18 ديسمبر، 2024 9:36 م

قصة الحضارة (162):  تمتع “طاغور” بإحساس مرهف كالمتصوفين

قصة الحضارة (162):  تمتع “طاغور” بإحساس مرهف كالمتصوفين

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب في الجزء الثاني منه عن الشاعر الهندي “ظاغور” عن مواثفاته، وعن جمال شعره ورقة أحاسيسه. وذلك في الحلقة الثانية والستين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

طاغور ..

يحكي الكتاب في الجزء الثاني منه عن طاغور الشاعر الهندي وأسرته: “ما زالت الهند – رغم ما تعانيه من ظلم ومرارة عيش وفقر – تنتج العلم والأدب والفن؛ فقد طبقت شهرة الأستاذ “جاجادس شاندرا بوز” الخافقين لأبحاثه في الكهرباء وفسلجة النبات؛ وكانت جائزة نوبل تاجاً يكلل جهود الأستاذ “شاندرا سيخارا رامان” في فيزيقا الضوء؛ وقامت في عصرنا هذا مدرسة جديدة للتصوير في البنغال، تجمع بين خصوبة الألوان المتمثلة في نقوش “أجانتا” الجدارية، ورقة التخطيط البادية في تحف “راجبوت”؛ و إنا لنلمح في صور “رابندرانات طاغور” شيئا يسيرا من ذلك التصوف العارم والفن الرقيق اللذين اشهرا شعر عمه في أمم الأرض جميعاً.

إن أسرة طاغور لتعد بين أعظم ما شهد التاريخ من أسر؛ فقد كان “دافندرانات طاغور” “وبالبنغالية تاكور” أحد القائمين على تنظيم الجمعية الإصلاحية “براهما ـ سوماج” ثم أصبح فيما بعد رئيسا لها؛ وهو رجل ذو ثراء وثقافة ووقار، ولما بلغ شيخوخته، كان للبنغال بمثابة الراعي الذي يميل برعيته عن جادة الدين؛ ومن نسله “أبانندرانات” ، “جوجونندرانات” والفيلسوف “دويجندرانات” والشاعر “رابندرانات” وكل هـؤلاء ينتسبون إلى طاغور، والأخيران منهما ابناه”.

مواصفات الشاعر..

ويفصل الكتاب عن مواصفات الشاعر طاغور: “نشأ “رابندرانات” في جو من البحبوحة والتهذيب، فكانت الموسيقى والشعر والحوار الرفيع الهواء الذي يتنفسه؛ وكان روحا رقيقا منذ ولادته، شبيها بـ “شيلى” الذي أبى أن يموت صغيراً كما أبى أن يشيخ، وكان من الحنان بحيث تشجعت فئران السنجاب على ارتقاء ركبتيه، واطمأنت الأطيار إلي الوقوف على راحتيه؛ وكان دقيق الملاحظة، متفتح النفس، يحس دوى ما تأتيه به تجارب الحياة بإحساس مرهف كإحساس المتصوفين؛ فكان أحيانا يقف في شرفته ساعات، يلاحظ بنظرته الأدبية كل من يمر أمامه في الطريق: قوامه وقسماته وحركاته التي تميزه وطريقه مشيته، أحيانا يجلس على كنبة في غرفة داخلية، ويظل نصف يومه صامتاً، تمر في رأسه الذكريات والأحلام”.

رقة الشعر..

وعن شعره وجماله يتابع الكتاب: “وبدأ ينظم الشعر على لوح إردوازي، مغتبطا بكون الأخطاء يمكن محوها وسرعان ما وجد نفسه ينشد الأغاني المترعة بحبه للهند ـ حبه لجمال منظرها، وفتنة نسائها، وعطفه على أهلها في آلامهم، وكان ينشئ لهذه الأناشيد موسيقاها بنفسه؛ فآخذت الهند كلها تتغنى بها وكان الشاعر الشاب يهتز كيانه كلما سمعها على شفاه أهل الريف السذج، إذ هو في طريقه مسافر خلال القرى النائية وهاك أغنيه منها، ترجمها عن البنغالية مؤلفها نفسه، فمن سواه قد عبر تعبيرا يمازجه تشكك العطوف، عن لغو الغرام الذي لا يخلو من قدسية؟

نبئني إن كان ذلك كله صدقا، يا حبيبي، نبئني إن كان ذلك كله صدقا،

أإذا لمعت هاتان العينان ببرقهما، استجابت لهما السحائب الدكناء في صدرك بالعواصف؟

أصحيح أن شفتي في حلاوة برعم الحب المتفتح، حين يكون الحب في أول وعيه؟

أترى ذكريات ما مضى من أشهر الربيع ما تزال عالقة في جوارح بدني؟

أصحيح أن الأرض ـ كأنها القيثارة ـ تهتز بالغناء كلما مستها قدماي؟

أصحيح ـ إذن ـ أن الليل تدمع عيناه بقطرات الندى كلما بدوت لناظريك، وأن ضوء الصبح ينتشي فرحا إذا ما لف بدني بأشعته؟

أصحيح، أصحيح، أن حبك لم يزل يخبط فريدا خلال العصور ويتنقل من عالم إلى عالم باحثا عنى؟

وأنك حين وجدتني أخر الأمر، وجدت رغبتك الأزلية سكينتها التامة في عذب حديثي

وفي عيني وشفتي وشعري المسدول؟

أصحيح ـ إذن ـ أن لغز اللانهاية مكتوب على جبيني هذا الصغير؟

نبئني ـ يا حبيبي ـ إن كان ذلك كله صدقا

في هذه الأشعار حسنات كثيرة – فيها وطنية حادة وهي رغم حدتها، هادئة، وفيها فهم دقيق دقة التأنث للحب وللمرأة وللطبيعة وللرجل، وفيها نفاذ بالعاطفة الحادة إلى صميم الفلاسفة الهنود بما لهم من بصيرة نافذة، وفيها رقة عاطفة ولو كان في أشعاره عيب، فذلك جمالها الذي يطرد في كل أجزائها اطرادا جاوز الحد المطلوب، ورقتها ومثاليتها اللتان اطردتا كذلك اطرادا يحدث الملل؛ فكل امرأة في هذه الأشعار جميلة، وكل رجل فيها مفتون بامرأة أو بالموت أو بالله؛ والطبيعة فيها – وإن تكن بشعة أحيانا ـ فهي دائما خليلة، يستحيل عليها الكآبة والقحط والفظاعة.

ولعل قصة “شترا” هي قصة “طاغور”؛ فحبيبها “أرجونا” قد ملها بعد عام لأنها جميلة جمالا كاملا لا يعتوره نقص؛ ولا يعود إلى حبها إلا بعـد أن تفقد جمالها وتكتسب قوة تمكنها من مزاولة أعباء الحياة الطبيعية ـ وحب الله لها رمز عميق يشير إلى الزواج السعيد..

النقص في شعره..

ويضيف الكتاب عن شعره: “ويعترف طاغور بأوجه النقص في شعره اعترافا يسحرك برقته:

إن شعرك يا حبيبتي قد دارت في رأسه يوما ملحمة عظيمة

وأسفاه، لم أحرص عليها، وصادفت خلخالك فتفرقت أجزاؤها

وتمزقت قصاصات من أغان، لبثت منثورة عند قدميك

وعلى ذلك فقد أخذ يتغنى بالقصائد الوجدانية حتى نهايته، واستمع له العالم كله بآذان طربه إلا النقاد؛ ودهشت الهند بعض الشيء حين أنعم على شاعرها بجائزة نوبل 1913م لأن رجال النقد في البنغال لم يكونوا قد رأوا فيه إلا أخطاءه، واتخذ الأساتذة في كلكتا من أشعاره أمثلة تساق للغة البنغالية في أسلوبها الركيك وكرهه الشبان المتأججين بنار الوطنية لأن مهاجمته لما في حياة الهند الخلقية من عيوب، كانت أقوى دويا من صيحته في سبيل الحرية السياسية، ولما أنعم عليه بلقب “سير” عدوا ذلك منه خيانة للهند”.

مصلح اجتماعي..

وعن كون طاغور وطنيا شريفا يحكي الكتاب: “ومع ذلك فلم ينعم بشرف هذا اللقب طويلا، وذلك لأنه حين أطلق الجنود البريطانيون نيرانهم على اجتماع ديني في “أمرتسار” نتيجة لسوء تفاهم محزن سنة1919 م أعاد طاغور وسامه إلى نائب الملك مصحوبا بخطاب يوجه فيه استنكارا مرا لما حدث؛ واليوم تراه شخصية وحيدة نوعها، وقد يكون أعمق أهل الأرض جميعا في يومنا هذا وقعا في النفوس، وهو مصلح كانت له الشجاعة التي مكنته من مهاجمه الآراء الاجتماعية الأساسية في الهند، وأعنى بها نظام الطبقات والعقيدة في تناسخ الأرواح، والتي هي أعز عقائد الهنود على قلوبهم.

وهو وطني يتحرق شوقا إلى حرية الهند، لكنه وجد في نفيه الجرأة فاحتج على الإسراف في النعرة القومية والسعي وراء المصالح الخاصة التي تلعب دورها في الحركة القومية؛ وهو مرب مل الخطابة والسياسة، وانكمش في صومعته في “شانتينى كيتان ” يعلم بعض أبناء الجيل الجديد مذهبه في تحرير الفرد لنفسه تحريرا خلقيا؛ وهو شاعر كسر قلبه موت زوجته في شبابها، وأنقض ظهره ذل بلاده؛ وهو فيلسوف “منقوع ” في تعاليم الفيدانتا.

وهو متصوف يتذبذب بين المرأة والله ومع ذلك تراه قد تجرد من عقيدة آبائه بمدى ما وصل إليه من علم؛ وهو محب للطبيعة يقابل رسل الموت فيها بعزاء وحيد، هو موهبته التي لا تبلى في إنشاد الغناء:

“آه، آيها الشاعر، إنه الغروب يدنو، وشعرك يدب فيه المشيب

فهل تسمع ـ إذ أنت وحيد في تأملك ـ صوت الآخرة يناديك؟”

قال الشاعر:

“إنه الغروب وهاأنذا أصغي خشية أن يناديني من القرية مناد، رغم أننا في ساعة متأخرة

إني أراقب لعلني واجد قلبين ضالين يلتقيان، أو زوجين من أعين مشتاقة تحن إلى ألحان الموسيقى لتزيل الصمت وتتحدث نيابة عنها

فمن ذا هناك ينسخ لهم أغاني عواطفهم، إذا أنا جلست على شاطئ الحياة وتأملت الموت والآخرة

إن من التوافه أن يدب في شعري المشيب

أنا أبدا في شباب أقوي الشباب، وفي شيخوخة أكبر الشيوخ من أهل هذه القرية …

كلهم بحاجة إلي وليس لدي الفراغ أنفقه في التأمل فيما بعد الحياة

أنا مع كل إنسان أسايره في عمره، فماذا يضيرني إذا دب الشيب في رأسي؟”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة