خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن أثر الفلسفة الصينية في أوربا، وكيف أن الفيلسوف جونج- دزه كان صوفيا زاهدا ينتمي للطبيعة وسحرها. وذلك في الحلقة السادسة والستين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
أثر الفلسفة الصينية في أوربا..
يحكي الكتاب عن تأثير الفلسفة الصينية علي أوروبا: “لقد كان جونج- دزه مولعاً بالطبيعة يرى أنها سيدته التي تتحفي به على الدوام مهما كان بغيه أو كانت سنه، ومن أجل هذا فاضت فلسفته بأحاسيس روسو الشعرية مضافاً إليها مُلَحُ فلتير الهجائية. ومن ذا الذي يستطيع أن يتصور أن منشيس ينسى نفسه بحيث يصف أحد الناس بأن له: “جدرة كإبريق من الفخار”، وقصارى القول أن جونج أديب وفيلسوف معاً.
ولد هذا الفيلسوف في ولاية سونج، وتقلد وقتاً ما منصباً صغيراً في مدينة خيان. وزار قصور الملوك التي زارها منشيس، ولكن كلا الرجلين لا يذكر فيما بقي لنا من كتاباته اسم الآخر. ولعل كليهما كان يحب صاحبه كما يحب المعاصرون بعضهم بعضاً. ويروى عنه أنه رفض منصبا كبيرا مرتين. ولما عرض عليه دوق ويه رياسة الوزارة رد على رسول الملك ردا مقتبضا يدل على ما يتراءى للكاتب من أحلام: “اذهب من هنا لساعتك ولا تدنسني بوجودك، لخير لي أن أسلي نفسي وأمتعها في حفرة قذرة من أن أخضع لقواعد في بلاط ملك من الملوك”.
وبينما كان يصطاد السمك في يوم من الأيام إذ أقبل عليه رجلان من كبار الموظفين يحملان إليه رسالة من ملك خو يقول فيها: “أريد أن أحملك عبء جميع ملكي”، فأجابه جونج، كما يقول هو نفسه، دون أن يرفع نظره عن صيده:
“لقد سمعت أن في خو صدفة سلحفاة كأنها روح من الأرواح، وقد ماتت سلحفاتها منذ ثلاثة آلاف عام، وأن الملك يحتفظ بهذه الصدفة في معبد أسلافه، وأنه يضعها في سلة مغطاة بالقماش. فهل كان خيرا للسلحفاة أن تموت وتترك صدفتها تعظم على هذا النحو؟ أو هل كان خيرا لها أن تظل حية تجر ذيلها من خلفها في الوحل؟” فأجاب الموظفان الكبيران: “لقد كان خيرا لها أن تعيش وتجر ذيلها من خلفها في الوحل” فقال لهما جونج: “اذهبا في سبيلكما، وسأظل أجر ذيلي ورائي في الوحل”.
الحكم الذاتي..
وعن تصوره عن الحكم الذاتي يواصل الكتاب: “وكان احترامه للحكومات يعدل احترام سلفه الروحي لو- دزه، فكان يسره أن يشير إلى عدد ما يتصف به الملوك والحكام من صفات اللصوص. ويقول إنه إذا أدى الإهمال بأحد الفلاسفة الحقيقيين، فرأى نفسه يتولى شؤون إحدى الدول، فإن الخطة المثلى التي يجب عليه أن يسلكها هي أن لا يفعل شيئاً، وأن يترك الناس أحرارا يضعون ما يشاءون من نظم حكمهم الذاتي.
“لقد سمعت عن ترك العالم وشأنه والكف عن التدخل في أمره ولم أسمع عن حكم العالم” ولم يكن ثمة حكومات في العصر الذهبي الذي سبق عهد أقدم الملوك.
ولم يكن يو وشون خليقين بما حبتهما الصين وحباهما كنفوشيوس من تشريف وتعظيم، بل كانا خليقين بأن يتهما بالقضاء على ما كانت الإنسانية تستمتع به من سعادة بدائية قبل إقامة نظم الحكم في الحكم في العالم: “لقد كان الناس في عهد الفضيلة الكاملة يعيشون مجتمعين كما يعيش الطير والحيوان، ولا يفترقون عنهما في شيء، تتألف منهم ومن جميع المخلوقات أسرة واحدة. وأنى لهم أن يعرفوا فيما بينهم ما يميز العظماء فيهم من غير العظماء؟”.
ويرى جونج أن من واجب الرجل العاقل أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك، ينشد السلام والسكون في الغابات (وذلك موضوع جد آلاف من المصورين الصينيين في رسمه)”.
الدو المقدس..
وعن إتباع البساطة يضيف الكتاب “وأن يترك كيانه كله يتبع الدَّو المقدس قانون حياة الطبيعة ومجراها الذي لا تدركه العقول من غير أن يعوقه في ذلك تفكير أو تدبير، لا يتكلم إلا قليلاً لأن الكلام يضل بقدر ما يهدى، ولأن الدَّو طريقة الطبيعة وجوهرها لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ أو في أفكار، بل كل ما في الأمر أنه يمكن الشعور به في الدم. وهو يرفض أن يستعين بالآلات ويؤثر عليها الطرق القديمة المجهدة التي كان يجري عليها بسطاء الرجال، وذلك لأن الآلات تؤدي إلى التعقيد والفتنة وعدم المساواة بين الناس، وليس في مقدور أي إنسان أن يعيش بين الآلات ويستمتع بالسلام.
وهو يأبى أن يكون له ملك خاص ولا يجد للذهب نفعاً له في حياته؛ ويفعل ما فعله تيمن الأثيني فيترك الذهب مخبوء في جوف التلال واللآلىء في أعماق البحار. والذي يمتاز به من غيره أنه يفهم أن الأشياء جميعها تخص خزانة واحدة وأن الموت والحياة يجب أن ينظر إليهما نظرة واحدة”، على أنهما نغمتان من أنغام الطبيعة المتناسقة أو موجتان في بحر واحد”.
النظرة الصوفية لوحدة الكون..
ويتابع الكتاب: “وكان الأساس الذي يقوم عليه تفكير جونج عين الأساس يقوم عليه تفكير لو- دزه شبه الأسطوري، وكان تفكير لو- دزه هذا يبدو لجونج أعمق كثيراً من تفكير كنفوشيوس، وكان في جوهره النظرة الصوفية لوحدة الكون غير الشخصية الشبيهة شبها عجيبا بنظرة بوذا وأتباع أبانيشاد، حتى ليكاد المرء يعتقد أن فلسفة ما وراء الطبيعة الهندية قد تسربت إلى الصين قبل أربعمائة عام من ظهور البوذية فيها حسبما يسجله المؤرخون. نعم إن جونج فيلسوف لا أدري، جبري، من القائلين بالحتمية ومن المتشائمين، ولكن هذا لا يمنعه أن يكون قديساً متشككاً، ورجلاً أسكرته الدَّرَّية؛ وهو يعبر عن تشككه هذا تعبيراً يميزه من غيره من أمثاله في القصة الآتية:
قال شبه الظل يوماً ما للظل” إنك تارة تتحرك وتارة تثبت في مكانكـ تارة تجلس وتارة تقوم. فلم هذا التذبذب في القصد وعدم الاستقرار فيه؟” فأجابه الظل بقوله: “إن شيئاً أعتمد عليه هو الذي يجعلني أفعل ما أفعله، ولكن هذا الشيء نفسه يعتمد على شيء آخر يضطره إلى أن يفعل هو الآخر ما يفعله… وأنى لي أن أعرف لم أفعل هذا الشيء ولا أفعل ذاك؟… إن الجسم إذا بلى بلى العقل معه؛ ألا ينبغي لنا أن نقول إن هذه حال يرثى لها كثيراً؟… إن ما يحدث في الأشياء كلها من تغيير- وجود ثم عدم- يسير (بلا انقطاع)؛ ولكننا لا نعرف من ذا الذي يسير هذه الحركة في طريقها على الدوام: وأنى لنا أن نعرف متى يبدأ الواحد منا؟ وأنى لنا أن نعرف متى ينتهي؟ إن كل ما في وسعنا أن ننتظر هذه البداية والنهاية، لا أكثر من هذا ولا أقل”.
ويظن جونج أن هذه المشاكل إنما تنشأ من قصر تفكيرنا أكثر مما تنشأ من طبيعة الأشياء نفسها. فلا عجب والحالة هذه أن تنتهي الجهود التي تبذلها عقولنا الحبيسة لفهم العالم الأكبر الذي تكون هي جزيئات صغيرة منه، لا عجب أن تنتهي هذه الجهود بالمتناقضات والقوانين المتعارضة. ولقد كانت هذه المحاولة التي ترمي إلى تفسير الكل بإصلاحات الجزء إسرافاً في التطاول والاعتداد بالنفس، لا نجيزها إلا لما فيها من تسلية وفكاهة؛ لأن الفكاهة، كالفلسفة، هي النظر إلى الكل بمصطلحات الجزء، وكلاهما لا يمكن وجوده بغير الآخر.
ويقول جونج- دزه إن العقل لا يفيد في فهم الأشياء الغائية أو أي شيء عميق كنمو الطفل مثلاً. “وليس الجدل إلا دليلاً على عدم وضوح الرؤيا”، وإذا أراد الإنسان أن يفهم الدَّو “فعليه أن يكبت علمه أشد الكبت”إن من واجبنا أن ننسى نظرياتنا ونشعر بالحقائق؛ وليس التعليم بنافع لنا في هذا الفهم، وأهم شيء في هذا أن نلقي بأنفسنا في غمرات الطبيعة”.