خاص: قراءة- سماح عادل
يستأنف الكتاب الحكي عن الفن والحضارة بشكل عام في اليابان القديمة، وبعد أن يعدد مزايا الفن الياباني وحرفيته يدين الصناعات الآلية التي ابتكرها الغربيون للقضاء علي حرفية الصناعات اليدوية في الشرق. وذلك في الحلقة السادسة والخمسين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
فن اليابان وحضارتها..
عن الفن والحضارة في اليابان القديمة يحكي الكتاب: “كانت الرسوم الحفرية في اليابان آخر مرحلة تقريباً من مراحل تلك المدنية اللطيفة الرقيقة التي اندك بناؤها تحت ضغط الصناعة الغربية، كما أن تشاؤم العقل الغربي ومرارة نظرته إلى العالم اليوم، قد يكونان آخر مظهر من مظاهر مدنية أراد لها القضاء أن تموت تحت وطأة الصناعة الشرقية؛ ولما كانت اليابان في عصورها الوسطى التي امتدت حتى عام 1853 غير ذات أذى لنا، كان في مستطاعنا أن نقدر جمالها تقديراً فيه العطف والرعاية؛ وإنه لمن العسير علينا أن نرى في اليابان بعد أن أقامت المصانع التي تنافس مصانعنا، وأقيمت بها المدافع التي تتهدد سلامنا.
من العسير علينا أن نرى في مثل هذه اليابان ذلك السحر الذي يفتننا حين ننظر إلى مختارات ماضيها الجميلة؛ وقد ننظر أحياناً نظرة عقلية هادئة، فندرك أن تلك اليابان القديمة شهدت كثيراً من العسف، وأن الفلاحين كانوا يعيشون في فقر، والعمال يقيمون على ضيم، وأن النساء كن إماء يُبَعْن وقت الشدة لمتعة من شاء أن يستمتع، وأن الحياة كانت رخيصة، وأنه في النهاية لم يكن ثمة قانون يحمي الرجل من سواد الشعب إلا سيف “السياف”.
لكن الأمر في أوربا كان على هذه الحال نفسها: كان الرجال يصطنعون القسوة وكانت المرأة خاضعة للرجل، وكان الفلاحون يعيشون في فقر، والعمال يقيمون على ضيم، وكانت الحياة عسيرة، والفكر الحر مجلباً للخطر، ولم يكن في النهاية من قانون سوى إرادة سيد الإقطاع أو الملك.
وكما أننا قد نشعر بالحب لأوربا القديمة التي شهدت كل هذا، لأنها وسط ما غمرها من فقر واستغلال وتعصب، استطاع أهلها أن يبنوا الكنائس بناء يعنون فيه بنحت كل حجر من أحجاره نحتاً جميلاً؛ وراحوا يضحون بأنفسهم ليكسبوا لخلفهم حق التفكير؛ أو كانوا يقاتلون في سبيل العدالة حتى خلقوا بقتلهم تلك الحريات المدنية التي هي أنفس جزء من تراثنا وأكثره تعرضاً للزوال.
فكذلك كان وراء صليل سيوف السيافين (في اليابان) ما يستحق التمجيد من شجاعة ما تزال تبث في اليابان قوة فوق ما يتناسب مع عدد أهلها أو كمية تراثها، وكذلك نستطيع أن نتبين وراء الرهبان الكسالى شاعرية البوذية، وقدرتها التي لا تنفذ على الإيحاء بالشعر والفن؛ ونستطيع كذلك أن نستشف وراء الصفعة القوية التي تنم عن القسوة، والوقاحة الظاهرة التي يعامل بها القويُّ الضعيف؛ نستطيع أن نستشف وراء هذا كله أرق ضروب الأخلاق، وأبهج ألوان المحافل، وإخلاصاً لجمال الطبيعة في كل صورها لا يدانيه إخلاص، ثم نستطيع أن نرى وراء استعباد المرأة، جمالها ورقتها ورشاقتها التي لا تنافسها فيها امرأة أخرى؛ ووسط مظاهر الاستبداد الذي يظلل الأسرة، ترن في آذاننا أصوات السعادة تنبعث من الأطفال وهم يلعبون في جنة الشرق.”
الشعر والفلسفة..
يصف الكتاب الشعر الياباني بأنه: “إن شعر اليابان الذي يضبط فيه الشاعر نفسه ضبطاً يؤديه إلى الاقتضاب، والذي تستحيل ترجمته، لا يحرك اليوم مشاعرنا تحريكاً قوياً؛ ومع ذلك فهذا الشعر نفسه فضلاً عن الشعر الصيني هو الذي أوحى لنا “بالشعر المرسل” و”التصوير الشعري” الذين نعهدهما في شعرنا اليوم.
ولم تعرف اليابان إلا قليلاً من الفلاسفة، وكذلك يندر جداً في مؤرخيها أن تجد روح الحياد الرفيع الذي يصادفك عند قوم لا يكتبون الكتب لتكون ملحقاً لقوتهم العسكرية أو السياسية؛ لكن هذه أشياء تعدّ من الصغائر في حياة اليابان، لأنها أنفقت جهدها كله في اتجاه حكيم، وهو أن تخلق صور الجمال أكثر مما تتعقب الحق”.
العمارة..
ويسترسل عن العمارة اليابانية: “وكانت الأرض التي عاش عليها اليابانيون أشد غدراً من أن تقوم عليها عمارة شامخة، ومع ذلك فالدُّور التي كانت تبنيها تلك البلاد هي “أجمل ما خططه العالم من دُور إذا نظرنا إليها من وجهة نظر جمالية”، ولم ينافسها في العصور الحديثة بلد آخر في رشاقة تحفها الصغيرة وجمالها كثياب النساء والمراوح والشمسيات، والفناجين ولعب الأطفال، والمدلَّيات والعُقَد الحريرية المزخرفة، وروعة الطلاء “باللاكيه” والنحت الرائع في الخشب.
ولم يبلغ أي شعب حديث ما بلغه الشعب الياباني من ضبط الزخارف ورقتها، أو من شيوع الذوق المرهف الأصيل؛ نعم إن الخزف (البورسلان) الياباني لا ينزل في التقدير حتى في نظر اليابانيين أنفسهم منزلة الخزف الذي كان يصنع في “صنج” و “منج” في الصين، لكنه إن كانت الصين وحدها قد بزتها في تلك الصناعة، فإن عمل الخزاف الياباني ما يزال يعلو على مثيله من نتاج الأوربيين المحدثين.
مفردات الفن..
ويعدد الكتاب مفردات الفن: “ولئن كان التصوير الياباني تعوزه قوة التصوير الصيني وعمقه، ثم لئن كانت الرسوم الحفرية اليابانية قد تسوء حتى تبلغ أن تكون مجرد رسوم للإعلان، وهي في أجود حالاتها لا تزيد على كونها إثباتاً سريعاً لتوافه كانت قمينة أن تزول وشيكاً، فأضيف إليها شيء مما يميز الفن الياباني من تمام الرشاقة وكمال التخطيط؛ فإن التصوير الياباني لا التصوير الصيني وإن الرسوم الحفرية اليابانية لا ألوانها المائية، هي التي أحدثت الثورة في فن التصوير إبان القرن التاسع عشر، وهي التي كانت حافزاً لإجراء مئات التجارب الفنية البديعة الطريفة.
ولما أعيد التبادل التجاري بعد سنة 1860 بين أوربا واليابان كانت تلك الرسوم الحفرية التي تدفقت إلى أوربا في ذيل التجارة، هي التي أثرت أعمق الأثر في “مونيه” و”مانيه” و”ديجا” و”وِسْلَرْ”، فهؤلاء قد أقلعوا إلى الأبد عن “الصلصة البنية اللون” التي لازمت التصوير الأوربي كله تقريباً من “ليوناردو” إلى “مِلِتْ”، وملئوا رقعات التصوير في أوربا بصور الشمس، واستحثوا المصور الفنان أن يكون أقرب إلى الشاعر منه إلى الفوتوغرافي.
يقول “وِسْلرْ” في اعتداد جعل الناس جميعاً إلا معاصريه يكبرونه: “لقد تمت بالفعل قصة الجمال، لأنه تبدى منحوتاً في المرمر الذي تراه في البارثنون، ولأنه مُوَشَّى على هيئة الطير في المروحات التي رسمها “هوكوساى” على سفح فيوجي ياما”. وإنا لنرجو ألا يكون هذا القول صواباً، لكنه كان هو الصواب في رأي اليابان القديمة وإن لم تصرح به؛ وماتت اليابان القديمة بعد “هوكوساى” بأربعة أعوام، ذلك لأنها عاشت حياة وادعة رخية في عزلتها البعيدة، فنسيت أن الأمة لا بد أن تساير العالم إذا أرادت ألا يستعبدها المستعبدون”.
الصناعات الآلية..
وعن تأثير الصناعات الآلية الأوربية ذكر الكتاب: “فبينما كانت اليابان في شغل من نحتها للمدليات وزخرفتها للمروحات بالزهر، كانت أوربا تنشئ علماً لم يكد يعلم الشرق عنه شيئاً، وأخيراً تمكن ذلك العلم الذي قام بناؤه على مر الأعوام في المعامل التي يبدو في ظاهرها أنها في عزلة بعيدة عن صخب الحياة الجارية، تمكن آخر الأمر من تزويد أوربا بالصناعات الآلية التي أتاحت لها أن تصنع لوازم العيش بثمن أرخص مما تصنعها به آسيا على أيدي مهرة صناعها الذين كانوا يصنعونها بأيديهم.
وإن تكن تلك المصنوعات الآلية أقل جمالاً من زميلاتها اليدوية؛ فقد كان لا بد لتلك السلع الرخيصة عاجلاً أو آجلاً أن تكتسح أسواق آسيا، فتنزل الخراب الاقتصادي وتغير من الحياة السياسية، في بلاد كانت تمرح مطمئنة في مرحلة الصناعة اليدوية؛ وأسوأ من ذلك شراً أن العلم قد صنع المفرقعات والمدمرات والمدافع، التي تستطيع أن تكون أشد فتكاً من سيف أشجع “السيافين”، فماذا تجدي شجاعة الفارس أمام فزع القنبلة التي لا يعُرف اسم راميها؟
ولن تجد في التاريخ الحديث أروع ولا أعجب من الطريقة التي استيقظت بها اليابان من نعاسها استيقاظاً جازعاً على صوت مدفع الغرب، فوثبت تتعلم الدرس، وأصلحت صنع ما تعلمت صنعه، وأفسحت صدرها للعلم والصناعة والحرب، ثم هزمت كل منافسيها في ميدان الحرب وميدان التجارة معاً، وباتت خلال جيلين أكثر أمم العالم المعاصر تحفزاً للعدوان.”