خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن نشأة حضارة اليونان وقصر التيه الذي اشتهرت به حضارة ايجه في تكريت.. الحلقة الثامنة والستين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
كريت..
يستمر الكتاب في الحكي عن الحضارة اليونانية: “”في وسط البحر القاتم كلون النبيذ أرض تسمى كريت، وهي أرض جميلة غنية يحيط بها الماء، وفيها خلق كثيرون يخطئهم العد، كما أن بها تسعين مدينة”. لما أنشد هومر هذه الأبيات، ولعل ذلك في القرن التاسع قبل الميلاد، كانت بلاد اليونان قد نسيت أو كادت تنسى، وإن لم ينسى الشاعر، أن الجزيرة التي بدت له عظيمة حتى في ذلك الوقت، كانت في وقت من الأوقات أعظم مما هي وقتئذ ثروة، وأنها كانت تسيطر بأسطولها القوى على معظم نواحي بحر إيجة وعلى جزء من أرض اليونان الأصيلة، وأنها قد أنشأت قبل حصار طروادة بألف عام حضارة من أعظم الحضارات الفنية في تاريخ العالم. ولعل هذه الحضارة الإيجية التي كانت قديمة بالنسبة له بقدر ما هو نفسه قديم بالنسبة لنا، هي التي عادت إلى ذاكرة هومر وهو يتحدث عن عصر ذهبي كان الناس فيه أكثر حضارة وأرق حاشية منهم في أيامه المضطربة.
ولقد كان كشف هذه الحضارة المفقودة مرة ثانية عملاً من أجل الأعمال في تاريخ علم الآثار الحديث. فها هي ذي جزيرة تبلغ مساحتها قدر مساحة أكبر جزائر السكلديز عشرين مرة، جوها جميل، تنتج حقولها غلات مختلفة، وتلالها كانت في وقت من الأوقات كثيرة الأشجار، وموقعها من أصلح المواقع للتجارة والحرب، فهي في منتصف الطريق بين فينيقية وإيطاليا، وبين مصر وبلاد اليونان”.
مينوس..
ويواصل الكتاب: “ولقد أشار أرسطاطاليس إلى هذا الموقع الحسن وذكر أنه “هو الذي مكن مينوس Minos من إقامة إمبراطورية لها في بحر إيجة”. ولكن قصة مينوس، التي يسلم بصحتها كل الكتاب الأقدمين، قد رفضها الكتاب المحدثون وعدوها خرافة من الخرافات. وقد كان من عادة المؤرخين قبل أيامنا هذه بستين عاماً لا أكثر أن يقولوا كما قال جروت Grote إن تاريخ الحضارة في بحر إيجة يبدأ بغزو الدوريين أو بعصر الألعاب الأولمبية.
ثم حدث في عام 1878 أن عثر تاجر كريتي يسمى مينوس كلكيرنوس وهو اسم من أليق الأسماء للكشف الذي وفق إليه عثر هذا التاجر على آثار قديمة في سفح أحد التلال القائمة في جنوب قندية. وزار شليمان العظيم هذا الموقع في عام 1886، بعد أن لم يمض على كشفه عن ميسيني وطروادة إلا زمن قليل، وأعلن عن اعتقاده بأن تحت ثراه آثار مدينة كنوسس القديمة، وأخذ يفاوض مالك في أن يسمح له ببدء أعمال الحفر على الفور، ولكن المالك أخذ يساوم وحاول أن يمكر به؛ وكان شليمان تاجراً قبل أن يكون عالم آثار، فتركه مغضباً، وأضاع بذلك فرصة ذهبية لو اغتنمها لأضاف هو حضارة جديدة إلى حضارات التاريخ، ومات بعد عام واحد من ذلك الوقت.
وفي عام 1893 ابتاع دكتور آرثر إيفنز عالم الآثار البريطاني من امرأة في أثينة عدداً من الحجارة البيضاء كانت تمائم، وقد أدهشه ما كان محفوراً عليها من كتابة أثرية لم يكن في وسع عالم من العلماء أن يقرأها. ومازال يتقصى مصدر هذه الحجارة حتى عرف أنها من كريت، فحصل على إذن بالسفر إليها، وأخذ يطوف في أنحاء الجزيرة ويجمع منها ما يعتقد أنه نماذج للكتابة الكريتية القديمة. وفي عام 1895 ابتاع جزءاً من الموقع الذي كان شليمان والمدرسة الفرنسية يعتقدان أنه موقع كنوسس وبعد أن قضى تسعة أسابيع من ربيع ذلك العام يحفر فيه مستخدماً في ذلك خمسين رجلاً أماط اللثام عن أعظم ما أسفرت عنه البحوث التاريخية الحديثة من كنوز، نقصد بذلك قصر مينوس.
وليس فيما كشف من الصروح القديمة صرح يعادل هذا الصرح المعقد في اتساعه، وأكبر الظن أنه هو قصر التيه الذي لا نهاية له، والذي اشتهر فيما يروي من القصص اليونانية القديمة عن مينوس، وديدلس، وثيسيوس، وأدرياني والمينوتور وكأنما شاءت الأقدار أن تؤيد ما أوحت به قريحة إيفنز إليه، فعثر في هذه الخربات وفي غيرها على آلاف من الأختام وألواح الصلصال، عليها رموز تشبه الرموز التي إلى كريت يتعقبها، وكانت النيران التي دمرت قصور كنوسس قد حفظت هذه الألواح، ولا يزال ما عليها من الكتابة التصويرية ومن الحروف الهجائية غامضاً يخفي قصة بحر إيجة القديمة” .
تاريخ كريت..
وعن كشف تاريخ كريت يتابع الكتاب: “ولما ذاع نبأ هذا الكشف هرع العلماء إلى كريت من كثير من الأقطار. وبينما كان إيفنر يعمل في كنوسس كشف جماعة من الإيطاليين ذوي الجلد والعزيمة هلبهير، وبرنيير، وسفنيوني وبربيني في حاجيا تريادا “الثالوث المقدس” تابوتاً عليه صور من الحياة الكريتية واضحة الدلالة، كما كشفوا في فستس فن قصر لا يفوقه في سعته إلا قصر ملوك كنوسس. وفي هذه الأثناء كان اثنان من الأمريكيين هما سيجر ومستر هوس يقومان بأعمال الكشف في حفائر فاسلكي، ومكلوس، وجورنيا؛ وكان البريطانيون- هوجارث ، وبوسنكوت ، ودوكنز ، وميرز ينقبون في بليكسترو وبسيكرو وزكرو .
وأهتم أهل كريت أنفسهم بأعمال الحفر والتنقيب في ديارهم، فأخذ زنثو ديديز وهتزيداكس يحفران في مواقع المساكن والمغارات والمقابر القديمة في أركلوكوري ، وتيليس، وكومازا، وشميزي، وانضوت نصف الأمم الأوربية تحت لواء العلم في الوقت الذي كان فيه ساستها يستعدون للحرب.
ترى كيف تصنف هذه المادة الكثيرة هذه القصور، والرسوم، والتمثيل والأختام، والمزهريات والمعادن، والألواح، والنقوش؟ وإلى أي عصر من العصور الغابرة تضم؟ وقد أرخ إيفنزما كشف من الآثار حسب عمق الطبقات الأرضية التي وجدت فيها، وما طرأ على أنماط الخزف من تطور تدريجي، وما بين الآثار التي كشف في كريت وما كشف في غيرها من البلاد من تشابه في الشكل أو في الغرض الذي صنعت من أجله، والموازنة بين الطبقات التي كشفت فيها والطبقات التي يعرف تاريخها على وجه التقريب في غير كريت. وما من شك في أن هذه الطريقة لا تسلم من الخطأ، ولكن البحوث التي أجريت فيما بعد، وما حصل عليه العلماء من معلومات جديدة، تؤيدها تأييدا يتزايد على مر الأيام.
وظل إيفنز يواصل أعمال الحفر تحت كنوسس حتى قابلته على بعد ثلاث وأربعين قدماً من سطح الأرض الصخور الصماء، وكان النصف الأسفل من الأرض التي حفرها تشغله بقايا عليها طابع العصر الحجري الحديث من أشكال بدائية لفخار مصنوع باليد، محلى برسوم مكونة من خطوط بسيطة، ومن لوالب مغازل تستخدم في الغزل والنسيج، ومن إلهات ذوات أعجاز ضخمة من الحجر الصابوني أو الصلصال، وأسلحة وحجارة مصقولة؛ ولم يكن من تلك البقايا أدوات من النحاس أو البرنز”.
حضارة كريت..
وعن تصنيف حضارة كريت يكمل الكتاب: “وصنف إيفنز الفخار ووازنه بما وجد منه في مصر القديمة وبلاد النهرين، وعلى أساس هذا التصنيف قسم ثقافة كريت فيما بعد العصر الحجري الحديث وفي عصر ما قبل التاريخ ثلاثة عصور: العصر المينوي المبكر، والمينوي الأوسط، والمينوي المتأخر. ثم قسم كل عصور من هذه العصور إلى ثلاثة أطوار.
ويمثل أول ظهور النحاس أي أبعد الطبقات التي ظهر فيها عن سطح الأرض قيام حضارة جديدة قياما بطيئا من مرحلة العصر الحجري الحديث. وقبل أن يحل العصر المينوي المبكر كان الكريتيون قد عرفوا كيف يخلطون النحاس بالقصدير، وبدأ بذلك عصر البرنز، وفي الطور الأول من العصر المينوي الأوسط تظهر أقدم القصور: فيقيم أمراء كنوسس، وفستوس، وماليا لأنفسهم مساكن مترفة كثيرة الحجرات، ومخازن واسعة، وحوانيت متخصصة، ومذابح وهياكل، ومجاري تبهر المتكبر الغربي المتعجرف، وتجعله يغض الطرف منها استحياء .
ونرى الفخار ذا ألوان كثيرة براقة، والجدران تزينها مقرنصات ساحرة جميلة، ونرى نوعاً من الكتابة الحرفية قد تطور من الكتابة التصويرية التي كانت في العصر السابق.
وفي نهاية الطور الثاني من العصر المينوي الأوسط حلت بالبلاد كارثة عجيبة تركت ما يدل عليها في الطبقات الأرضية. فقد تهدم قصر كنوسس كأن الأرض قد انشقت فحطمته، أو لعل ذلك كان على أثر غارة قامت بها فستوس التي ظل قصرها باقيا بعد ذلك فترة من الزمان. ثم أصاب فستوس ومكلوس، وجورنيا وبليكسترو، ومدناً أخرى كثيرة في الجزيرة، ما أصاب كنوسس من تخريب، فترى الفخار قد غطاه الرماد، والجرار الكبيرة في المخازن ملآى بالأنقاض.
أما الطور الثالث من العصر المينوي الأوسط فطور ركود نسبي، وقد يكون هو الطور الذي اضطربت فيه أحوال البلاد الواقعة في جنوب البحر الأبيض المتوسط على أثر فتح الهكسوس مصر، ودام اضطرابها زمنا طويلاً .
وفي العصر المينوي المتأخر يبدأ كل شيء من جديد، فتتجدد آمال الإنسانية التي تصبر على كل بلوى، وتسري فيها روح الشجاعة، وتبدأ الحياة مرة أخرى، فتقوم قصور جديدة أجمل من القصور السابقة في كنوسس، وفستوس، وتليسوس، وحاجيا تريادا، وجورنيا، فتعمها الفخامة، وتكثر المباني ذوات الأطباق الخمسة، والنقوش البديعة، وتوحي المباني الفخمة بأن أحوال البلاد قد بلغت من الثراء ما لم تعرفه بلاد اليونان حتى عصر بركليز”.
رخاء..
وعن الرخاء في تلك الحضارة: “هنالك ترى دور التمثيل قد شيدت في أفنية القصور، وترى النساء والرجال يجالدون الوحوش لتسلية الرجال والسيدات؛ وهؤلاء ما تزال وجوههم الأرستقراطية اليقظة الهادئة حية في المظلمات البراقة الباقية على الجدران الجديدة. وتتضاعف حاجات الأهلين، وترق أذواقهم، وتزدهر الآداب، وتنشأ مئات من الصناعات، فيستطيع الفقراء أن يستمتعوا بالرخاء وهم يعملون ليمدوا الأغنياء بأسباب الراحة والنعيم. وترى أبهاء الملوك تدوي فيها أصوات الكتبة وهو يحصون السلع التي يوزعونها أو يتسلمونها، وأصوات الفنانين وهو ينحتون التماثيل، أو يرسمون الصور، أو يصنعون الفخار، أو ينقشون النقوش؛ وأصوات كبار الموظفين يعقدون المؤتمرات، ويستمعون إلى القضايا المستأنفة أحكامها إليهم، أو يبعثون بالأوراق مبصومة بأختامهم الجميلة الدقيقة الصنع؛ بينما ترى الأمراء ذوي الخصر النحيل والأميرات المحلات بالجواهر، المغريات، العاريات النحور، يجتمعون في وليمة ملكية يقدم لهم فيها الطعام على موائد تتلألأ عليها صحاف البرنز والذهب. لقد كان القرنان السادس عشر والخامس عشر قبل الميلاد هما العهد الذي بلغت فيها الحضارة الإيجية ذروة مجدها وهما عصر كريت الذهبي القديم”.