18 ديسمبر، 2024 9:58 م

قصة الحضارة (164):  أمن غاندي بالزهد والعدالة والمساواة

قصة الحضارة (164):  أمن غاندي بالزهد والعدالة والمساواة

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن غاندي، عن أخلاقه ومبادئه الإنسانية وسعيه إلي نصرة وطنه ونصرة الفقراء . وذلك في الحلقة الرابعة والستين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

مهاتما غاندي..

انتقل الكتاب إلي الحكي عن “غاندي”:  ” له وجه وجسد كأنما صيغا من البرونز رأسه الأشيب حليق الشعر حتى الجذور، عظمتا صدغيه بارزتان وعيناه البنيِّتان تشعان طيبة قلب، وفمه واسع يوشك أن يخلو من الأسنان، وأكبر من فمه أذناه، وأنفه ضخم، نحيل الذراعين والساقين، يرتدي ثوب على ردفيه، صور لنفسك هذا الرجل واقفا أمام قاض إنجليزي في الهند، متهما بتحريض قومه على “عدم التعاون”؛ أو صوره جالسا على بساط صغير في غرفة عارية في مقره المسمى “سايا جراها شرام”  ومعناها “مدرسة طلاب الحقيقة” في أحمد أباد، وقد ربَّع ساقيه النحيلتين تحت جسمه على نحو ما يفعل “اليوجي” وبطن القدمين إلى أعلى، ويداه لا تنفكان تعملان في عجلة المغزل ووجهه تغضن بتقلصات تنم عن عبء التبعة الذي حمله، وعقله نشيط الحركة مستعد بالجواب عن كل من يسأل سؤالاً عن الحرية.

هذا النسَّاج العريان كان هو الزعيم الروحي والزعيم السياسي في آن معا لأمة من الهنود بلغ عددها ثلاثمائة وعشرين مليونا من الأنفس، وامتدت زعامته من 1920 إلى 1935، فإذا ما ظهر للناس، التفت حوله جماعات حاشدة لتتبرك بلمس ثيابه أو تقبيل قدميه”.

غزل الملابس..

ويواصل الكتاب عن عمل غاندي في الغزل: “كان ينفق كل يوم أربع ساعات في غزل “الخضار” الخشن راجياً أن يسوق بنفسه للناس مثلاً يحتذونه فيستخدمون هذا القماش الساذج المغزول في داخل البلاد، بدل شرائهم منتجات المغازل البريطانية التي جاءت خراباً على صناعة النسيج في الهند؛ كان كل ما يملك ثلاثة أثواب غلاظ، اثنان يتخذهما لباساً، والثالث يتخذه فراشاً، وقد كان بادئ أمره محامياً غنياً، لكنه تنازل عن كل أملاكه للفقراء.

ثم تبعته في ذلك زوجته بعد شيء من التردد نعهده في الأمهات؛ كان ينام على أرضية الغرفة عارية، أو على تربة الأرض، يعيش على البندق والموز والليمون والبرتقال والبلح والأرز ولبن الماعز، وكثيراً ما كان يقضي الشهور متتابعات لا يأكل إلا اللبن والفاكهة، ولم يذق طعم اللحم إلا مرة واحدة في حياته، وكان حيناً بعد حين يمتنع عن الطعام إطلاقاً بضعة أسابيع وهو يقول: “لو استطعت أن استغني عن عينيّ، استطعت كذلك أن أستغني عن صيامي، فما تفعله العينان للدنيا الخارجية يفعله الصوم للدنيا الباطنية”.

الصوم..

ويضيف الكتاب عن صوم غاندي: “فقد كان يعتقد أنه كلما رق الدم صفا العقل وسقطت عنه النوازع التي تنحرف به عن جادة الطريق، بحيث تبرز أمامه الجوانب الأساسية بل قد تبرز أمامه روح العالم وصميمه  بعد أن تنفض عنها الأعراض (واسمها مايا) كما يبرر إفرست خلال السحاب.

وفي نفس الوقت الذي كان يصوم فيه عن الطعام ليشهد الروح الإلهية، لم يفُته أن يحتفظ بإصبع من أصابع قدمه على الأرض، وكان ينصح أتباعه أن يحقنوا أنفسهم في الشرج مرة كل يوم إبان الصوم، حتى لا تتسمم أبدانهم بالإفرازات الحمضية التي يفرزها الجسد وهو يستهلك بعضه، وقد يصاب الجسد بهذا السم في نفس اللحظة التي يتاح فيها للإنسان أن يشهد الله.

ولما اقتتل المسلمون والهندوس، وأخذوا يصرعون بعضهم بعضاً مدفوعين بحماسة دينية، ولم يصيخوا إلى دعوته إياهم للسلام، صام ثلاثة أسابيع رجاء أن يحرك العطف في نفوسهم، ولقد أدى به الصيام والحرمان الذي كان يفرضه على نفسه، إلى ضعف وهزال، بحيث لم يكن بد من اعتلائه مقعداً مرفوعاً كلما أراد توجيه الخطاب للحشود العظيمة التي كانت تجتمع لتسمعه”.

زهد..

وعن نزوعه إلي الزهد يكمل الكتاب: “ومدَّ زهده حتى شمل به نطاق العلاقة الجنسية، وأراد  كما أراد تولستوي  أن يحصر عملية الجماع فلا يلجأ إليها إلا إذا قصد إلى التناسل، وكان هو كذلك قد أنفق شبابه منغمساً في شهوات بدنه، حتى لقد جاءه نبأ موت أبيه وهو يحتضن إحدى الغانيات، أما في رجولته فقد عاد والندم الشديد يأكل قلبه  إلى “براهما شاريا” التي لُقِّنَها في صباه وهي الامتناع التام عن كل شهوة جسدية؛ وأقنع زوجته أن تعيش معه كما تعيش الأخت مع أخيها، وهو يروي لنا أنه “منذ ذلك الوقت بطل بيننا كل نزاع”.

ولما تبين له أن حاجة الهند الأساسية هي ضبط النسل، لم يصطنع في سبيل ذلك وسائل الغرب، بل اتبع طرائق “مالتوس” و “تولستوي”.

“أنكون على صواب إذا ما نسلنا الأطفال ونحن نعلم حقيقة الموقف؟ إننا لا نفعل سوى أن نضاعف عدد العبيد والمقعدين، إذا مضينا في التكاثر بغير أن نتخذ إزاءه شيئاً من الحيطة. لن يكون لنا حق النسل إلا إذا أصبحت الهند أمة حرة. ليس إلى الشك عندي من سبيل في أن المتزوجين إذا أرادوا الخير بأمتهم وأرادوا للهند أن تصبح أمة من رجال ونساء أقوياء وسيمين ذوي أبدان جميلة التكوين، كان واجبهم أن يكبحوا جماح أنفسهم ويوقفوا النسل مؤقتا”.

المسيحية..

ويحاول الكتاب ربطه بالمسيحية بدون مبرر منطقي: ” وإلى جانب هذه العناصر في تكوين شخصيته، كان يتصف بخلال عجيبة الشبه بتلك الخلال التي يقال إنها كانت تميز “مؤسس المسيحية”؛ إنه لم يَفُه باسم المسيح، ولكنه مع ذلك كان يسلك في حياته كما لو كان يأخذ بكل كلمة مما جاء في “موعظة الجبل”؛ فلم يعرف التاريخ منذ القديس فرنسيس الأسيسي رجلاً اتصفت حياته بمثل ما اتصفت به حياة غاندي من وداعة وبُعْد عن الهوى وسذاجة وعفو عن الأعداء؛ وإنه لمما يذكر حسنةً لمعارضيه، لكنها حسنة أكبر بالنسبة له هو، أن حسن معاملته لهم ولم يكن ذلك محل مقاومة منهم قد استثار فيهم معاملة حسنة له من جانبهم؛ فلما أرسلته الحكومة إلى السجن، فعلت ذلك مصحوباً بفيض من الاعتذارات، ولم يبد هو قط شيئاً من حقد أو كراهية؛ وقد هجم الغوغاء عليه ثلاث مرات، وضربوه ضرباً كاد يودي بحياته لكنه لم يردَّ العدوان بعدوان مثله أبداً، ولما قبض على أحد المعتدين عليه، أبى أن يتوجه إليه بالاتهام.

ولم يلبث بعد ذلك أن نشبت بين المسلمين والهندوس أفظع ما نشب بينهم من فتن، وذلك حين ذبح مسلمو “موبلا” مئات من الهندوس العزَّل، وقدموا “غلفاتهم” لله قرباناً، ثم حدث لهؤلاء المسلمين أنفسهم أن أصابتهم المجاعة، فجمع لهم غاندي أموالاً من أرجاء الهند كلها، وقدم كل المال المجموع، بغير نظر إلى السوابق، وبغير أن يستقطع منه جزءاً لأحد ممن قاموا بجمعه، قَدَّمه للعدو الجائع”.

حياة غاندي..

ويفصل الكتاب عن حياة غاندي: “ولد “موهانداس كارام شاند غاندي” سند 1869، وتنتمي أسرته إلى طبقة “فاسيا” وإلى المذهب الجانتي ومن مبادئها التي مارستها مبدأ “أهِمْسا” وهو ألا ينزل أحد الأذى بكائن حي، وكان أبوه أدرياً قادراً، لكنه كان من زنادقة الممولين، فقد فقدَ منصباً في إثر منصب بسبب أمانته، وأنفق ماله كله تقريباً في سبيل الإحسان، وترك ما تبقى منه لأسرته ولما كان “موهانداس” في صباه أنكر الآلهة إذ أساء إلى نفسه أن يرى أعمال الدعارة ماثلة في بعض آلهة الهندوس، ولكي يعلن ازدراءه للدين ازدراء أبدياً، أكل اللحم، لكن أكل اللحم أضرَّ بصحته، فعاد إلى حظيرة الدين.

ولما بلغ الثامنة خطب عروسه، وفي الثانية عشرة تزوج منها وهي “كاستورباي” التي ظلت على وفائها له خلال مغامراته كلها وغناه وفقره وسجنه وما تعرض له من “براهما شاريا” أي اعتزام العفة الجنسية؛ وفي سن الثامنة عشرة نجح في امتحانات الدخول في الجامعة، وسافر إلى لندن ليدرس القانون، ولما كان في السنة الأولى هناك، قرأ ثمانين كتاباً عن المسيحية؛ وقال عن “موعظة الجبل” “إنها غاصت إلى سويداء قلبي عند قراءتها للمرة الأولى” واعتبر مبدأها بأن يُرَدَّ الشر بالخير وأن يحب الإنسان كل الناس حتى الأعداء، أسمى ما يعبر عن المثل الأعلى الإنساني، وصمم على أن يؤثر الفشل بهذه المبادئ على النجاح بغيرها.

ولما عاد إلى الهند سنة 1891 مارس المحاماة حيناً في بمباي؛ فكان يرفض أن يتهم أحد من أجل دينه، ويحتفظ لنفسه دائماً بحق ترك القضية إذا ما وجد أنها تتنافى مع العدل؛ وقد أدت به إحدى القضايا إلى السفر إلى جنوبي أفريقيا، فوجد بني قومه هناك يلاقون من سوء المعاملة ما أنساه العودة إلى الهند، واتجه بجهده كله  بغير أجر  إلى قضية بني وطنه في أفريقيا ليزيل عنهم ما كان يصفدهم هناك من أغلال؛ ولبث عشرين عاماً يجاهد للوصول إلى هذه الغاية حتى سلمت له الحكومة بمطالبه، وعندئذ فقط عاد إلى أرض الوطن”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة