خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن التراتب الطبقي في أثينة التي تنتمي للحضارة اليونانية. وذلك في الحلقة الرابعة والتسعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
تطور أثينة ..
يكمل الكتاب عن أثينا: “لم تكن هذه البلدان محيطة بأثينة فحسب، بل كانت أجزاء منها كذلك. وقد سبق القول كيف جمع ثيسوس، كما يعتقد اليونان، في نظام سياسي واحد وجعل لهم عاصمة واحدة . ونشأت أثينة ثم نمت على بعد خمسة أميال من بيريس بين معشش من التلال، همتوس وبنتلكوس وبارنس ، حول الحصن الميسيني القديم. وكان جميع ملاك الأراضي في أتكا من مواطنيها. وكانت أقدم الأسر، وأكثرها أملاكاً هي التي تحفظ التوازن بين ذوي السلطان في البلاد؛ فقد رضوا بقيام الملكية حين كان اضطراب الأمن يهدد البلاد، ولما أن عاد إليها الهدوء والاستقرار وعادوا هم أيضاً إلى الاستمساك بسيطرتهم الإقطاعية وبالحكومة المركزية؛ ولما مات الملك كادروس Cadrus ميتة الأبطال مضحياً بنفسه لصد الدوريين الغزاة أعلنوا كما تروي القصة المتواترة أن أحداً من الناس لا يصلح خليفة له”.
أركون..
وعن نظام الحكم يوصل الكتاب: “واستبدلوا بالملك أركونا، حاكما، يختار ليتولى السلطة مدى الحياة. وفي عام 752 حددوا مدة الأركونية بعشر سنين ثم أنقصوها إلى سنة واحدة في عام 683. وفي هذه السنة الأخيرة قسموا سلطة صاحب هذا المنصب بين تسعة أركونيين، أركون سميت السنة باسمه ليستطيعوا بذلك تأريخ الحوادث، وأركون يسمى ملكاً ولكنه لم يكن إلا رئيس دين الدولة؛ وأركون يتولى قيادة الجند وستة مشترعين. وحدث هنا ما حدث في إسبارطة ورومة، فلم يكن القضاء على الملكية نصرا عاما أو خطوة مقصودة نحو الديمقراطية، بل كان يمثل عودة الإقطاعيين إلى السيادة، ويكرر ما كان يحدث في التاريخ كله من قيام السلطة المركزية تارة وغير المركزية تارة أخرى.
وبفضل هذه الثورة المجزأة جرد منصب الملك من كل ما كان له من سلطان، واقتصر عمل من يتولاه على الكهانة دون غيرها من الأعمال. ولقد بقيت لفظة ملك في الدستور الأثيني حتى آخر تاريخ المدينة القديم، ولكن حقيقة الملكية لم تعد إليها قط. إن الدساتير قد تبدل أو يقضى عليها من ذوي السلطة العليا دون أن ينالهم من جراء ذلك عقاب ما إذا تركت أسماؤها دون تغيير”.
الطبقات..
وعن تقسيم الطبقات في المجتمع يضيف الكتاب: “وظل “الحاكمون” يحكمون أتكا زمنا يكاد يبلغ خمسة قرون. وكان أهل البلاد أيام حكمهم مقسمين خمس طبقات سياسية:
طبقة الفرسان الذين يملكون الخيل والذين يستطيعون أن يكونوا فرقة الفرسان في الجيش، وذوي الثيران الذين يملك كل منهم ثورين والذين يستطيعون أن يسلحوا أنفسهم ليكونوا من فرق المشاة الثقيلة، وطبقة العمال المأجورين الذين كانوا يؤلفون فرق المشاة الخفيفة. وكانت الطائفتان الأوليان وحدها هما اللتين تحسبان في عداد المواطنين؛ والفرسان وحدهم هم الذين يمكن اختيارهم أركونين أو قضاة أو كهنة. وكان الأركونون بعد أن يتموا مدة توليهم منصبهم، إذا لم يرتكبوا فضائح تلوث سمعتهم، بحكم منصبهم القديم أعضاء في البول أو تل أريس ، ويختارون الأركونين، ويحكمون الدولة.
وقد حدد مجلس شيوخ الأريوباجوستي في عهد الملكية نفسها سلطان الملوك؛ فلما قامت الحكومة الألجركية كان له مثل ما لنظيره في رومة من سعة النفوذ وعظيم السلطان.
وكان السكان ينقسمون من الوجهة الاقتصادية ثلاثة أقسام كذلك. فكان على رأسهم الأشراف الذين كانوا يعيشون عيشة مترفة بالنسبة إلى غيرهم من الجماعات، ويقيمون في المدن بينما يقوم العبيد والعمال المأجورون بزراعة أملاكهم في الريف، أو التجار باستغلال الأموال التي اقترضوها منهم وأداء جزء غير يسير من الأرباح إليهم.
ويلي هؤلاء في الثروة العمال العموميون أي أرباب المهن، والصناع، والتجار، والعمال الأحرار. ولما فتح الاستعمار أسواقاً جديدة للتجارة، وتحررت هذه التجارة بعد سك العملة، كان سلطان هذه الطبقة المتزايد هو القوة الفعالة التي أنالتها في عهد صولون وبيستراتس نصيباً من الحكم، ورفعتها في عهد كليسثنيز وبركليز إلى ذروة السلطان. وكان معظم العمال أحراراً لأن العبيد كانوا في ذلك العهد لا يزالون أقلية حتى بين الطبقات الدنيا”.
عمال الأرض..
وعن اقل الطبقات يتابع الكتاب: “وكان أفقر الأهلين عمال الأرض، وهم الزراع الصغار الذين ينتزعون القوت من التربة الضنينة ومن شره المرابين والأشراف، وليس لهم من عزاء إلا التباهي بأنهم يملكون قطعة من الأرض.
وكان بعض هؤلاء الزراع يملكون في أيامهم الخالية أراضي واسعة، ولكن زوجاتهم كن أكثر خصوبة من أرضهم، فتقسمت هذه الأرض ثم تقسمت بين أبنائهم وأحفادهم على مر الأجيال. وكان امتلاك العشائر أو الأسر الأبوية للأرض يزول زوالا سريعا، كما كانت الأسوار والخنادق والحواجز تُشير إلى الأملاك الفردية وما يصحبها من غيرة وتحاسد.
وكلما صغرت مساحة الأراضي التي يملكها الأفراد وأضحت الحياة الريفية مزعزعة غير مأمونة باع كثيرون من الفلاحين أرضهم رغم ما كان يوقع على الذين يبيعونها من عقاب وما يحرمون بسببهِ من حقوق ونزحوا إلى أثينة أو غيرها من المدن الصغرى ليشتغلوا فيها تجارا أو صناعا أو فعلة. وأصبح غيرهم، ممن عجزوا عن تحمل التزامات الملكية، مستأجرين لضياع الأشراف، أو عاملين فيها لقاء نصيب من غلتها.
وظل غيرهم في أرضهم يكافحون، يقترضون المال بربا فاحش ويرهنون أرضهم ضمانا لما اقترضوه، ولكنهم عجزوا عن الوفاء بديونهم وألفوا أنفسهم لاصقين بالأرض يلزمهم بذلك دائنوهم ويعملون فيها عمل الرقيق الإقطاعيين. وكان الدائن المرهونة إليهِ الأرض يعد مالك الأرض الحقيقي حتى يسترد ما لهُ من دين، وكان يضع عليها لوحاً من الحجر يُعلن فيهِ هذه الملكية. وتضاءلت الملكيات الصغيرة على توالي الأيام، وقل عدد الملاك، واتسعت الأملاك الكبيرة.
ويقول أرسطاطاليس في هذا: “وأصبحت كل الأراضي ملكا لعدد قليل من الناس، وتعرض الزراع هم وأزواجهم وأبناؤهم لأن يباعوا بيع الرقيق” لا في داخل البلاد فحسب بل في خارجها أيضاً، “إذا عجزوا عن أداء إيجار الأرض” أو الوفاء بما عليهم من ديون. وألحقت التجارة الخارجية واستبدال النقود بالمقايضة ضرراً آخر بالأهلين، لأن منافسة مواد الطعام المستوردة من خارج البلاد أبقت أثمان محصولاتهم منخفضة، على حين أن ما كان عليهم أن يؤدوه ثمناً للسلع المصنوعة التي كانوا مضطرين إلى شرائها كانت تحدده عوامل لا سلطان لهم عليها؛ وظلت هذه الأثمان تزداد على توالي السنين.
وإذا ما أجدبت البلاد عاماً حل الخراب بكثيرين من الزراع وهلك بعضهم جوعاً. وبلغ الضنك في أتكا درجة رحب معها الأهلون بالحرب وعدوها نعمة وبركة، فقد تؤدي إلى كسب أرض جديدة، وستؤدي حتماً إلى قلة الأفواه التي تتطلب الطعام”.
العمل اليدوي..
ويفصل الكتاب: “وفي هذه الأثناء كانت الطبقات الوسطى من أهل المدن التي لا يقف في وجهها القانون تُنزل بالعمال الأحرار الفقر والضنك، وتستبدل بهم الرقيق شيئا فشيئا. وبلغ الجهد العضلي من الرخص حدا أصبح معه كل القادرين على ابتياعه يترفعون عن العمل بأيديهم. وصار العمل اليدوي غلا وعبودية، ومهنة غير جديرة بالأحرار، وأخذ ملاك الأرض، لغيرتهم من ثراء التجار المتزايد، يبيعون في خارج البلاد الحبوب التي يحتاجها مستأجروا أرضهم طعاما لهم، وانتهوا آخر الأمر ببيع الأثينيين أنفسهم تطبيقاً لقانون الديون.
وأمل الناس وقتا ما أن تعالج تشريعات داركون هذه الشرور. فقد كلف هذا المشترع ثسموثيتي حوالي عام 620 بأن يسن القوانين الكفيلة بإعادة النظام إلى أتكا، وأن يسجلها كتابة لأول مرة في تاريخ اليونان. ومبلغ علمنا أن أهم ما نجده من تقدم في قوانينهِ هو أنه وسع إلى حد ما دائرة من لهم الحق في أن يُختاروا أركونيين حتى شملت كثيرين من الأغنياء المحدثين، وأحل القانون محل الغصب والانتقام، وأصبح مجلس الشيوخ الأريوباجوستي بعدئذ صاحب الحق في النظر في جميع جرائم القتل. وكان هذا التشريع الأخير إصلاحا أساسيا تقدميا؛ ولكنه لما أراد أن ينفذه، بل لما أراد أن يقنع ذوي الثراء بقبولهِ وبأنه أقسى من كل ما يستطيعون فرضه من ثأر وانتقام، لما أراد هذا وذاك اضطر أن يضمن قوانينه صنوفا من العقاب القاسي الشديد”.
شرائع صولون..
وعن القوانين: “ولما أن حلت شرائع صولون محل معظم قوانينه هو، كان كل ما يذكره الناس بهِ هو ضروب القسوة والعقاب لا قوانينه نفسها. والحقيقة أن داركون قد جمع في شرائعه ما كان في نظام الإقطاع من عادات قاسية مهوشة خالية من النظام، ولكنه لم يفعل شيئاً لإنقاذ المدينين من الاسترقاق، أو يقلل من استغلال الأقوياء للضعفاء؛ ومع أنه قد وسع دائرة من لهم حقوق سياسية بعض التوسيع، فإنه ترك لطبقة اليوبترد السيطرة التامة على دور القضاء، كما ترك لهم الحق في أن يفسروا كما يرون كل ما يمس مصالحهم من القوانين ونقط الخلاف. وقد ضمنت شرائعه لأصحاب الأملاك حماية أكثر مما كان لهم من قبل؛ فكانت السرقات صغيرة، بل التراخي في العمل، يعاقب عليهما بحرمان المواطنين من حقوقهم السياسية، ويعاقب عليهما غير المواطنين بالإعدام.
وبينما كان القرن السابع عشر قبل الميلاد يقترب من نهايته، كان حقد الفقراء المعدمين عديمي النصير على الأغنياء المتمتعين بحماية القانون قد أوشك أن يقذف بأثينة في أتون الثورة. ذلك أن المساواة ليست نظاما طبيعيا، وحيث تُطلق الحرية للكفاية والدهاء فلابد من أن تنشأ الفوارق وتبقى حتى تقضي على نفسها في الفقر الشامل الذي تؤدي إليهِ الحرب الاجتماعية والذي لا يميز بين من كان في الأصل غنيا ومن كان فقيرا؛ وقصارى القول أن الحرية والمساواة ليستا رفيقين متلازمين بل عدوين متباغضين. وتجمع الثروة يبدأ بأن يكون نظاما محتوما، ثم ينتهي بأن يكون نظاما مهلكا مبيدا. وفي ذلك يقول أفلوطرخس: “إن التفاوت في الثراء بين الأغنياء والفقراء قد بلغ غايته، حتى بدا أن المدينة قد أضحت في حال تُخشى مغبتها، وأن ليس ثمة وسيلة تنجيها من الاضطراب… إلا سلطة استبدادية””.
الفارق الطبقي..
وعن اتساع هوة الفوارق الطبقية يحكي الكتاب: “ورأى الفقراء أن حالهم تزداد سوءا عاما بعد عام، فزمام الحكم والجيش في أيدي سادتهم، والمحاكم الفاسدة المرتشية تقضي في كل نزاع في غير مصلحتهم فأخذوا يتحدثون عن الثورة العنيفة، وعن توزيع الثروة توزيعا يخالف ما هو قائم وقتئذ مخالفة تامة. فلما عجز الأغنياء عن تحصيل ما لهم من ديون قانونية، وأغضبهم تحدي الفقراء لهم وتهديدهم بالاعتداء على أموالهم المدخرة وأملاكهم، لجأوا إلى القوانين القديمة واستعدوا لحماية أنفسهم بالقوة من الغوغاء، بعد أن بدا لهم أن هؤلاء لا يهددون أموالهم فحسب، بل يهددون فوق ذلك النظام القائم كله، والدَّين، والحضارة بقضها وقضيضها”.