أراد أن يشجع التجارة والصناعة بمنح حق المواطنية لجميع الأجانب الذين يحذقون حرفة ما والذين يأتون مع أسرهم ليقيموا بصفة دائمة في أثينة. وحرم تصدير الغلات الزراعية عدا زيت الزيتون، وكان يرجو بهذا أن يحول الناس من إنتاج المحصولات الزراعية الزائدة على الحاجة إلى الاشتغال بالصناعة. وسن قانونا يقضي بأن الولد غير ملزم بمساعدة أبيه إذا كان هذا الأب لم يعلمه حرفة خاصة. ويرجع الفضل فيما نالته الصناعات من تشريف عظيم ومكانة سامية إلى صولون لا إلى من جاء بعده من الأثينيين”.
الأخلاق..
وعن انجازات صولون في مجال الأخلاق يواصل الكتاب: “ولم يحجم صولون عن التشريع في ذلك الميدان الخطر. ميدان الأخلاق والآداب العامة. فقد كان يعد الإصرار على البطالة جريمة، ولم يكن يسمح للرجل الذي يعيش عيشة الدعارة والفجور أن يتقدم إلى الجمعية بطلب، وجعل البغاء قانونيا وفرض على البغاة ضريبة، وأنشأ مواخير عامة، مرخصة من قبل الدولة وخاضعة لرقابتها. وشاد هيكلاً لأفرديتي بندموس من إيراد هذه المواخير.
وقد تغنى بمدحه رجل من معاصريه يدين بما يدين به لكي المؤرخ الأيرلندي المعروف فقال: “مرحبا بك يا صولون! لقد ابتعت المومسات لخير المدنية، ولوقاية أخلاق المدينة الغاصة بالشبان الأشداء، ولولا تشريعكَ الحكيم، لضايق هؤلاء الشبان فضليات النساء ونشروا في المدينة الفساد والاضطراب”. وفرض غرامة قدرها مائة درخمة على من يعتدي على عرض امرأة حرة، وهي عقوبة أقل كثيراً مما في قوانين داركون، ولكنه أباح لمن يمسك برجل زان متلبس بجريمته أن يقتله لساعتهِ.
وحدد بائنات العرائس ومهورهن لرغبته في أن يكون الباعث على الزواج هو الحب المتبادل بين الزوجين والرغبة في النسل وتربية الأولاد، ونهى النساء عن أن يكون لهن من الملابس أكثر من ثلاث حلل، وكان في ثقته بقدرته على تنفيذ قانونه شبيها بالأطفال في ثقتهم بقدرتهم على تنفيذ أوامرهم ونواهيهم.
ولقد طُلب إليه أن يسن قانوناً يضيق بهِ على العزاب، ولكنه لم يجب هذا الطلب وقال في تبرير عدم إجابته إن “الزوجة عبء ثقيل الحمل”. وقد جعل اغتياب الموتى جريمة، وكذلك كان اغتياب الأحياء في الهياكل والمحاكم، ومكاتب الموظفين العموميين، وفي ساحات الألعاب؛ ولكنه حتى هو نفسه لم يستطع أن يمسك ألسنة الناس في أثينة حيث كانت الغيبة والنميمة تبدوان كما تبدوان عندنا الآن من مستلزمات الديمقراطية”.
تربية اليتامي..
وعن فضيلة تربية اليتامي يكمل الكتاب: “وقد قرر أن الذين يبقون على الحياد في أوقات الفتن يفقدون حقهم بوصف كونهم مواطنين، وذلك لأنه كان يرى أن عدم اهتمام الجمهور بالشؤون العامة يؤدي إلى خراب الدولة. وحرم الاحتفالات الفخمة، والقرابين الكثيرة النفقة، والندب الطويل في الجنائز؛ وحدد مقدار ما يدفن مع الأموات من متاع، وسن ذلك القانون العادل الذي ظل مصدراً لبسالة الأثينيين أجيالاً طويلة وهو القانون الذي فرض على الحكومة تربية أبناء مَن يُقتلون في الحرب وتعليمهم على نفقتها.
وأضاف صولون إلى كل شريعة من شرائعه عقوبات كانت أخف من عقوبات دراكون ولكنها مع ذلك صارمة، وجعل من حق كل مواطن أن يقاضي أي شخص يرى أنه ارتكب جريمة ما. وأراد أن يعرف الناس قوانينهم حق المعرفة وأن يطيعوها ويلتزموا العمل بها فكتبها في ساحة الأركون الديني، أركون باسليوس، على ملفات أو منشورات خشبية تدار وتُقرأ”.
رفض الحكم المطلق..
وعن فضيلة صولون في رفض الحكم المطلق: “ولم يدع كما ادعى ليقورغ ومينوس، وحمورابي، ونحوما، أن إلها ما قد أنزل عليه هذه الشرائع؛ وهذا العمل في حد ذاته مما يكشف عن مزاج ذلك العصر ومزاج المدينة ومزاج صولون نفسه. ولما طلب إليه أن يجعل نفسه حاكما بأمره مدى الحياة أبى وقال إن الدكتاتورية “مقام جميل حقا ولكن ليس ثمة طريق للنزول منه”. وكان المتطرفون ينتقدونه لأنه لم يسوِ بين الناس في الملك وفي السلطان، والمحافظون ينددون به لأنه منح العامة الحقوق السياسية وأجلسهم فوق منصة القضاء.
بل إن صديقه أنكرسيس، الحكيم السكوذي صاحب الأطوار الشاذة، قد سخر من دستوره الجديد وقال في ذلك إن الحكماء قد أصبحوا يترافعون، والحمقى يحكمون، وأضاف إلى ذلك قوله إنه لا يمكن أن تقوم بين الناس عدالة دائمة لأن في وسع الأقوياء والمهرة أن يحوروا أي قانون يسن لكي يتفق مع مصلحتهم الخاصة؛ ولأن القانون أشبه ببيت العنكبوت يقتنص الذباب الصغير ويفلت منه البق الكبير”.
تقبل النقد..
ويكمل الكتاب عن تقبل النقد: “وكان صولون يتقبل كل هذا النقد بقبول حسن، ويعترف بما في شرائعه من نقص ولما سئل هل سن للأثينيين أحسن الشرائع أجاب “لا، بل” سننت لهم “خير ما يستطيعون أن يعطوه” أي خير ما يمكن إقناع الجماعات والمصالح المتضاربة في أثينة بأن تقبله كلها في ذلك الوقت بالذات. وقد اتبع الطريق الأوسط وأبقى بذلك على الدولة؛ وكان تلميذا ناجحا من تلاميذ أرسطاطاليس قبل أن يولد هذا الفيلسوف الاستجيري وتعزو إليه الرواية الشعار الذي نقش على هيكل أبلو في دلفي وهو أي لا إفراط في شيء، وقد أجمع اليونان على وضعه بين السبعة الحكماء.
وخير شاهد على حكمته هو ما كان لتشريعه من أثر خالد، فقد استطاع شيشرون، على الرغم مما حدث في أثينة من آلاف التغيرات والتطورات، وبالرغم مما قام فيها من دكتاتوريات وانقلابات سطحية، استطاع على الرغم من هذا أن يقول بعد خمسة قرون من عهد صولون إن شرائعه كانت لا تزال نافذة في أثينة. ولقد كان عمله من الوجهة القضائية الحد الفاصل بين حكم المراسيم المتغيرة التي لا عداد لها وبين بداية حكم الشرائع المدونة الدائمة. ولما سأله سائل متى تكون الدولة حسنة النظام ثابتة البنيان أجاب بقوله: “حين يطيع المحكومون الحكام، ويطيع الحكام القوانين””.
تحرر..
وعن تحرير العبيد يتابع الكتاب: “وبفضل قوانينه تحرر زراع أتكا من الاسترقاق الإقطاعي، وقامت فيها طبقة من الزراع الملاك، كان امتلاكهم الأرض هو الذي جعل الجيوش الأثينية الصغيرة قادرة على الاحتفاظ بحرية المدينة أجيالا طويلة، ولما اقترح في نهاية حرب البلوبونيز قصر الحقوق السياسية على الملاك الأحرار لم يوجد من الأحرار الراشدين في أتكا كلها مَن لا ينطبق على هذا الشرط إلا خمسة آلاف لا أكثر. هذا إلى أن التجارة والصناعة فد تحررتا في الوقت نفسه من القيود السياسية كانت مفروضة عليهما، ومن العوائق المالية، وبذلك بدأ فيهما ذلك التطور القوي النشيط ، الذي أصبحت أثينة بفضله الزعيمة التجارية في بلاد البحر المتوسط. وكانت أرستقراطية الثراء الجديدة ترفع من شأن الذكاء لا من شأن المولد، وتشجع العلم والتعليم، وتمهيد السبيل مادياً وعقلياً للأعمال الثقافية العظيمة التي تمت في العصر الذهبي”.
اعتزال..
وعن عزلة صولون: “ولم بلغ صولون في عام 572 سن السادسة والستين آثر الحياة الخاصة، فاعتزل منصبه بعد أن ظل أركونا خمسة وعشرين عاما، وبعد أن أخذ العهد على أثينة، بأيمان أقسمها موظفوها، أن تطيع قوانينه بلا تغيير فيها ولا تبديل مدة عشر سنين؛ وسافر بعدئذ ليطلع على حضارة مصر والشرق، ويلوح أن ذلك الوقت هو الذي قال فيه قالته الذائعة الصيت “إني لتكبر سني وما فتئت أتعلم”.
ويقول أفلوطرخس إنه درس التاريخ في عين شمس،هليوبوليس، على يد الكهنة، ويقال إنه سمع منهم عن أطلنطيس القارة الغارقة، التي قص قصتها في ملحمة لم يتمها، افتتن بها أفلاطون الواسع الخيال بعد مائتي عام من عصره. وسافر من مصر إلى قبرص ووضع القوانين لتلك المدينة التي غيرت اسمها من قبرص إلى تكريما له . ويصف هيرودوت أفلوطرخس حديثه مع كروسس ملك ليديا في سرديس وما أقوى ذاكرتهما التي أمكنتهما من أن يقصا هذا الحديث فيرويا كيف خرج هذا الرجل صاحب الثروة المنقطعة النظير مزداناً بكل ما عنده، وسأل صولون ألا يرى أنه، كروسس، رجل سعيد، وكيف أجابه صولون بصفاقته اليونانية قائلا:
“إن الآلهة أيها الملك قد وهبت اليونان كل ما وهبتهم من النعم بقسط معتدل؛ وكذلك حكمتنا فهي حكمة معتدلة، لا حكمة نبيلة ملكية؛ وإذا ما قلبنا النظر في البلايا الكثيرة التي تكتنف الناس في جميع الظروف فإن هذا الاعتدال ينأى بنا عن أن نصطنع الصغار فيما نتمتع بهِ في وقتنا الحاضر، أو أن نعجب بما يتقلب فيه أي إنسان من سعادة، قد نتبدل إلى نقيضها على مر الأيام. ذلك أن المستقبل المجهول قد يأتي بما لا يحصى من مختلف الحظوظ؛ ونحن لا نسمي إنسانا سعيدا إلا إذا وهبته الآلهة السعادة إلى آخر أيامه. وإن في وصف الرجل الذي ما يزال في منتصف حياته وأخطارها بأنه سعيد من الخطأ والمخاطرة مثل ما في تتويج المصارع بتاج النصر وإعلان فوزه وهو ما يزال في حلبة الصراع.”
الرخاء الوقح..
وهذا العرض الشائق لما يطلق عليه كتاب المسرحيات اليونان اسم هبريس أي الرخاء الوقح لينم عن حكمة أفلوطرخس الشاملة. وكل ما نستطيع أن نقوله فيها إنها قد صيغت في ألفاظ أجمل من الألفاظ التي صاغها فيها هيرودوت، وإن كلا النصين في أغلب الظن من نسج الخيال. وما من شك في أن الطريقة التي مات بها صولون وكروسس تبرر ما في هذه العظة من تشكك. فقد خلع قورش كروسس في عام 546، وعرف الرجل في بؤسه مرارة تذكر أيام مجده السعيدة وما كان في تحذير الحكيم اليوناني من صرامة. أما صولون فإنه بعد أن عاد إلى أثينة ليلقى فيها الموت شهد في آخر أيامه القضاء على دستوره وإقامة حكم دكتاتوري على أنقاضه، وإخفاق كل ما بذله من جهود وإن كان إخفاقاً في ظاهر الأمر فحسب”.