خاص: قراءة- سماح عادل
يستأنف الكتاب الحكي عن توسع الدولة اليابانية، ونشوء طبقات جديدة، وتغيير شكل السلطة. وذلك في الحلقة الثامنة والخمسين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
العصر الحديث..
يواصل الكتاب الحكي عن الثورة السياسية في اليابان: “ولما كانت الطبقة الأرستقراطية قد ارتبطت بروابط المصلحة المادية مع المجتمع الجديد، فقد بذلت خدماتها للحكومة عن ولاء ورضى، ومكنتها من تحويل البلاد من عصرها الوسيط إلى عصرها الحديث دون أن تسفك الدماء في هذا السبيل، وكان “إيتو هيرو بومي” قد عاد لتوه من زيارته الثانية لأوربا؛ فجرى في بلاده على غرار ما رآه في ألمانيا، إذ أنشأ بها طبقة عالية جديدة مؤلفة من خمس درجات.
“أمير؛ فماركيز، فكونت، ففيكونت، فبارون.”
لكن هؤلاء جميعاً لم يكونوا هم الأعداء الإقطاعيين للنظام الصناعي الجديد بل كانوا لهذا النظام أعوانه المأجورين.
جاهد “إيتو” في تواضعه جهاداً لم يعرف الكلل، ليحقق لبلاده ضرباً من الحكومة لا تعيبه العيوب التي بدت في عينيه عيوباً ناشئة من الإفراط في الديمقراطية، على ألا يحد ذلك من تجنيد أصحاب النبوغ وتشجيعهم مهما تكن طبقتهم الاجتماعية لكي يحققوا للبلاد رقياً اقتصادياً سريعاً؛ وتمكنت اليابان في ظل زعامته أن تعلن أول دستور لها سنة 1889؛ فكان الإمبراطور في قمة البناء التشريعي، إذ كان من الوجهة الدستورية رأس الحكومة الأعلى، ومالكاً للأرض كلها، وقائداً للجيش والأسطول، المسئولين أمامه وحده، وهو الذي يكسب الإمبراطورية وحدتها واستمرارها وقوتها وسمعتها المستمدة من سمعة مليكها.
وقد شاءت إرادته الكريمة أن يفوض لقوته التشريعية إنشاء مجلسين نيابيين يظلان قائمين ما شاء هو لهما أن يقوما مجلس الأشراف، ومجلس النواب، غير أنه هو الذي يعين وزراء الدولة، الذين يسألون أمامه وحده لا أمام مجلس البرلمان، وكان تحت هؤلاء طبقة من الناخبين عددها يقرب من أربعمائة وستين ألفاً، حصروا في هذه الدائرة الضيقة باشتراط مؤهلات كثيرة في الناخب من حيث مقدار ما يملكه؛ ثم ارتفع عدد الناخبين بفعل حركات تحريرية متعاقبة حتى بلغ ثلاثة عشر مليوناً في سنة 1928، ولكن فساد الحكومة كان يساير التوسع في الديمقراطية خطوة خطوة”.
نظام تشريعي جديد..
وعن ضرورة وجود قوانين جديد يضيف الكتاب: “وساير هذا التقدم السياسي نظام تشريعي جديد (1881) قائم إلى حد كبير على تشريع نابليون، وهو يحقق خطوة تقدمية جريئة بالنسبة لتشريع العصور الوسطى التي ساد فيها نظام الإقطاع؛ فمنحت للناس حقوقهم المدنية منحاً سخياً إذ منحت لهم حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية العبادة وعدم انتهاك الرسائل والبيوت، والحصانة من القبض والعقاب إلا بإجراء قانوني.
وحرم التعذيب والمحنة وفُكتْ عن جماعة الـ “إيتا” قيودهم الطبقية، وسُوِّى بين الطبقات كلها أمام القانون من الوجهة النظرية، وأصلحت السجون، ودفعت الأجور للمسجونين على عملهم، حتى إذا ما أطلق سراح المسجون أعطي مبلغاً من المال متواضعاً يبدأ به حياة جديدة في زراعة أو تجارة؛ وعلى رغم ما أتاحه هذا التشريع للناس من حرية فقد ظلت الجرائم قليلة الحدوث.
ولو اعتبرنا رضى الناس بالقانون عن طواعية علامة على مدنيتهم، عددنا اليابان في طليعة الأمم الحديثة حضارة إذا استثنينا عدداً قليلاً من حوادث الاغتيال.
لعل أهم ما يميز الدستور الجديد هو إعفاء الجيش والأسطول من كل رئاسة إلا رئاسة الإمبراطور، فإن اليابان لم تنس قط ما وقع لها من ذل في عام 1853، ولذا صممت على إنشاء قوة عسكرية تمكنها من السيطرة على تقرير مصيرها بنفسها، وتجعلها في النهاية سيدة الشرق كله؛ فلم يكفها أن تعمم التجنيد، بل جعلت من كل مدرسة في البلاد معسكراً للتدريب الحربي، وكان لهؤلاء الناس استعداد عجيب للنظام والطاعة، سرعان ما انتهى بقوتهم العسكرية إلى درجة أتاحت لليابان أن تخاطب “الأجانب الهمج” مخاطبة الند للند”.
ابتلاع الصين..
وعن قدرة اليابان علي فرض سيطرتها علي الصين يتابع الكتاب: “كما أتاحت لها احتمال ابتلاعها للصين جزءا جزءا، وهو أمل طاف برأس أوربا، لكنه لم يتحقق لها؛ وحدث عام 1894 أن أرسلت الصين حملة عسكرية لإخماد ثورة في كوريا، وأن لبثت تعيد وتكرر القول بأن كوريا دولة تابعة لسلطة الصين، فلم يعجب اليابان هذا كله، وأعلنت الحرب على معلمتها القديمة، وأدهشت العالم بسرعة انتصارها إذ أرغمت الصين إرغاماً على الاعتراف باستقلال كوريا، وعلى التنازل لها عن “فرموزا” و “بورت آرثر” على رأس شبه جزيرة لياوتنج.
وعلى دفع تعويض مالي قدره مائتا مليون من التيلات، وقد أيدت ألمانيا وفرنسا روسيا في “نصحها” لليابان بالانسحاب من “بورت آرثر” مقابل زيادة في تعويضها المالي قدرها ثلاثون مليوناً من التيلات والزيادة تدفعها الصين، وخضعت اليابان لما طلب إليها، لكنها احتفظت بذكرى هذه المعاكسة على مضض، وراحت ترقب فرصة الانتقام.”
اتساع الإمبراطورية..
وعن اتساع إمبراطورية اليابان يكمل الكتاب: “ومنذ تلك الساعة أخذت اليابان تعد نفسها إعداداً جاداً لا يعرف اللهو، تعد نفسها للصراع مع روسيا صراعاً كان لا بد من وقوعه نتيجة اتساع الإمبراطوريتين في آمالهما الاستعمارية؛ ونجحت اليابان في إثارة مخاوف إنجلترا من احتمال التوغل الروسي في الهند فأبرمت مع سيدة البحار تحالفاً (1902-1922)، تعهدت به كل من الدولتين أن تساعد الأخرى إذا ما اشتبكت في قتال مع دولة ثالثة ودخلت دولة أخرى في القتال.
وقلما وقّع الساسة الإنجليز على ما يقيد حريتهم كل هذا التقييد الذي فرضته عليهم تلك المعاهدة؛ فلما بدأت الحرب مع روسيا سنة 1904 أقرض الممولون الإنجليز والأمريكان أموالاً طائلة لليابان، لتعينها على كسب النصر من القيصر، واستولى “نوجي” على “بورت آرثر” وزحف بجيشه نحو الشمال قبل فوات الفرصة لإخماد مذبحة “مكدن” وهي أفظع ما شهد التاريخ من مواقع دامية، قبل أن يشهد حربنا العالمية الأولى التي لا يضارعها مضارع.
والظاهر أن ألمانيا وفرنسا فكرتا في مساعدة روسيا بالسياسة أو بالسلاح، لكن الرئيس روزفلت صرح بأنه إذا حدث شيء، كهذا، فلن يتردد في الوقوف إلى جانب اليابان، وفي ذلك الوقت أقلع أسطول روسي قوامه تسع وعشرون سفينة، وشق طريقه جريئاً حول رأس الرجاء الصالح، مرتحلاً بذلك رحلة لم يسبق لأسطول حديث أن ارتحل مثلها طولاً، وذلك لكي يقابل اليابان في مياهها وجهاً لوجه.
غير أن الأميرال “توجو” استعان لأول مرة في تاريخ الأساطيل البحرية باللاسلكي، وظل على علم متصل بسير الأسطول الروسي، ثم وثب عليه وثبة قوية في مضيق تسوشيما في السابع والعشرين من شهر مايو سنة 1905، وأبرق “توجو” لقادته جميعاً رسالة تصور نفسية اليابان كلها. إذ قال: “إن نهوض الإمبراطورية أو سقوطها يتوقف على هذه المعركة”، فقتل من اليابانيين فيها 116، وجرح منهم 538، وأما الروس فقتل منهم أربعة آلاف، وأسر سبعة آلاف، وأغرقت أو أسرت كل سفنهم إلا ثلاثاً.”
“موقعة بحر اليابان”..
وعن موقعة هامة تاريخيا: “كانت “موقعة بحر اليابان” نقطة تحول في مجرى التاريخ الحديث؛ فهي لم تقتصر على إيقاف التوسع الروسي في الأراضي الصينية، بل أوقفت كذلك سيطرة أوربا على الشرق، وبدأت ذلك البعث الذي اشتمل آسيا، والذي يبشر بأن يكون محور الحركات السياسية كلها في هذا القرن الحاضر؛ ذلك أن آسيا كلها قد دبت فيها الحماسة حين رأت الإمبراطورية الجزرية الصغيرة تهزم أكثر دول أوربا عمراناً بأهلها، فدبرت الصين خطة لثورتها، وبدأت تحلم بحريتها، أما اليابان، فلم يَطُف ببالها أن توسع من نطاق الحرية، بل فكرت في الزيادة من سلطانها؛ فانتزعت من روسيا اعترافاً بأن لليابان المكانة العليا في كوريا، ثم ما جاءت سنة 1910 حتى أعلنت اليابان نهائياً ضم كوريا إليها رسمياً، وهي تلك المملكة القديمة التي بلغت من المدنية يوماً شأناً عظيماً، فلما مات الإمبراطور “ميجي” عام 1912، بعد حياة طويلة طيبة أنفقها حاكماً وفناناً وشاعراً استطاع أن يحمل معه إلى الآلهة الذين انسلوا اليابان رسالة بأن الأمة التي خلقوها، والتي كانت في بداية حكمه لعبة في يد الغرب الفاجر، قد باتت اليوم رفيعة المكانة في الشرق، وقطعت شوطاً بعيداً في طريقها نحو أن تكون محوراً للتاريخ كله”.