21 فبراير، 2025 3:23 م

قصة الحضارة (191):  صور الشاعر “هزيود” حال فقر الفلاحين في أثينة

قصة الحضارة (191):  صور الشاعر “هزيود” حال فقر الفلاحين في أثينة

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن أثينة وتصورات الشاعر هزيود عن قصة الخلق، وعن مدينة دلفي. وذلك في الحلقة  الواحد والتسعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

هزيود وقصة الخلق..

ويواصل الكتاب الحكي عن الشاعر الأثيني “هزيود”: “ويقول هزيود إن الجنس البشري عاش على وجه الأرض قبل سقوط الإنسان على هذا النحو مئات من السنين يرسل في حلل السعادة. ذلك بأن الآلهة قد خلقت أولا في أيام كرونس جيلا ذهبيا كانوا كالآلهة يعيشون بلا كدح ولا قلق، تنتج لهم الأرض من نفسها الطعام، وتغذي بكلئها قطعانهم الكثيرة، ويقضون كثيراً من الأيام فرحين مسرورين لا تدركهم الشيخوخة، حتى إذا أقبل عليهم الموت آخر الأمر كان كأنه نوم خال من الآلام والأحلام.

ثم خلق الآلهة في نزوة من نزواتهم القدسية جيلا فضيا أحط منزلة من الجيل الأول، يحتاج أفراده في نموهم إلى مائة عام، فإذا كمل هذا النمو عاشوا معذبين زمنا قليلا يدركهم بعده الموت. ثم خلق زيوس جيلا نحاسيا، رجالا أعضاؤهم وأسلحتهم وبيوتهم من النحاس، شن بعضهم على بعض كثيرا من الحروب حتى “سلط عليهم الموت الأسود فغادروا ضياء الشمس اللامعة”.

ثم عاود زيوس التجربة وخلق جيل الأبطال الذين حاربوا في طيبة وطروادة؛ ولما مات أولئك الرجال “سكنوا بأرواحهم الخالية من الهم في جزائر الأبرار”، وجاء من بعدهم شر الناس كلهم، الجبل الحديدي، وهم خلق أدنياء فاسدون فقراء لا يعرفون النظام، يكدحون بالنهار ويقاسون الشدائد والأهوال بالليل؛ لا يوقر أبناؤهم آباءهم، يعصون الآلهة ويبخلون عليهم، كسالى مشاغبون، يحارب بعضهم بعضاً، يرشون ويرتشون، لا يثق بعضهم ببعض، ويفتري بعضهم على بعض، ويطأون بأقدمهم وجوه الفقراء منهم. ويقول هزيود في حسرة: “ألا ليتني لم أولد في هذا العهد بل ولدت قبله أو بعده!” وهو يتمنى أن يعجل زيوس بدفن هذا الجيل الحديدي في باطن الأرض”.

الشرور..

ويضيف الكتاب عن تصورات هزيود: “هذا هو اللاهوت التاريخي الذي يفسر بهِ هزيود ما في زمانه من فقر وظلم. وقد كان يرى هذهِ الشرور بعينيهِ ويلمسها بيديه؛ ولكن الشاعر لم يكن يشك في أن الماضي الذي ملأه أبطالاً وآلهة كان أنبل وأجمل من هذا الجيل؛ ولسنا نرتاب في أن الناس لم يكونوا على الدوام فقراء معذبين أذلاء كما كان الزراع الذين عرفهم في بؤوتية.

وهولا يعرف أن أخطاء الطبقة التي ينتمي إليها قد أثرت في نظرتهِ، وأن آراءه في الحياة والعمل والنساء والرجال آراء ضيقة، أرضية، تكاد أن تكون تجارية. وما أبعد هذهِ الصورة من صورة أعمال الناس التي تطالعنا في شعر هومر، وهي صورة إن كان فيها الإجرام والفزع فإن فيها أيضاً العظمة والنبل! لقد كان هومر شاعراً، يعرف أن ومضة من الجمال تمحو آلافاً من الخطايا؛ أما هزيود فكان فلاحاً يصعب عليه ما تتكلفه الزوجة، ويغضب من وقاحة النساء اللائي يجلسن حول المائدة مع أزواجهن. ويكشف لنا هزيود في صراحة فظة عما كان في المجتمع اليوناني القديم من انحطاط قبيح عن الفقر المدقع الذي كان يعانيه رقيق الأرض وصغار الزراع الذين يقوم على سواعدهم مجد الأشراف والملوك وعبث الحروب. وكان هومر يتغنى بالأبطال والأمراء للأشراف من الرجال والنساء.

ثورات الفلاحين..

وعن تمرد الفلاحين يكمل الكتاب: “أما هزيود فلم يكن يعرف أمراء، بل كان يتغنى في قصائدهِ بالسوقة من الرجال ويوائم بين نغماته وبين موضوعه. فنحن نستمع في شعرهِ إلى قعقعة ثورات الفلاحين التي أنتجت في أتكا من بعد إصلاحات صولون وطغيان بيسستراتس .

لقد كانت الأرض في بؤوتية، كما كانت في البلوبونيز، في حوزة نبلاء غائبين عنها يقيمون في المدن أو بالقرب منها. وقد شُيدت أكثر المدن رخاء وازدهارا نحو بحيرة كبسيس، وهي الآن جافة ولكنها كانت فيما مضى تمد بالماء شبكة معقدة من قنوات الري وأنفاقه. وقد غزت هذا الإقليم المغري الجذاب في أواخر عصر هومر شعوب اشتق اسمهم من جبل بيئون في إبيروس الذي أقاموا بيوتهم بالقرب منه. وقد استولوا على قيرونيا وبقربها قضى فليب على حرية اليونان، وطيبة عاصمتهم في مستقبل الأيام، ثم استولوا أخيرا على أركمنوس العاصمة المينياوية القديمة.

وقد انضوت هذهِ المدن وغيرها في أيام اليونان الأقدمين تحت لواء طيبة في اتحاد بؤوتي يصرف شئونه العامة رجال من أهل هذا الحلف يُختارون في كل عام، ويحتفل أهله مجتمعين في كورونية بعيد الجامعة البؤوتية.

وكان من عادة الأثينيين أن يسخروا من البؤوتيين ويتهموهم بأنهم أغبياء ويعزوا بلادة ذهنهم إلى إفراطهم في الأكل وإلى جو بلادهم الكثير الضباب والأمطار. وقد يكون في هذا الوصف والتعليل بعض الصدق، لأن البؤوتيين يضطلعون في تاريخ اليونان بدور لا ترتاح له النفوس. من ذلك أن طيبة مثلاً قد ساعدت الغزاة الفرس، وظلت شوكة في جانب أثينة مئات السنين. ولكننا نضع في الكفة الأخرى، كفة الحسنات، أبطال بلاتية الشجعان الأوفياء، ونضع هزيود الكادح المثابر، وبندار الذي بلغ السماكين، وأباميننداس الأبي الشريف النفس، وفلوطرخس الحبيب إلى النفوس. ومن واجبنا أن نكون على حذر فلا نرى منافسي أثينة بأعين الأثينيين.”

دلفي..

وينتقل الكتاب إلي الحكي عن مدينة دلفي: “بعد أن يغادر الإنسان قيرونيا مدينة أفلوطرخس يصعد وهو يعرض حياته للخطر فوق اثني عشر ميلاً يلتقي عند آخرها بفوقيس، ثم يصل عند سفح جبل بارنسس نفسه إلى دلفي مدينة اليونان المقدسة. وعلى بعد ألف قدم من تحتها ينبسط سهل كريسيا الذي تتلألأ فيه بأوراقها الفضية عشرة آلاف شجرة زيتونة؛ وعلى بعد خمسمائة قدم أخرى تحت هذا السهل يمتد في الأرض جون صغير من خليج كورنثة، تمر فيه السفن وهي مقبلة من بعيد، تتهادى في بطء وصمت فوق المياه الساكنة الخداعة.

ومن وراء الجون سلاسل أخرى من الجبال تكسوها عند مغيب الشمس حلة أرجوانية. وعند منعطف في الطريق يلتقي السائح بنبع كستاليا في خانق بين الصخور العمودية. وتروي القصص أن أهل دلفي ألقوا إيسوب من فوق هذهِ الصخور المرتفعة وأضافوا بقولهم هذا خرافة أخرى إلى خرافاتهِ؛ كما يروي التاريخ أن فلوميلوس الفوقي طارد اللكريين المنهزمين من فوق هذهِ الصخور في الحرب المقدسة الثانية. ومن فوقها قمتا برنسس التوأمتان حيث سكنت ربات الشعر بعد أن ملت المقام في جبل هِلِكُن.

ولم يكن اليونان الذين يتسلقون مئات الأميال فوق الصخور الوعرة ليقفوا على قمة الجبل متزنين على لسان بارز من الصخر بين المرتفعات التي يكسوها الضباب من جهة والبحر الذي تسطع عليه الشمس من جهة أخرى، ويحيط بهم من جميع الجهات جمال الطبيعة وأهوالها، لم يكن هؤلاء اليونان يشكّون في أن من تحت هذهِ الصخور إله رهيب. وكثيرا ما زلزلت الأرض في هذا المكان وقذفت الرعب في قلوب الفرس النهابين، ومن بعدهم بمائة عام في قلوب الفوقيين النهابين، وبعد مائة عام أخرى في قلوب الغالبين النهابين.

الزلازل..

وعن تصورات اليوناينيين عن الكوارث الطبيعية: “وكانت الزلازل في اعتقاد اليونان من فعل الإله يحمي بها قراره. وكان العباد المتدينون يؤمون هذا المكان من أقدم الأزمنة التي تتحدث عنها التواريخ اليونانية ليجدوا في الرياح التي تهب بين الأخاديد، أو الغازات التي تنبعث من باطن الأرض، صوت إلههم وإرادته. وكانت الصخرة العظيمة، التي تكاد تسد الفتحة التي تنبعث منها الغازات وسط بلاد اليونان كلها في اعتقاد الأهلين، ومن ثم كانت هي سرة العالم أو أمفالوسه كما كانوا هم يسمونها.

وقد شادوا فوق هذهِ السرة مذابحهم لجي أمهم الأرض في الأيام القديمة، ثم لأبلو مالكها الأزهر فيما بعد. وكانت تحرس الأخدود في الزمن القديم أفعى رهيبة فتصد عنه الرجال؛ حتى قتلها فيبوس بسهم وأصبح هو أبلو البيثيين الذي يعبد في هذا الضريح. ولما أن دمرت النيران في عام 48 هيكلا قديما أعاد بناءه الأشراف الألكميونيون المنفيون من أثينة بأموال اكتتبت بها بلاد اليونان كلها وبأموالهم هم، وجعلوا له واجهة من الرخام.

وأحاطوه برواق دوري الطراز، وأقاموه من الداخل على أعمدة أيونية. وقلما رأت بلاد اليونان ضريحا مثله من قبل. وكان طريق مقدس ملتف حول الجبل يؤدي إلى المزار، ويزدان في كل خطوة بالتماثيل والأروقة والخزانات أي الهياكل الصغيرة التي أقامها عند تخومه المقدسة في أولمبيا، ودلفي، وديلوس المدن اليونانية لتودع فيها أموالها أو لتكون هبات منها إلى الإله.

وقد أقامت كورنثة وسكسيون خزائن من هذا النوع في دلفي وأقامت مثلها فيما بعد أثينة، وطيبة، وسيريني، وأقامت أحسن منها نيدوس وسفنوس وفي وسطها كلها شيد ملهى مواجه لجبل برنسس ليذكر الناس أن التمثيل كان في اليونان أصلا من الأصول الدينية. وكان يعلو فوق هذه كلها ملعب يمارس فيه اليونان أحب الشعائر إليهم وهي عبادة الصحة، والشجاعة، والجمال، والشباب”.

عيد أبلو..

وعن عيد أبلو يحكي الكتاب: “وفي وسعنا أن نتخيل منظر هذا المكان في عيد أبلو، فنصور لأنفسنا الحجاج المتحمسين يزحمون الطريق الموصل إلى المدينة المقدسة، وتغص بهم وبصخبهم وضجيجهم النزل والخيام التي أقيمت على عجل لتأويهم، وهم يمرون في حذر وارتياب بين الحوانيت التي يعرض فيها التجار الماكرون بضاعتهم، ثم يصعدون في مواكب دينية أو حاجين إلى هيكل أبلو يطلبون إليه الرضوان، ويقربون إليه القرابين أو الضحايا، ويرتلون الأناشيد؛ أو يتلون الأدعية والصلوات، ويجلسون خاشعين في الملهى، ثم يصعدون في خطى ثقيلة متعبة تبلغ الخمسمائة عداً ليشهدوا الألعاب البيثية أو ليتطلعوا في دهشة إلى البحر والجبال. لقد كانت الحياة يوماً من الأيام تسير على هذا النهج المليء بالحمية والحماسة”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة