15 فبراير، 2025 8:54 م

قصة الحضارة (190):  الآلهة في الدين اليوناني يعيشون على الأرض وفي باطنها

قصة الحضارة (190):  الآلهة في الدين اليوناني يعيشون على الأرض وفي باطنها

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن أثينة التي تنتمي للحضارة اليونانية شاعر شخير فيها يدعي هزيود. وذلك في الحلقة التسعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

أثينة..

انتقل الكتاب للحكي عن “أثينة”: “يتفرع الطريق في شرق مجارا- فيتجه جنوبا إلى أثينة وشمالا إلى طيبة. والطريق الشمالي جبلي وعر يؤدي بالمسافر إلى مرتفعات جبل سيثرون ، وإذا نظر المسافر نحو الغرب رأى من بعيد جبل برنسس ومن وراء هذا الجبل تقوم مرتفعات أقل منه، ومن بعدها ينبسط سهل بؤوتية الخصيب. وعند سفح التل تقوم بلاتية حيث أفنى مائة ألف من اليونان ثلاثمائة ألف من الفرس. وإلى غربها قليلا نجد لوكترا حيث كسب أباميننداس أول نصر عظيم له على الإسبارطيين.

وإلى غرب لوكترا بقليل يرتفع جبل هليكون موطن ربات الشعر “وهبكرين الحيية” التي تغنى بها كيتس ، وهي الينبوع الذائع الصيت، ينبوع الجواد الذي تؤكد لنا الأساطير أنه نبع منه الماء حين ضرب بجسوس الجواد المجنح الأرض بقدمهِ وهو يصعد إلى السماء. وإلى شمال هذا النبع مباشرة تقوم مدينة ثسبيا التي لا ينقطع النزاع بينها وبين طيبة وبالقرب منها يوجد النبع الذي أبصر فيه نارسس خياله- أو خيال أخته الميتة التي كان يحبها على ما جاء في قصة أخرى”.

هزيود..

ويواصل الكتاب عن الشاعر هزيود: “وفي بلدة أسكرا الصغيرة بالقرب من ثسبيا كان يعيش ويكدح الشاعر هزيود الذي لا يعلو عنه في حب اليونان الأقدمين إلا هومر وحده.

وتقول الرواية المتواترة إن هذا الشاعر ولد في عام 846 وتوفي في عام 777، ولكن بعض العلماء المحدثين يؤرخون تاريخه إلى حوالي 650، وأكبر ظننا أنه عاش قبل التاريخ الأخير بمائة عام. وكان مولده في سيمي من أعمال إيوليا في آسية الصغرى، ولكن والده حاقت بهِ الفاقة فيها فهاجر إلى أسكرا التي يصفها هزيود بأنها “بائسة في الشتاء، لا تطاق في الصيف، وليس فيها خير في وقت من الأوقات” كمعظم الأماكن التي يعيش فيها الناس.

وبينما كان هزيود الغلام الراعي والعامل في المزرعة يسير وراء قطعانه على سفوح جبال هليكون صاعدا تارة ونازلا تارة أخرى خيل إليه أن ربات الشعر قد نفثت في جسمهِ روح الشعر فأخذ يكتبه ويغنيه ويكسب الجوائز في المباريات الموسيقية، ويقول البعض إنه فاز على هومر نفسه.

وإذ كان ككل شاب يوناني مولعا بعجائب الأساطير، فقد كتب أنسابا للآلهة عندنا منها ألف بيت غث تسرد أسر الأرباب وملوكهم، وهي أنساب لا غنى عنها في الدين كما أن أنساب الملوك لا غنى عنها في التاريخ. وقد تغنى في بادئ الأمر بربات الشعر نفسها لأنها كانت جاراته على تل هليكون إذا جاز القول بأن الآلهة يجاورون الآدميين، وقد صور له خيال الشباب أنه يكاد يراها “ترقص بأقدامها الدقيقة” على سفح الجبل، و”وتغسل جلدها الرقيق” في الهبكرين”.

الآلهة..

وعن وصفه للآلهة يتابع الكتاب: “ثم وصف بعدئذ مولد العالم لا خلقه فأخذ يقص علينا كيف ولد إله من إله حتى ضاق أولمبس بالآلهة. ويقول إنه في بادئ الأمر عماء ثم “كانت بعدئذ الأرض العريضة الصدر المقر الثابت الأمين لجميع الآلهة المخلدين” وكان الآلهة في الدين اليوناني يعيشون إما على ظهر الأرض أو في باطنها، وهم على الدوام قريبون من الناس.

ثم جاء بعدئذ طرطروس إله العالم السفلي ثم جاء بعده إروس أو الحب “أجمل الآلهة” كلهم. وولد للعماء الظلمة والليل وولِد لهذين الأثير والنهار وولدت الأرض الجبال والسماء وولد من اقتران السماء والأرض الأقيانوس أي البحر. والمؤلفون الإنجليز يبدءون هذهِ الأسماء بالحروف الكبيرة ولكن هذهِ الحروف لم يكن لها وجود في اللغة اليونانية أيام هزيود، ومبلغ علمنا أنه لم يكن يقصد بهذا كله أكثر من أن العالم في بادئ الأمر كان عماء، ثم نشأت الأرض وما في باطنها، والليل والنهار والبحار؛ وأن الشهوة هي التي أوجدت كل شيء ولعل هزيود كان فيلسوفا ألهم الشعر فأخذ يجسد المعاني المجردة وينشئ منها شعرا؛ وقد لجأ إمبدقليز إلى تلك الأساليب نفسها بعد مائة عام أو مائتين في صقلية. وليس بين هذا القصص الديني وبين فلسفة الأيونيين الطبيعية إلا خطوة واحدة”.

أساطير هزيود..

ويفصل الكتاب عن أساطير هزيود: “ويكثر في أساطير هزيود الهولات والدماء وهو لا يتحرج من أن يعزو إلى الآلهة أفحش الصلات الجنسية. وقد نشأ من تزاوج السماء أورانوس والأرض جي أوجيا جنس من الجبابرة  لبعضهم خمسون رأساً ومائة يد. ولم يكن أورانوس يحبهم فقذف بهم إلى طرطروس المظلمة. ولكن الأرض ساءها هذا فعرضت عليهم أن يقتلوا أباهم. وقام كرونس أحد الجبابرة بهذهِ المهنة. فابتهجت “جي الضخمة بهذا العمل وأخفته في كمين؛ ووضعت في يدهِ منجلاً، مثلم الأسنان، وأوحت إليه بالخطة التي يسير عليها. ثم جاء السماء الواسع وأحضر معه الليل، وكان السماء محبا وإلها فاحتضن الأرض وامتد حولها في جميع الجهات”.

فلما رأى كرونس ذلك بتر قضيب أبيه وألقى باللحم المقطوع في اليم، ونشأت من نقط الماء التي سقطت على الأرض آلهة الانتقام؛ ومن الزبد الذي تكون حول اللحم وهو طاف فوق الماء نشأت أفرديتي . واستولى الجبابرة على أولمبس، وأنزلوا أورانوس السماء عن عرشهِ ورفعوا عليه كرونس. وتزوج كرونس بأختهِ ريا، ولكن أبويه الأرض والسماء كانا قد تنبأ بأن أحد أبنائه سيقتله، فابتلعهم كرنس جميعاً ما عدا زيوس، الذي ولدته ريا سرا في كريت. فلما شب زيوس خلع كرونس وأرغمه على أن يُخرج أولاده من بطنهِ. وأعاد الجبابرة إلى باطن الأرض قوة وأقتدارا.

هذهِ هي الطريقة التي ولدت بها الآلهة وهذهِ هي أساليبهم كما جاء في أقوال هزيود. وهنا يجد قصة بروميثيوس البعيد النظر، جالب النار؛ ونجد كذلك فجور الآلهة الكثير الممل، وهو الفجور الذي استطاع به كثير من اليونان أن يصلوا بأنسابهم إلى هؤلاء الآلهة ولم يكن الإنسان ليظن أن الشعر الذي يروي هذا الفجور سيكون شعرا مملا خاليا من الروعة إلى هذا الحد”.

ولسنا نعرف كم من هذهِ الأساطير كانت هي القصص الشعبي الذي نشأ في ثقافة بدائية تكاد أن تكون همجية، وكم منها من تأليف هزيود نفسه، ولسنا نجد في صحف هومر الطيبة إلا القليل من هذهِ الأساطير. ولربما كان بعض الفساد الذي غمرت فيهِ هذهِ القصص آلهة جبل أولمبس في أيام النقد الفلسفي والتطور الأخلاقي ربما كان هذا البعض من خيال شاعر أسكرا القاتم النكد”.

قصيدة عن الفلاح..

وعن قصيدة هامه له:”وينزل هزيود في القصيدة الوحيدة التي لا يجادل أحد في أنها من شعرهِ من قلل أولمبس إلى السهول فيكتب شعرا زراعيا قويا في وصف حياة الفلاح. وتلك هي قصيدة الأعمال والأيام وهي عتاب طويل ونصيحة إلى أخيهِ برسيوس، وقد صوره فيها بصورة غريبة تحمل على الظن بأن هذا الأخ لا يعدو أن يكون تجسيدا أدبيا لمعنى تخيله الشاعر. وهو يقول في مطلع القصيدة: “والآن سأتحدث إليك أيها الأخ الأبله برسيوس ولا أبغي من حديثي إلا الخير لكَ”. ويقول لنا هزيود إن برسيوس هذا قد خدعه واغتصب منه ميراثه؛ ثم يحدثنا بعد هذا الاغتصاب حديثا هو أول موعظة معروفة في التاريخ تصف فضيلة الجد وكرامته، وتقول إن الشرف والكدح أوفر كرامة وأدل على الحكمة من الرذيلة والترف والخمول:

“إن من أيسر الأمور لكَ أن تختار الرذيلة وأن تختار منها أكداساً مكدسة لأن الطريق إليها معبد ومقامها جد قريب. ولكن الآلهة المخلدين قد أقاموا في سبيل الفضيلة عرق الكدح وجعلوا الطريق المؤدي إليها طويلا وعرا شاقا في بداية الأمر ولكنك إذا وصلت إلى أعلاه وجدته سهلا بحق رغم ما لقيت فيه من المشقة قبل”. ثم يضع الشاعر قواعد لأعمال الزراعة الجدية ويحدد خير أيام الحرث والغرس والحصاد، ويصوغ أقواله في أمثال فجة صقلها فرجيل فيما بعد في شعر بلغ حد الكمال. وهو يحذر برسيوس من عاقبة الإفراط في الشراب صيفاً ومن تخفيف الملابس شتاء.

ويصور شتاء بؤوتية القاسي فيقول عنه إن ريحه زمهرير تسلخ جلد الجؤذر والبحار والأنهار تضطرب مياهها بفعل ريح الشمال والغابات تنوح وأشجار الصنوبر تتساقط، والحيوانات “ترهب الثلج الأبيض”، وتأوي خائفة إلى حظائرها ومذاودها، وما أدفأ الكوخ الحسن البناء في ذلك الوقت، فهو الجزاء الأخير للكدح بشجاعة وفطنة! ففيه لا تنقطع الأعمال المنزلية مهما اشتدت العواصف، وفيه تكون الزوجة نعم العون حقا، فهي خير عوض للرجل مما سببته له من متاعب كثيرة.

ولا يستطيع هزيود أن يقطع برأي في الزوجات، وما من شك في أنه كان أعزب أو أرمل، لأن مَن كانت له زوجة حية لا يتحدث عن المرأة بهذا الغل الشديد. نعم إن الشاعر يبدأ في آخر القطعة الباقية من قصيدتهِ ثبتاً بأسماء النساء كله شهامة ومروءة، ويعيد على مسمعنا قصص تلك الأيام التي كان عدد البطلات فيها لا يقل عن عدد الأبطال وحين كانت كثرة الأرباب من النساء”.

المرأة والشر..

وعن رأي هزيود في المرأة: “ولكنه يذكر في كتابيهِ الكبيرين في اغتباط الحاقد الشامت أن معظم الشرور التي في العالم من فعل بندورا الحسناء، وأن زيوس لما غضب على بروميثيوس حين سرق النار من السماء أمر الآلهة أن تخلق المرأة لتكون هدية يونانية إلى الرجل: “فأمر هفستوس أن يمزج من فوره التراب بالماء وأن يهب المزيج صوت الرجل وقوته، وأن يجعل وجه الفتاة الحسناء جميلا كوجه الآلهات والمخلدات.

ثم أمر أثينا أن تعلمها كيف تنسج القماش المتين، وأمر أفرديتي الذهبية أن تنشر حول رأسها الرشاقة، والشهوة الملحة، والقلق الذي يتلف الأعضاء، ولكنه أمر الرسول هرمس أن يمنحها عقلا كعقل الكلاب وأخلاقاًكلها ختل ودهاء. وأطاعوا كلهم زيوس.. ووضع رسول الآلهة في جوفها صوتا جذابا؛ وسمى هذهِ المرأة بندورا لأن كل الساكنين في البيوت الأولمبية قد أهدوا إليها هدية لتؤذي بها الرجال المبدعين”.

ثم يقدم زيوس بندورا إلى إميثيوس؛ وقد حذره أخوه بروميثيوس من قبول هدايا الآلهة، ولكنه رغم هذا التحذير يشعر بأنه لا حرج عليه من أن يخضع للجمال هذهِ المرة. وكان بروميثيوس قد ترك مع إيميثيوس صندوقا خفيا عجيبا وأوصاه ألا يفتحه بحال من الأحوال.

وغلب على بندورا حب الاستطلاع ففتحت الصندوق فطار منه عشرة آلاف شر أخذت تنغص على الناس حياتهم، ولم يبقَ فيه إلا الأمل وحده. ومن بندورا، كما يقول هزيود، نشأ جنس النساء الرقيقات، ومنها نشأت سلالة مؤذية، وتسكن طوائف النساء الشديدات الأذى مع الرجال وهن لا يعنهم على الفقر المدقع بل يعنّهم على التخمة؛ وبهذهِ الطريقة وهب زيوس الرجال نساء ليكن مصدر الشر والأذى”.

ثم يقول الشاعر المذبذب بعدئذ في حسرة ولوعة إن العزوبة لا تقل شرا عن الزواج لأن الشيخوخة مع العزلة شقاء أيما شقاء، ولأن أملاك من لا ولد له تعود بعد موتهِ إلى عشيرتهِ، ولهذا فإن من مصلحة الرجل أن يتزوج وإن كان عليهِ ألا يتزوج قبل سن الثلاثين، ومن مصلحتهِ أن يكون له أولاد وإن كان من الواجب ألا يكون له أكثر من ولد واحد، حتى لا تنقسم ثروته بعد موته.

“إذا ما توج النضج فخر رجولتك، فخذ بيدك إلى بيتك زوجة راضية؛ وخير سن الزواج هي سن الثلاثين، فلا تنقص منها كثيرا ولا تزد عليها كثيرا؛واخترها عذراء حتى تطبع الأخلاق الطاهرة صدرها بطابع الحب القائم على الحكمة والعقل. ولتكن الهدية التي تهدى إليك فتاة من جيرتك معروفة لك؛ ولتكن حذرا غاية الحذر لئلا تسئ الاختيار فتكون أضحوكة لجميع مَن يسكنون حولك. وخير ما تهبه الحكمة الإلهية للإنسان امرأة جميلة فاضلة وشر ما يصيب الإنسان زوجة صغيرة تقضي كل وقتها في الطعام والشراب. إن هذهِ المرأة لتحرق بغير نار متقدة جسمك الذي أنهكته المتاعب، وتشعل النار في عظامك القوية التي في داخل جسمك وتسبب لك الشيخوخة وأنت ما تزال في عنفوان الشباب”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة