خاص: قراءة- سماح عادل
يستأنف الكتاب الحكي عن احتكاك الدولة اليابانية بالغرب، وتحولها إلي الصناعة، وتكون طبقة جديدة من البرجوازية التي حجمت دور الاقطاع. وذلك في الحلقة السابعة والخمسين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
اليابان الجديدة ..
يحكي الكتاب عن الثورة السياسية التي جعلت اليابان تتطور: “يندر أن يأتي الموت إلى مدينة من خارجها، بل لا بد للانحلال الداخلي أن يفت في نسيج المجتمع أولاً قبل أن يتاح للمؤثرات أو الهجمات الخارجية أن تغير جوهر بنائها، أو أن تقضي عليها قضاء أخيراً؛ فقلما يكون للأسرة الحاكمة تلك الحيوية الدؤوب والمرونة السريعة التشكل، اللتان يتطلبهما استمرار السيادة، فمؤسس الأسرة المالكة يستنفذ نصف القوة الكامنة في أصلاب أسرته ثم يترك لغير الممتازين من خلفه عبثاً لا يستطيع حمله إلا العباقرة.
فأسرة “توكوجاوا” بعد “أيياسو” حكمت البلاد حكماً لا بأس به، لكننا لو استثنينا منها “يوشيموني” لما وجدنا بين أفرادها شخصيات بارزة تستوقف النظر؛ فما انقضت بعد موت “أيياسو” ثمانية أجيال حتى راح أمراء الإقطاع يزعزعون قوائم تلك الأسر العسكرية بثوراتهم التي ما فتئت تنهض حيناً بعد حين؛ فكانوا يسوِّفون في دفع الضرائب أو يمتنعون عن دفعها؛ وعجزت خزانة “ييدو” بالرغم من التدابير الاقتصادية العنيفة التي اتخذت عن تمويل الدفاع القومي أو صيانة الأمن في البلاد.
وقد مر على البلاد أكثر من قرنين حيث ساد السلام فتطرَّت خشونة “السيافين” وضعف احتمال الشعب لمكاره الحروب وتضحياتها؛ وحلَّت في الناس نزعات ترمي إلى التمتع محل البساطة الرواقية التي كانت سائدة في عهد هيديوشي؛ فلما أن دعيت البلاد فجأة لحماية سيادتها، وجدت نفسها منزوعة السلاح بمعناه المادي والخلقي جميعاً؛ وانحل العقل الياباني بفعل اعتزالها الاتصال بالأجانب، وأخذ الناس يسمعون بتطلع قلق عن ازدياد الثروة وتغير المدنية في أوربا وأمريكا؛ وراح هؤلاء الناس يدرسون ما جاء بكتابي “مابوشي” و “موتو – أوري” وشاع بينهم في الخفاء أن الحكام العسكريين مغتصبون للحكم، وقد فككوا باغتصابهم ذاك استمرار سيادة الإمبراطورية، ولم يستطع الشعب أن يوفق بين الأصل الإلهي للإمبراطور، وبين فقره المدقع الذي فرضته عليه أسرة “توكوجاوا””.
ظهور الأمريكيين..
وعن ظهور أمريكا في الأفق يواصل الكتاب: “وجعل الدعاة إلى قلب نظام الحكم العسكري القائم، يخرجون من مكانهم في “يوشيوارا” وغيرها ويغمرون البلاد بنشراتهم التي تحرض الناس على ذلك الانقلاب، وإرجاع الإمبراطور للحكم. ونزلت النازلة على رأس هذه الحكومة المرتبكة الفقيرة، حين شاع النبأ سنة 1853 بأن أسطولاً أمريكياً قد تجاهل الأوامر اليابانية التي تحرم دخول خليج أوراجا، ودخل ذلك الخليج، وأن قائده يلح في مقابلة صاحب السلطة العليا في اليابان، والحقيقة أن “الكومودور بري” كان يقود أربع سفن حربية فيها خمسمائة وستون رجلاً، وبدل أن يعرض هذه القوة المتواضعة عرضاً فيه معنى التهديد، أرسل مذكرة ودية إلى الحاكم العسكري “أييوشي” يؤكد له أن الحكومة الأمريكية لا تطلب أكثر من فتح بضعة موان يابانية في وجه التجارة الأمريكية، واتخاذ بعض الإجراءات لحماية البحارة الأمريكيين الذين قد تتحطم بهم سفائنهم على الشواطئ اليابانية.
ولم يلبث “بري” أن اضطر إلى العودة إلى قاعدته في المياه الصينية بسبب “ثورة تاي – ينج”، لكنه عاد إلى اليابان من جديد سنة 1854 مسلحاً بقوة بحرية أكبر، ومزوداً بمختلف الهدايا المغرية عطور وساعات ومدافئ وشراب الويسكي، يقدمها للإمبراطور والإمبراطورات وأمراء البيت المالك؛ غير أن الحاكم العسكري الجديد “أييسادا” تعمد ألا يرسل هذه الهدايا إلى أفراد الأسرة المالكة، ووافق على توقيعه لمعاهدة “كاناجاوا” التي اعترفت بكل ما طلبه الأمريكان.
وهنا أثنى “بري” على حسن لقاء أهل الجزر اليابانية، وأعلن مدفوعاً بقصر نظره أنه “لو جاء اليابانيون إلى الولايات المتحدة، وجدوا المياه الصالحة للملاحة في البلاد مفتوحة أمامهم، وأنه ستفتح لهم أبواب مناجم الذهب نفسها في كاليفورنيا”؛ وهكذا فتحت الموانئ اليابانية الكبرى للتجارة الخارجية بمقتضى هذه المعاهدة وما تلاها من معاهدات؛ وحددت الضرائب الجمركية وفصِّلت مقاديرها وأنواعها؛ ووافق اليابانيون على أن يحاكم المتهمون من الأوربيين والأمريكيين في اليابان أمام محاكمهم القنصلية؛ واشترطت شروط اتفق فيها على أن يوقف اضطهاد المسيحية في الإمبراطورية اليابانية، ووافقت أمريكا في الوقت نفسه أن تبيع لليابان كل ما تحتاج إليه من أسلحة وسفن حربية، وأن تعيرها الضباط والصناع لعل هذه الأمة المسالمة مسالمة صبيانية أن تتعلم على أيديهم فنون القتال”.
عناء..
وعن معاناة اليابانيين من المعاهدات مع الأمريكيين يضيف الكتاب: “وعانى الشعب الياباني أقسى عناء مما فرضته هذه المعاهدات عليه من فروض الذل، ولو أنه عاد فنظر إليها على أنها أدوات محايدة جاءته لتعمل على تطوره، وتقرير مصيره؛ وود بعض اليابانيين أن يقاتل الأجانب مهما تكلف في سبيل ذلك، وأن يطردهم ويعيد للبلاد نظامها الزراعي الإقطاعي الذي يكفيها مؤونة الاعتماد على غيرها؛ لكن بعضهم الآخر كان من رأيه أن تقليد الغرب أجدى من طرده من بلادهم.
فالوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها اليابان أن تتجنب الهزائم المتكررة والخضوع الاقتصادي الذي يشبه ما كانت أوربا تفرضه عندئذ على الصين؛ هي أن تتعلم اليابان بأسرع طريقة ممكنة أساليب الصناعة الغربية، فن الحرب الحديثة؛ وهنا نهض الزعماء الداعون إلى تغريب البلاد، واستعملوا اللباقة البالغة في استخدام سادة الإقطاع أعواناً لهم في قلب الحكم العسكري، وإعادة الإمبراطور.
وبعدئذ استخدموا السلطة الإمبراطورية في قلب نظام الإقطاع وإدخال الصناعة الغربية في البلاد، وهكذا حدث سنة 1867 أن حمل أمراء الإقطاع “كيكي” آخر الحكام العسكريين على النزول عن سلطته، وقد قال “كيكي”: “إن معظم أعمال الإدارة الحكومية معيبة، وإني لأعترف خجلاً بأن الأمور في وضعها الراهن يرجع نقصها إلى ما أتصف به أنا من نقص وعجز، وهاهو ذا اتصالنا بالأجانب يزداد يوماً بعد يوم؛ فما لم تتولَّ إدارة البلاد سلطة مركزية موحدة، انهار بناء الدولة انهياراً من أساسه”.
وعلى هذا القول أجاب الإمبراطور “ميجي” في اقتضاب قائلاً: “قد قبلنا ما عرضه توكوجاوا كيكي من إعادة السلطة الإدارية إلى البلاط الإمبراطوري.
عهد ميجي..
وعن رجوع حكم الإمبراطورية يكمل الكتاب: “وفي اليوم الأول من يناير سنة 1868 بدأ العهد الجديد “عهد ميجي” بداية رسمية. ورجعت الديانة الشنتوية القديمة، وقام أولو الأمر بدعاية قوية في الشعب حتى أقنعوه بأن الإمبراطور العائد إلى عرشه إلهيُّ النسب والحكمة، وأن ما يصدره من مراسيم يجب طاعته، كما تجب طاعة أوامر الآلهة. فلما أن توفرت هذه القوة الجديدة لأنصار التغريب تمت على أيديهم معجزة أو ما يوشك أن يكون معجزة في تحول البلاد تحولاً سريعاً.
فقد شق “إتوا” و “إنويي” طريقهما إلى أوربا رغم كل ما صادفهما من صعاب وعقبات، ودَرَسَا أنظمتها وصناعاتها، ودهشا لطرقها الحديدية وسفنها البخارية، وأسلاكها البرقية وسفنها الحربية؛ ثم عادا إلى بلادهما تشتعل في صدريهما الحماسة الوطنية نحو تحويل اليابان إلى صورة أوربية، فدُعِي رجال من الإنجليز للإشراف على بناء السكك الحديدية وإقامة الأسلاك البرقية وتكوين الأسطول، كذلك دُعي رجال من الفرنسيين ليعيدوا صياغة القوانين ويدربوا الجيش؛ وكلف رجال من الألمان بتنظيم شؤون الطب والصحة العامة، واستخدم الأمريكان في وضع نظام للتعليم العام.
ولكي يتم لهم الأمر من جميع نواحيه جاءوا برجال من إيطاليا ليعلموا اليابانيين النحت والتصوير، وقد كان يحدث بعض الحركات الرجعية أحياناً، وكانت تصل هذه الحركات إلى حد إراقة الدماء، بل كانت الروح اليابانية كلها تثور آناً بعد آن على هذا التحول المصطنع الذي رج أوضاع الحياة كلها، لكن الآلة شقت طريقها آخر الأمر، ودخلت اليابان بلداً جديداً في نطاق الانقلاب الصناعي”.
طبقة جديدة..
وعن تكون طبقة جديدة مع الانقلاب الصناعي يتابع الكتاب: “ورفعت هذه الثورة بالطبع وهي الثورة الوحيدة الحقيقية في التاريخ الحديث، طبقة جديدة من الرجال إلى منازل الثروة والقوة الاقتصادية منهم الصناع والتجار والممولون وقد كان هؤلاء في اليابان القديمة يوضعون في أسفل درجات السلّم الاجتماعي؛ وجعلت هذه الطبقة البرجوازية الصاعدة تستخدم في هدوء ما أتيح لها من مال وقوة نفوذ في تحطيم النظام الإقطاعي أولاً، ثم عقبت على ذلك بالحد من سلطة العرش العائدة بحيث جعلت منها سلطة وهمية؛ ففي عام 1871 حملت الحكومة أشراف الإقطاع على النزول عن امتيازاتهم القديمة، وعوضتهم عن أراضيهم بسندات أصدرتها الحكومة”.