خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن حصار طراودة وعن الملك ونظام الحكم في حضارة الآخيين. وذلك في الحلقة الخامسة بعد المائة وثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الدولة..
يحكي الكتاب عن نظام الدولة في الحضارة الآخية: “ترى كيف كان هؤلاء الآخيون الأشداء السريعو الانفعال يحكمون؟ لقد كانوا في السلم تحكمهم الأسرة وفي الأزمات تحكمهم العشيرة. والعشيرة جماعة من الناس ينتسبون إلى أصل واحد ويدينون بالطاعة إلى رئيس واحد، وحصن هذا الرئيس هو منشأ المدينة ومركزها، حتى إذا ما أصبح سلطانه سنة متبعة وشريعة معترفاً بها، تجمعت حول هذا الحصن عشيرة بعد عشيرة حتى يتكون من مجموعها مجتمع سياسي من ذوي القربى.
وإذا تطلب الرئيس عملا إجماعيا من عشيرته أو مدينته دعا أحرارها الذكور إلى اجتماع عام وعرض عليهم اقتراحا قد يقبلونه وقد يرفضونه، ولكن أعظم الأعضاء شأنا هم الذين يستطيعون أن يقترحوا تغييره. ولقد كانت هذه الجمعية القروية العنصر الديمقراطي الوحيد في هذا المجتمع الأرستقراطي الإقطاعي، وكان أعظم أعضائها فائدة للدولة أفصحهم لسانا وأقدرهم على التأثير في عامة الشعب. وإنا لنشهد منذ ذلك الوقت البعيد في الشيخ نسطور الذي “يسيل صوته من لسانه أحلى من الشهد”.
وفي أوديسيوس المخاتل الذي تقع كلماته “على الناس وقع هشائش الثلج”، نشهد فيهما بداية ذلك السيل من الفصاحة الذي قُدر له أن يبلغ في بلاد اليونان مستوى أرفع مما بلغه في أية حضارة أخرى، والذي قضى في آخر الأمر على هذه الحضارة القضاء الأخير”.
صحابة الملك..
ويواصل الكتاب: “وإذا تطلب الأمر أن تعمل العشائر مجتمعة فإن رؤساءها يطيعون أوامر أقواهم سلطانا، ويتخذونه ملكا عليهم، ويدينون له بالطاعة هم وجيوشهم من الأحرار وأتباعهم من العبيد. وكان أقرب الرؤساء إلى الملك مسكنا، وأكبرهم مقاما عنده، يسمون “صحابة الملك”، وهذا هو الاسم الذي أطلق عليهم أيضا في مقدونية أيام فليب وفي معسكر الإسكندر. وكان هؤلاء الأعيان يستمتعون في البول أو المجلس بحرية القول ويخاطبونه حين يوجهون له القول على أنه “الأول بين الأنداد”.
ومن هذه الهيئات المختلفة الجمعية العامة، ومجلس الأعيان، والملك نشأت دساتير العالم الغربي الحديث كله على كثرتها واختلاف أنواعها وأسمائها.
وكان للملك سلطان عظيم ولكنه ضيق الحدود. فهو ضيق في الرقعة التي يظلها لأن مملكته صغيرة، وهو ضيق في زمانه لأن الملك معرض لأن يخلعه المجلس أو أن يخلع استنادا إلى حق سرعان ما اعترف به الآخيون وهو حق من عساه أن يكون أقوى من الملك سلطانا. وفيما عدا هذا فقد كان حكم الملك وراثيا وكانت حدود سلطانه غير واضحة المعالم. وهو قبل كل شيء زعيم عسكري شديد العناية بجيشه لأنه إذا عدمه تبينت للناس أخطاؤه. وهو يحرص على أن يكون هذا الجيش حسن العدة، والطعام، والتدريب، لديه ذخيرة من السهام المسمومة، والحراب، والخوذ، والجراميق، والرماح، والتروس، والدروع، والعربات الحربية”.
صلاحيات الملك..
وعن صلاحيات الملك يضيف الكتاب: “والملك هو الحكومة بأجمعها طالما كان الجيش يحميه، يجمع في يديه التشريع والتنفيذ والقضاء، وهو كاهن الدين الأكبر الذي يقرب القرابين باسم الشعب، أوامره هي القانون، وأحكامه نهائية لا معقب لها، ولم يكن لفظ القانون قد وجد بعد. ومن تحته المجلس الذي يجتمع أحيانا ليفصل في المنازعات الخطيرة؛ وكأنما كان هذا المجلس يضع التقاليد التي تسير عليها جميع المحاكم فيما بعد، فكان يبحث عن السوابق ويحكم على غرارها. وكان للسوابق الغلبة على القانون لأن السابقة مستمدة من العادة، والعادة هي الأخت الكبرى للقانون تنازعه سلطانه. على أن المحاكمات على أنواعها نادرة في المجتمع الهومري، وقلما نسمع فيه عن هيئات عامة للقضاء، بل كان على كل أسرة أن تدفع الأذى عن نفسها وتثأر لنفسها، وكانت أعمال العنف كثيرة تسود المجتمع”.
الرسوم..
وعن فرض الملك لرسوم يكمل الكتاب: “ولم يكن من عادة الملك أن يجني الضرائب ليقيم بها دعائم ملكه، بل كان يتلقى من حين إلى حين “هدايا” من رعاياه؛ ولو أنه كان يعتمد على هذه الهدايا وحدها لكان ملكا فقيرا بحق؛ أما مورده الأكبر فكان في أغلب الظن مستمدا من الرسوم التي يفرضها على ما ينتزعه جنوده وسفنه من الأسلاب في البر والبحر. ولعل هذا هو السبب الذي من أجله وجد الآخيون في عصر متأخر كالقرن الثالث عشر قبل الميلاد في مصر وفي كريت. فكانوا في مصر قراصنة غير ناجحين وفي كريت فاتحين عابرين. ثم نسمع عنهم فجأة وهم يستثيرون غضب الشعب بقصة عن السبي المذل، ويجمعون بذلك قوى القبائل جميعها، ويجندون مائة ألف محارب، ويبحرون بأسطول ضخم منقطع النظير مكون من نحو ألف سفينة ليجربوا حظهم ضد حراب آسيا على سهول طروادة وتلها”.
حصار طروادة ..
ويستانف الكتاب عن حصار طراودة: “ترى هل حوصرت طروادة بحق؟ لسنا نعلم أكثر من أن كل مؤرخ يوناني وكل شاعر يوناني، وأن كل سجل في معبد يوناني إلا القليل الذي لا يستحق الذكر، وكل قصة يونانية من أن هذه كلها تسلم بلا جدال بأن طروادة حوصرت؛ وأن علم الآثار قد كشف لنا عن المدينة المخربة مضاعفة عدة مرار؛ وأن القصة وأبطالها ما تزال في هذه الأيام كما كانت في آخر القرن الماضي تعد في جوهرها قصة صحيحة.
وقد جاء في نقش مصري خلفه رمسيس الثالث أن “الجزائر كانت قلقة مضطربة” حوالي 1196 ق.م، وفي بلني إشارة إلى رمسيس “الذي سقطت طروادة في أيامه”. ويرجع إرتشثنيز العالم الإسكندري العظيم تاريخ هذا الحصار إلى عام 1194 ق.م مستنداً في ذلك إلى الأنساب المتواترة التي نسقها المؤرخ – الجغرافي هكتيوس في أواخر القرن السادس قبل الميلاد.
ويتفق الفرس الأقدمون والفينيقيون مع اليونان في قولهم إن تلك الحرب العظمى قد استعرت نارها لأن أربعة من النساء الحسان قد اختطفن من بلادهن. فالمصريون على حد قولهم اختطفوا أيو من أرجوس، واليونان اختطفوا أوربا من فينيقية، وميديا من كلكيز؛ أليس من الإنصاف والحالة هذه أن يختطف باريسُ هلن؟ ويأبى استسيكورس في سنيه الأخيرة بعد أن تاب وأناب، كما يأبى هيرودوت ويوربديز من بعده، أن يعترفوا بأن هلن قد غادرت بلادها إلى طروادة؛ وكل ما في الأمر أنها ذهبت إلى مصر مكرهة وأقامت فيها اثنتي عشرة سنة حتى جاءها منلوس.
ويتساءل هيرودوت قائلاً : هل من الناس من يصدق أن الطرواديين يحاربون عشر سنين من أجل امرأة واحدة؟ ويعزو يوربديز إرسال الحملة إلى ازدياد السكان في بلاد اليونان أكثر مما تتحمله مواردها، واضطرار أهلها بسبب هذه الزيادة إلى الهجرة والتوسع. ألا ما أقدم الأسباب الحديثة التي تبرر بها الرغبة في القوة والسلطان”.
نزاع طائفتين..
وعن جوهر تلك الحرب: “على أنه لا يبعد أن تكون قصة شبيهة بهذه القصة قد استعين بها على جعل هذه المغامرة مستساغة لدى اليوناني العادي، وذلك بأن الناس في حاجة إلى الألفاظ الطنانة إذا أريد منهم أن يضحوا بحياتهم. ومهما تكن أسباب الحرب الظاهرة، فإن الذي لا شك فيه أن حقيقة أمرها وجوهرها لم تكن إلا نزاعا بين طائفتين تتنازعان السيطرة على مضيق الهسبنت والأراضي الغنية المحيطة بالبحر الأسود.
وكانت بلاد اليونان بأجمعها وغرب آسيا على بكرة أبيها ترى أنها نزاع حاسم؛ واحتشدت أمم اليونان الصغيرة لمساعدة أجممنون، كما أرسلت شعوب آسيا الصغرى العون بعد العون لطروادة. وكانت الحرب في حقيقة أمرها بداية الكفاح الذي تجدد في مراثون وسلاميس، وعند إسوس وأربيلا، وعند تور وغرناطة، وعند ليبنتو وفينا.
وليس في وسعنا أن نذكر من أحداث الحرب وما بعدها غير ما يقصه علينا الشعراء اليونان ومؤلفو المسرحيات منهم، ونحن نقبل ما يقولون على أنه أدب أكثر مما هو تاريخ، وهذا في حد ذاته مبرر قوي لاعتباره جزءا من قصة الحضارة. فنحن نعلم أن الحرب بشعة وأن الإلياذة جميلة، وأن الفن إذا عكسنا قول أرسطاطاليس قد يجعل الرعب ويطهره تبعاً لذلك بما يخلعه عليه من معنى وشكل ظريف”.
الإلياذة..
وعن الإلياذة وتصويرها للحرب: “ولسنا نقصد بقولنا هذا أن الإلياذة قد وصلت إلى حد الكمال في شكلها، إذ الحقيقة أن تركيبها مهلهل غير رصين، وأن القصص فيها متناقض تارة وغامض تارة أخرى، وأن خاتمتها ليست خاتمة بالمعنى الصحيح. غير أن كمال كل جزء على حدته يعوض ما في مجموعها الكلي من اضطراب، والقصة رغم عيوبها الصغرى لا تقل في مستواها عن مسرحيات التاريخ العظمى، ولعلها لا تقل عن مستوى التاريخ نفسه”.