قصة الحضارة (184):  احترم الأخيون المرأة وبنوا القصور الجميلة

قصة الحضارة (184):  احترم الأخيون المرأة وبنوا القصور الجميلة

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن نظام الأسرة ومكانة في حضارة الآخيين، وكذلك عن الفنون وتشكيل الحديد. وذلك في الحلقة الرابعة بعد المائة وثمانين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

مركز المرأة..

يواصل الكتاب الحكي عن النظام الأبوي ومركز المرأة فيه في الحضارة الآخية: “وكان مركز المرأة في نطاق هذا الإطار الأبوي أرقى في بلاد اليونان الهومرية منه في أيام بركليز. فهي تضطلع بدور رئيسي في القصص والملاحم من خطبة بلبس لهبوداميا إلى رقة إفجينيا وحقد إلكترا. فلا الحجاب ولا البيت بمانع لها من الخروج، بل نراها تسير حرة بين الرجال والنساء على السواء، وتشترك أحيانا في مناقشات الرجال الجدية كاشتراك هلن مع منلوس وتلمكس. ولم يكن الزعماء الآخيون إذا أرادوا أن يستثيروا غضب الشعب على طروادة يلجئون إلى المبادئ السياسية أو العنصرية أو الدينية، بل كانوا يستثيرونه بجمال النساء.

ومن أجل ذلك كان وجه هلن الجميل هو الحجة التي تذرعوا بها لإثارة حرب تهدف إلى امتلاك الأرض وإلى التجارة؛ ولولا المرأة لكان بطل هومر جلفا فظا ليس له هدف يعيش من أجله، فهي تعلمه شيئا من الأدب والمثالية ودماثة الأخلاق. ”

طريقة الزواج..

وعن طريقة الزواج في الحضارة الآخية يضيف الكتاب: “وكان الشراء طريقة الزواج، وكان الثمن عادة أثوارا أو ما يساويها يؤديه الخطيب إلى والد الفتاة. ويحدثنا الشاعر عن “العذراء حالبة الماشية”. ولم يكن الخطيب وحده هو الذي يؤدي ثمن العروس، بل كان والدها يؤدي لها أحيانا بائنة قيمة. وكانت حفلة الزفاف عائلية واجتماعية معا، وكان من مظاهرها كثرة الطعام، والرقص والمرح الذي تنطلق فيه الألسنة. “وكانوا يسيرون بالعروسين في وهج المشاعل من حجراتهما ويخترقون بهما المدينة وسط أغاني العرس العالية. وكان الشبان يرقصون وهم يدورون، وتعلو بينهم نغمات الناي والقيثارة”  ألا ما أشبه الليلة بالبارحة.

ومتى تزوجت المرأة أصبحت من فورها ربة بيتها ونالت من التكريم بقدر ما تنجب من الأبناء. وكان الحب بمعناه الحقيقي أي بوصفه حنانا وشوقا  يأتي إلى اليونان كما يأتي إلى الفرنسيين بعد الزواج لا قبله، فلم يكن هو الشرارة التي تنطلق باتصال جسمين أو تقاربهما، بل كان ثمرة الاشتراك الطويل في العناية بالبيت وشؤونه.

وفي الزوجة الهومرية من الوفاء بقدر ما في زوجها من عدمه. وليس في أشعار هومر إلا ثلاث زانيات هن كليتمنسترا، وهلن، وأفرديتي ولكن الصورة التي يرسمها لهن لا تنطبق على المرأة العادية، وإن انطبقت على الإلهات في تلك الأيام”.

الأسرة..

وعن تفاصيل الأسرة يتابع الكتاب: “وكانت الأسرة الهومرية التي أثرت فيها هذه العوامل، إذا صرفنا النظر عن مغالاة الأقاصيص التي لا وجود لها في أشعار هومر، نظاما سليما يستريح له الإنسان ويسر منه، أكثر نسائها مهذبات رقيقات وأكثر أطفالها مخلصون أوفياء. ولم يكن عمل الأمهات مقصورا على إنجاب الأبناء، بل كن يقمن فيها بكثير من الأعمال : فكن يطحنّ الحب، ويمشطن الصوف، ويغزلن، وينسجن، ويطرزن.

ولم يكن يخطن كثيرا لأن معظم الملابس لم تكن بحاجة إلى الخياطة، كما كان الطبخ في العادة من أعمال الرجال. وكن فضلا عن هذه الأعمال يلدن الأطفال ويربينهم، ويعالجهن ما يصيبهم من أذى، ويسوين ما يقوم بينهم من خصام، ويعلمنهم عادات القبيلة وأخلاقها وتقاليدها الموروثة.

ولم تكن عندهم كتب؛ فكانت الأسرة والحالة هذه أحسن نظام يرتضيه الصبيان. وكانت البنات يتعلمن الفنون المنزلية على حين يتعلم الأولاد الصيد والحرب؛ فكان الولد يدرب على صيد السمك وعلى السباحة، وحرث الأرض، ونصب الشراك وترويض الحيوانات، وتصويب السهام والحراب، وأن يعنى بنفسه في كل ما يعترضه من الأحداث في حياته التي لم يكن للقوانين فيها السلطان الكامل على الأهلين.

وإذا شب أكبر أبناء الأسرة من الذكور وبلغ سن الرجولة أصبح في غيبة أبيه رب الأسرة المسئول عنها؛ فإذا تزوج جاء بزوجته إلى بيت أبيه. وهكذا تتجدد الأجيال جيلا بعد جيل، يتغير في خلالها أفراد الأسرة على مر الأيام وتبقى الأسرة محتفظة بكيانها ووحدتها، وقد تظل محتفظة بهما عدة قرون، تضع في بوتقة البيت التي ينصهر فيها الأفراد قواعد النظام والأخلاق التي لا بد منها لقيام الحكومات على اختلاف أنواعها”.

 الفنون ..

وعن الفنون يكمل الكتاب: “وترك الآخيون إلى التجار والكتبة من أهل الطبقة الدنيا فن الكتابة الذي تلقوه في أغلب الظن من بلاد اليونان الميسنية، ذلك أنهم كانوا يفضلون الدم عن المداد واللحم عن الطين، ولسنا نجد في أشعار هومر كلها إلا إشارة واحدة للكتابة. ونجدها في سياق فذ واضح الدلالة، وهو أن لوحة مطوية تعطى لرسول ويؤمر فيها من سوف يتلقاها بأن يقتل حاملها.

وإذا ما وجد الآخيون وقتا يقضونه في ممارسة الأدب فإن ذلك لم يكن إلا حين يجدون بين الحروب والغارات فترة من الوقت يركنون فيها إلى السلم؛ ووقتئذ يجمع الملك أو الأمير أتباعه حوله، يولم لهم وليمة ويدعو شاعرا أو مغنيا جوالا ينشدهم على قيثارته شعرا ساذجا يقص أعمال الأبطال من أسلافهم الأولين. وكان ذلك شعر الآخيين وتاريخهم. ولعل هومر قد أراد كما أراد فيدياس أن ينقش صورته على ملاحمه فأخذ يقص علينا كيف طلب ألسينوس ملك القباشانيين أن يحيي أديسيوس بشيء من هذه الأغاني:

“ادع إلينا المنشد الإلهي دمدوكس، لأن الله قد اختصه دون غيره بالمهارة في الغناء.. ثم اقترب الرسول يقود المنشد القدير الذي تحبه إلهة الشعر أكثر من سائر الناس، فوهبته من نعمتها وسلطت عليه من نقمتها، فحرمته قوة البصر ولكنها وهبته نعمة الصوت الجميل”.

تشكيل الحديد..

ويحكي الكتاب عن البراعة في تشكيل الحديد لدي الأخيين: “والفن الوحيد الذي يعنى به هومر غير فنه طرق الحديد وتشكيله. فهو لا يذكر شيئا عن التصوير ولا النحت ولكنه يستجمع كل ما أوتي من إلهام ليصف المناظر المصورة بالجواهر أو المزركشة على ترس أكليز، أو المنقوشة نقشا بارزا على دبوس أديسيوس الذي يحلي به صدره. وإذا تحدث عن العمارة كان حديثه قصيرا، ولكنه يلقي على هذا الفن كثيرا من الضوء. ففي وسعنا أن نستدل من حديثه على أن المساكن العادية في عصره كانت تشاد من اللبن على أساس من الحجارة، وأرضها من الطين المطروق بالأقدام، والذي كان ينظف بحكه بأداة خشنة.

وكان السقف يتخذ من الغاب تعلوه طبقة من الطين لا تميل إلا بالقدر الذي يمكن الأمطار من النزول. وكانت الأبواب مفردة أو مزدوجة، وقد تكون لها مزالج أو مفاتيح. أما المساكن التي هي أعلى من هذه درجة فكانت جدرانها تطلى بالجبس الملون، وتزين حافاتها أو تنقش، وتعلق عليها الأسلحة والتروس والنسيج المنقوش.

ولم يكن في الدار مطبخ، ولا مدخنة، ولا نوافذ، وكان في سقف بهوها الأوسط فتحة يخرج منها بعض الدخان المنبعث من الموقد، وتخرج بقيته من باب الدار، أو تستقر صناجا على الجدران. وكانت الحمامات من المرافق التي تحتويها بيوت الأغنياء، أما غيرهم فكانوا يقنعون بوعاء من الخشب بدل الحمام. وكانوا يتخذون أثاثهم من الخشب الثقيل، وكثيرا ما كان يصقل وتحفر فيه أشكال فنية جميلة. وقد صنع إكماليوس لينلي كرسيا ذا متكأ مطعما بالعاج والمعادن النفيسة، وكذلك صنع أديسيوس له ولزوجته سريرا ضخما متينا قدر له أن يبقى مائة عام”.

تشييد القصور..

وعن الاهتمام ببناء القصور: “ومن خصائص هذا العصر أن أهله يُغفلون الهياكل ويوجهون كل عنايتهم إلى تشييد القصور، بعكس عصر بركليز فإن أهله كانوا يهملون القصور ويصرفون جهودهم في بناء الهياكل. فنحن نسمع عن “بيت باريس الفخم” الذي شاده ذلك الأمير بمعونة أمهر المهندسين في طروادة، وبقصر الملك ألسنوس الفاخر الذي كانت جدرانه من البرنز، وطنفه من عجين الزجاج الأزرق، وأبوابه من الفضة والذهب، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تصدق على الشعر أكثر مما تصدق على فن العمارة.

ونسمع كذلك الشيء القليل عن بيت أجممنون الملكي في ميسيني كما نسمع الشيء الكثير عن قصر أديسيوس في أتكا. وقد كان لهذا القصر دهليز أمامي مرصوف بعضه بالحجارة، ويحيط به سور مجصص، ويزدان بالأشجار ومذاود الخيل، وكومة من الروث الساخن ينام عليها أرجوس كلب أديسيوس في  ضوء الشمس . ويؤدي إلى داخل القصر مدخل ذو عمد ينام فيه العبيد والزائرون في كثير من الأحيان، أما داخل القصر نفسه فكان يحتوي على حجرة للانتظار تؤدي إلى بهو أوسط يستند إلى عمد يصل إليه الضوء من قمته في السقف، وفي بعض الأحيان من فتحة أخرى بين طنف البناء وعوارضه التي فوق الأعمدة. وكانت مجامر نحاسية مستقرة على قواعد عالية تضيء البيت إضاءة مضطربة غير مستقرة. وكان في وسط البهو مدفأة الدار تجتمع الأسرة حول نارها المقدسة أثناء الليل للدفء والطرب، وللتحدث عن أخبار الجيران، وعناد الأطفال، وتقلبات الأيام”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة