19 ديسمبر، 2024 1:09 ص

قصة الحضارة (160):  فككت السلطة الأبوية وأهملت العادات في اليابان الجديدة

قصة الحضارة (160):  فككت السلطة الأبوية وأهملت العادات في اليابان الجديدة

خاص: قراءة- سماح عادل

يستأنف الكتاب الحكي عن احتكاك الدولة اليابانية بالغرب، وتحولها إلي الصناعة، وتكون طبقة جديدة من البرجوازية التي حجمت دور الاقطاع. وذلك في الحلقة السابعة والخمسين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الانقلاب الثقافي..

يحكي الكتاب عن التغييرات الثقافية بعد حركة التصنيع في اليابان: “هل تغير الشعب نفسه نتيجة للانقلاب الصناعي؟ هناك بعض ألوان التجديد؛ فالبدلة الأوربية المقبضة ذات الشعبتين، قد سيطرت على معظم سكان المدن ولَفَّتْ أبدانهم، غير أن النساء مازلن يرتدين ثياباً فضفاضة زاهية الألوان، يربطها عند الوسط شريط مزخرف يلتئم طرفاه بعقدة عريضة عند الظهر، وكلما أصلحت الطرق حلت الأحذية محل القباقيب الخشبية. غير أن نسبة كبيرة من الجنسين ما تزال تمشي بأقدام حافية سليمة من التشويه؛ وإذا نظرت خلال المدن الكبرى ألفيت كل ضروب التشكيلات والتركيبات التي تجمع بين الثياب الوطنية والثياب الغربية، كأنما أرادوا بذلك أن يرمزوا إلى تحول اسُتعجلَت خطواته فابتُسر ابتساراً.

ولا تزال آداب المعاملة عندهم نموذجاً “للتشريفات” الدبلوماسية، ولو أن الرجال ما برحوا عند عادتهم القديمة في تقدمهم على النساء، إذا ما دخلوا غرفة أو خرجوا منها، أو مشوا في الطريق؛ واللغة عندهم نسيج وحدها في احتشامها، فقلَّ أن يداخلها فحش في اللفظ، وتراهم يكسون بغطاء ظاهري من التواضع احتراماً للنفس يبلغ حد التوحش، وآداب السلوك قد تبلغ من رقتها حداً يلطف من حدة العداوة مهما بلغت مـن استيلائها على النفوس”.

 

خلق الشعب..

وعن تصرفات الشعب الياباني وأخلاقه: “والخلق الياباني شأنه شأن الخلق الإنساني في كل بقاع الأرض مؤلف من أشتات متناقضة، لأن الحياة تضعنا في ظروف مختلفة كل حين، وتتطلب منا أن نأخذها بالشدة حينا والرقة حينا، وباليسر حينا وبالصرامة حينا، وبالصبر حينا والشجاعة حينا، وبالتواضع حينا والكبرياء حينا، لهذا لا ينبغي لنا أن نأخذ على أهل اليابان جمعهم بين العاطفية والواقعية، وبين رقة الإحساس وصرامة الجد في الحياة، وبين طلاقة التعبير والكتمان، وبين سرعة التأثر وكبح الجماح؛ إنهم يغلب عليهم المرح والفكاهة وحب المتعة، ويميلون إلى الانتحار الذي يروع المتفرج بمنظره.

وهم رقاق القلب  نحو الحيوان غالباً ونحو المرأة أحياناً  لكنهم قساة في بعض الأحيان على الحيوان والرجال، وإن الياباني الصادق في يابانيته ليتصف بكل صفات الجندي المحارب الاعتداد والشجاعة والاستعداد لملاقاة الموت استعداداً لا يضارعه فيه مضارع؛ ومع ذلك كله تراه يحمل بين جنبيه روح الفنان  فهو مرهف الحس سهل التأثر رقيق نشيط محب للاطلاع والبحث ذو ولاء وصبر، وله قابلية شديدة لاستيعاب التفصيلات، وهو ذو دهاء وحيلة ككل ذي جسد ضئيل، وذكاؤه وقّاد، تراه لا يبرع في الخلق الفكري، لكنه قادر على الفهم السريع والاقتباس والمهارة العملية؛ ولقد اجتمعت في الياباني روح الرجل الفرنسي وغروره، وشجاعة البريطاني وضيق أفقه، وحرارة الإيطالي واستعداده للفنون، ونشاط الأمريكي وميله للتجارة، وحساسية اليهودي ودهاؤه”.

الاتصال بالغرب..

وعن تأثر أخلاقهم بالغرب يواصل: “ثم جاء اتصالهم بالغرب وصراعهم معه، فغيروا حياة اليابان الأخلاقية وطرائق السلوك فيها، غير أن أمانتهم التقليدية ما تزال قائمة بينهم إلى حد كبير، وإن يكن التوسع في حقوق الانتخاب وحدَّة التنافس التي تلازم التجارة الحديثة، قد أدخلا اليابان نصيبها النسبي من الرشوة التي هي من خصائص الحكم الديمقراطي، والقسوة التي تتصف بها الحياة الصناعية، وخفة اليد في عالَم المال؛ نعم إن “خُلُق الفرسان” ويسمونه بوشيدو ما يزال باقياً هنا وهناك بين طبقات الجنود العليا، ولذا فهو بمثابة الضابط الأرستقراطي الخفيف للجموح الشيطاني الذي استولى على عالمي التجارة والسياسة؛ والاغتيال كثير الوقوع على الرغم مما تتصف به عامة الناس من طاعة القانون والصبر على أحكامه  والاغتيال هناك لا يقع خلاصاً من استبدادية رجعية، بل يقع عادة لتشجيع روح الوطنية التي لا تبالي الاعتداء؛ من ذلك أن “جمعية الأفعوان الأسود” التي يرأسها “توياما” الذي يبدو في مظهر المنبوذ، قد كرست نفسها أكثر من أربعين عاماً، لبث سياسة غزو كوريا ومنشوريا بين أصحاب المناصب الحكومية في اليابان، وقد اتخذت الاغتيال أداة للوصول إلى هذا الغرض، ومنها اكتسب الاغتيال مهمة شعبية ظل يقوم بها في تحريك العالم السياسي في اليابان.

لقد شارك الشرق الأقصى بلاد الغرب في الاضطراب الخلقي الذي يصحب كل تغير عميق يتناول الأساس الاقتصادي للحياة؛ وازدادت الحرب التي ما فتئت قائمة بين الأجيال المتعاقبة، بين الشباب الطافح بحماسته، وبين الشيوخ المفرطين في حرصهم، ازدادت تلك الحرب حدة لنمو الصناعة التي تعمل على إبراز شخصية الفرد”.

السلطة الأبوية….

ويكمل الكتاب عن التحولات المجتمعية في اليابان: “ونتيجة لإضعاف الإيمان الديني؛ فالانتقال من الريف إلى المدينة، وإحلال الفرد محل الأسرة باعتباره الوحدة القضائية المسئولة للمجتمع الاقتصادي والسياسي، قد قوض أركان السلطة الأبوية، وأخضع عادات القرون الطويلة وأخلاقها للحكم المتسرع الذي يحكم به المراهق على أمثال هذه الأمور؛ وكنت ترى الشباب في المدن الكبرى يثورون على نظام الزواج تحت إشراف الأبوين، وترى العروسين لا يجريان على مألوف العادات من حيث السكنى في بيت والد العريس، بل هما أميل إلى إنشاء بيت مستقل أو “شقة” مستقلة.

هذا إلى أن سرعة تصنيع النساء قد حتم انحلال الروابط التي كانت تربطهن بالدار واعتمادهن في العيش على الرجال؛ والطلاق في اليابان قد كثر حتى شابه الحال في أمريكا، بل هو هناك أخف عاقبة منه في أمريكا، لأن الرجل قد يستطيع الطلاق بمجرد توقيعه على دفتر للتسجيل، ودفعه رسوماً تبلغ ما يساوي عشر “سنتات”، ولئن حرم القانون نظام الخليلات إلا أنه ما يزال قائماً فعلاً يتمتع به كل من تمكنه حالته المالية من تجاهل القانون.

والآلة هي عدو رجل الدين في اليابان كما هي في سائر أنحاء العالم، ولما استوردت اليابان من إنجلترا أوضاعها الصناعية الفنية، استوردت معها “سبنسر” و “ستيورت مِلْ”، وبهذا أسدل الستار فجأة على سيادة المذهب الكنفوشيوسي في الفلسفة اليابانية، ولقد قال تشمبرلين سنة 1905: “إن الجيل الموجود الآن في المدارس يتشكل على صورة فولتيرية واضحة المعالم”، ومن نتيجة هذا الاتجاه نفسه أن ازدهر العلم بارتباطه الحديث بالآلة، واكتسب في اليابان قلوب أعظم الباحثين في عصرنا هذا، بحيث انصرفوا إليه مخلصين على نحو ما نعهده في اليابانيين من الولاء فيما يخلصون له”.

تقدم الطب..

ويكمل الكتاب: “فالطب في اليابان على الرغم من اعتماده في معظم مراحله على الصين وكوريا قد تقدم تقدماً سريعاً حين احتذى مثل الأوربيين واندفع بحافزهم، وخصوصاً الألمان؛ وإذا أردت أن تعلم مدى السرعة التي انتقلت بها اليابان من مرحلة التتلمذ إلى مرحلة الأستاذية التي أخذت تعلم فيها العالم أجمع، فانظر إلى ما عمله “تاكامين” في استكشافه للأدرنالين وفي دراسته للفيتامينات؛ وما أداه “كيتاساتو” في مرض التتنوس وفقر الدم، وفي تقدم التلقيح ضد الدفتريا؛ ثم ما عمله ألمعهم جميعاً وأشهرهم جميعاً، وهو “نجوشي” في مرض الزهري ومرض الحمى الصفراء.

ولد “هيديونجوشي” سنة 1876 في إحدى الجزر الصغرى، من أسرة بلغ بها الفقر حداً جعل أباه يترك أسرته حين علم أن طفلاً ثانياً في طريقه إلى الحياة؛ وأهمل الوليد هذا إهمالاً جعله يسقط في مدفأة فاحترقت يده اليسرى حتى شاهت، وأوذيت يده اليمنى إيذاء كاد يفقد نفعها، فكان أن اجتنبه التلاميذ في المدرسة لما في جسده من وصمات وتشويه، وراح الناشئ يفكر في الانتحار، لكن جراحاً قدم إلى القرية حينئذ، وعالج له يده اليمنى علاجاً ناجحاً، واعترف “نجوشي” للجراح بالجميل اعترافاً جعله يقرر لتوه أن يكرس نفسه للطب؛ ومن أقواله عن نفسه سأكون نابليون ينقذ البشرية لا نابليون يفتك بها، إنني أستطيع الآن أن أعيش معتمداً على نعاس أربع ساعات في الليل” وكان “نجوشي” مفلساً، فاشتغل في صيدلية حتى حمل صاحبها على رصـد مبلغ مـن المال يتعلم بـه الطب.

وبعـد أن تخرج فـي الطب من الجامعة، ذهب إلى أمريكا وعرض خدماته على الهيئة الطبية في الجيش في واشنطن مقابل نفقاته؛ وهيأت له مؤسسة روكفلر للأبحاث الطبية معملاً، وشرع “نجوشي” يعمل وحده لا يشاركه أحد على الإطلاق في إجراء التجارب والقيام بالبحث العلمي، مما انتهى إلى أطيب الثمرات؛ فهو الذي أنتج أول عينة خالصة من جراثيم الزهري، وكشف عن أثر الزهري في الشلل العام وفي الشلل البطيء الذي يصيب حركة العضلات، وأخيراً استطاع في سنة 1918 أن يعزل طفيليّ الحمى الصفراء؛ فلما كسب الشهرة والثروة المؤقتة، عاد إلى اليابان، وكرَّم أمه العجوز، وجثا على ركبتيه أمام الصيدلي الذي أنفق على دراسته الطبيعية اعترافاً له بالجميل، ثم ذهب إلى أفريقيا ليدرس الحمى الصفراء التي كانت تفتك بساحل الذهب من أوله إلى آخره، فأصابته هذه الحمى ومات سنة 1928؛ ومما يزيدنا حسرة على موته أنه لم يكن قد بلغ من العمر أكثر من اثنين وخمسين عاماً”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة