خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن الثورة الصولونية في أثينة التي تنتمي للحضارة اليونانية. وكيف صالحت ما بين الفقراء والأغنياء..وذلك في الحلقة الخامسة والتسعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الثورة الصولونية..
انتقل الكتاب إلي الحديث عن الثورة الصولونية: “قد يبدو عجيبا أن يقوم في هذا الدرك الذي تدهورت إليه شؤون أثينة والذي يتكرر كثيرا في تاريخ الأمم، أن يقوم رجل يستطيع بغير عنف أو خطب قاسية مريرة أن يقنع الأغنياء والفقراء على السواء بأن يسووا أمورهم فيما بينهم تسوية لم تحل دون الفوضى الاجتماعية فحسب بل إقامة نظاما سياسيا واقتصاديا جديدا خيرا من النظام السابق، بقي ما بقيت أثينة مدينة مستقلة ألا إن ثورة صولون السلمية لمن المعجزات التاريخية التي تبعث الشجاعة والأمل في النفوس!
كان والد صولون من الأشراف الكرام المحتد، ومن أرفعهم بيتا، وأنقاهم دما، ينتهي نسبه إلى الملك كدروس، بل إنه كان يتبع نسبه إلى بوسيدن نفسه. وكانت أمه ابنة عم بيسستراتس الطاغية الذي خرق دستور صولون في أول الأمر ثم عاد بعدئذ فثبت دعائمه. وقد انغمس صولون في شبابه فيما كان ينغمس فيه أهل زمانه: فكان يقرض الشعر ويتغنى بملاذ “الصداقة اليونانية”، وفعل ما فعله ترتاروس فأثار حماسة الناس بشعره ودفعهم إلى فتح سلاميس.
ثم صلحت أخلاقه في سن الكهولة صلاحا يتناسب تناسبا عكسيا مع شعره، فأصبحت أشعاره فاترة ونصائحه جيدة. مثل قوله في أشعاره: “إن الكثيرين من الناس أغنياء، ولكنهم لا يستحقون هذا الغنى، على حين أن من هم خير منهم يقاسون آلام الفاقة. ولكنا لن نستبدل حال هؤلاء الأغنياء بحالنا، لأن ميزتنا باقية دائمة، أما ميزتهم فإنها تنتقل من إنسان إلى إنسان”، وثروة الغني “ليست أعظم من ثروة من لا يملك إلا معدته ورئتيه وقدميه، وهي الأعضاء التي تأتيه بالسرور ولا تأتيه بالألم؛ وليست خيرا من محاسن الفتى أو الفتاة أو نضرة شبابه أو شبابها، أو من وجود ينسجم مع صروف الأيام”.
انقسام..
يواصل الكتاب: “ولما حدث في أثينة شقاق وانقسام بقي هو على الحياد، وكان ذلك لحسن الحظ قبل أن تقرر الشرائع المعزوة له أن هذهِ الحيطة جريمة، ولكنه لم يتردد قط في التشهير بالوسائل التي سلكها الأغنياء لإذلال الفقراء، ودفعِهم إلى أحضان الفاقة. وإذا كان لنا أن نأخذ بأقوال أفلوطرخس فإن والد صولون قد “بدد ثروته في التصدق على الناس والإحسان إليهم”. واشتغل صولون بالتجارة وأصبح من التجار الناجحين ذا مصالح كثيرة في أقطار بعيدة، أكسبته خبرة واسعة وأمكنته من الأسفار والتنقل في بلاد بعيدة، وكان يسير في عمله على المبادئ التي يدعو إليها في قوله، واشتهر بين جميع طبقات الناس بالاستقامة. وكان ما يزال صغير السن نسبيا، في الرابعة والأربعين أو الخامسة والأربعين، حين أقبل عليه في عام 594 ممثلو الطبقات الوسطى يدعونه إلى قبول ترشيحهم إياه ليكون أركوناً بالاسم، على أن يُمنح سلطة مطلقة لإخماد نار حرب الطبقات، ووضع دستور جديد للبلاد، وإعادة الاستقرار إلى الدولة. ووافقت الطبقات العليا على هذا الاختيار وهي كارهة، وكان الباعث لها على الموافقة ثقتها بأن رجلا مثله من أصحاب المال لا بد أن يكون رجلا محافظا”.
إصلاحات اقتصادية..
وعن حدوث إصلاحات يضيف الكتاب: “وكانت أعماله الأولى أعمالا بسيطة ولكنها كانت من قبيل الإصلاحات الاقتصادية الشاملة؛ وقد خيب آمال المتطرفين بإحجامه عن إعادة تقسيم الأراضي. ولو أنه فعل هذا لأدى ذلك إلى الحرب الأهلية وإلى الفوضى التي تدوم جيلا كاملا، وإلى عودة الفوارق مسرعة، ولكن صولون استطاع بفضل قانونه الشهير قانون السيسكثيا أو “رفع الأعباء” أن يلغي كما يقول أرسطاطاليس “جميع الديون القائمة سواء أكانت للأفراد أم للدولة”، وهكذا حرر أراضي أتكا من جميع الرهون بجرة قلم؛ هذا إلى أنه أطلق سراح جميع مَن استرقوا أو التصقوا بالأرض، وكل مَن بيعوا رقيقا في خارج البلاد وطلب إليهم أن يعودوا إلى مواطنهم، وحرم مثل هذا الاسترقاق في المستقبل.
وخليق بنا أن نذكر من خصائص الخلق في هذا المقام أن بعض أصدقاء صولون قد عرفوا ما يعتزمه من إلغاء الديون فاشتروا أراضي واسعة مرتهنة ثم احتفظوا بها فيما بعد من غير أن يؤدوا ما عليها من رهون. ويحدثنا أرسطاطاليس بأسلوب تهكمي بأن هذا كان منشأ ثروات طائلة كثيرة العدد “ظن الناس” فيما بعد “أنها ترجع إلى أزمنة لا يذكرها الناس لقدم عهدها”. وقال بعض الناس إن صولون قد تغاضى عن هذا العمل وإنه استفاد منه حتى تبين بعدئذ أنه وهو الدائن الكبير قد خسر بقانونه الشيء الكثير.
واحتج الأغنياء بأن هذا التشريع كان في حقيقة الأمر مصادرة لأموالهم، ولكنه أصم أذنيه عن سماع احتجاجهم؛ ولم تمضِ عشرة أعوام على صدوره حتى أجمع الناس؛ أو كادوا يجمعون، على أنه أنجى أتكا من الثورة.
وثمة إصلاح آخر من إصلاحات صولون لا نستطيع أن نتحدث عنه حديثاً يقينياً واضحاً. وفيه يقول أرسطاطاليس إن صولون قد “استبدل بالنقود الفيدونية أي النقود الأجنبية التي كانت مستعملة في أتكا حتى ذلك الوقت “نظام عوبية النقدي على نطاق واسع وجعل قيمة المينا مائة درخمة بعد أن كانت من قبل سبعين”. ويقول أفلوطرخس في بيانه عن هذا الإصلاح، وهو أوفى من بيان أرسطاطاليس، “إن صولون جعل المينا تصرف بمائة درخمة بعد أن كانت ثلاثا وسبعين، وبهذا أصبحت قيمة القطع التي تدفع أقل مما كانت قبل وإن كان عددها واحدا، وكان في هذا نفع كبير للذين يريدون أن يوفوا بديونهم، ولم يكن فيه خسارة على الدائنين”.
إن أفلوطرخس الظريف الكريم وحده هو الذي استطاع أن يجد طريقة لتضخم العملة ينقذ بها المدينين دون أن يلحق الضرر بالدائنين إلا هذا الضرر الوحيد وهو أن نصف العمى في بعض الحالات خير بلا ريب من العمى كله” .
عفو عام..
كما يحكي الكتاب عن العفو العام: “وكان أبقى من هذهِ الإصلاحات الاقتصادية تلك القرارات التاريخية التي أنشئ بمقتضاها دستور صولون. وقد قدم لها صولون بعفو عام أطلق به سراح كل من سجن، وأعاد إلى البلاد كل من نفي منها لجرائم سياسية إذا لم تكن هذهِ الجرائم هي محاولة اغتصاب مقاليد الحكم في البلاد. ثم واصل عمله بأن ألغى إلغاء صريحا أو ضمنيا معظم شرائع دراكون؛ إلا أنه أبقى منها على القانون الخاص بعقاب القتلة وقد طبقت قوانين صولون على جميع السكان الأحرار بلا تمييز بينهم. فأصبح الأغنياء والفقراء على السواء مقيدين بقيود واحدة تفرض عليهم عقوبات واحدة.
الطبقات..
وعن إعادة التقسيم الطبقي يتابع الكتاب: “وإذ كان صولون قد عرف أنه لم يستطع تنفيذ إصلاحاته إلا بمعونة طبقتي التجار والصناع، ورغبة منه في أن يجعل لهم حظا في حكومة البلاد، فقد قسم سكان أتكا أربع مجموعات على أساس ثروتهم: الأولى أصحاب الخمسمائة بشل وهو الذين يصل دخلهم السنوي إلى خمسمائة مكيال من الحاصلات أو ما يعادلها، والثانية هم الهبي الذين يتراوح دخلهم بين ثلاثمائة وخمسمائة بشل. والثالثة جماعة الزوجتاي الذين يتراوح دخلهم بين مائتين وثلاثمائة، والرابعة جماعة الثيتي وتشمل غير هؤلاء كلهم من الأحرار.
وكانت مظاهر الشرف والتكريم تتناسب مع ما يؤدى من الضرائب فلا يستمتع إنسان بالأولى دون أن يتحمل عبء الثانية؛ يضاف إلى هذا أن الضرائب التي تؤديها الطبقة الأولى كانت تفرض على ما يعادل دخلها السنوي اثني عشر مرة؛ والطبقة الثانية على ما يعادل دخلها عشر مرات، والثالثة على ما يعادل دخلها خمس مرات فقط؛ أي أن ضريبة الأملاك كانت في واقع الأمر ضريبة دخل تصاعدية. أما الطبقة الرابعة فكانت معفاة من الضرائب المقررة المباشرة.
وكانت الطبقة الأولى وحدها هي التي يمكن اختيار رجالها إلى الأركونية وإلى قيادة الجيش؛ أما الطبقة الثانية فكان من حقها أن يختار أفرادها إلى المناصب وإلى فرق الفرسان في الجيش، وكانت الطبقة الثالثة تختص بالعمل في فرق المشاة الثقيلة؛ وأما الرابعة فكان يطلب إليها أن تمد الدولة بالجنود العاديين. وقد أضعف هذا التقسيم الفذ نظام القرابة الذي كانت تعتمد عليهِ قوة الألجركية؛ وأحل محله مبدأ جديدا هو مبدأ “التمقراسيه”، أي حكم ذوي الشرف أو المنزلة، ويحدد صراحة ما لهم من ثروة تُفرض عليها الضرائب. وكان حكم “بلوتوقراطي يتولاه المثرون” شبيه بهذا الحكم منتشراً خلال القرن السادس كله وبعض القرن الخامس في معظم المستعمرات اليونانية”.
مجلس الشيوخ..
وعن أهمية مجلس الشيوخ يكمل الكتاب: “وقد أبقى دستور صولون على رأس الدولة مجلس الشيوخ القديم مجلس الأريوبجوس، بعد أن جرده من بعض ما كان له من سلطان وما كان يمتاز به من عزلة، وبعد أن أصبح مفتوح الأبواب لجميع أفراد الطبقة الأولى، ولكنه ظل مع ذلك صاحب السلطة العليا المهيمن على سلوك الناس وعلى موظفي الدولة. ثم أنشأ بولا أو مجلسا جديدا مؤلفا من أربعمائة عضو يلي مجلس الشيوخ في السلطة تختار له كل طبقة من الطبقات الأربع مائة عضو.
وكان هذا المجلس يختار جميع الأعمال التي تعرض على الجمعية ويبحثها ويعدها. ووضع صولون في منزلة أدنى من هذا النظام الألجركي الأعلى الذي استرضى به الأقوياء، أنظمة ديمقراطية في أساسها، ولعله كان مدفوعا إلى ذلك بحسن النية ورغبة العمل على خير الطبقات الدنيا. فقد أعاد إلى الحياة الإكليزيا الجمعية القديمة التي كانت قائمة في أيام هومر ودعا كل المواطنين إلى الاشتراك في مناقشاتها.
وكانت هذه الجمعية تختار كل عام من بين ذوي الخمسمائة بشل الأركونين الذين كانوا حتى ذلك الوقت يعينون من قبل مجلس الأريوبجوس؛ وكان من حقها أن تستجوب هؤلاء الموظفين في أي وقت، وتتهمهم، وتعاقبهم؛ وإذا ما انقضت مدة توليهم مناصبهم، كانت تبحث في مسلكهم في السنة التي تولوا العمل فيها، وكان لها إذا شاءت أن تحرمهم حقهم في أن يكونوا أعضاء في مجلس الشيوخ.