خاص: قراءة- سماح عادل
يستأنف الكتاب الحكي عن فن التصوير في الحضارة اليابانية القديمة، وكيف تنوعت المدارس ما بين التأثر بالفن الصيني وما بين الاهتمام باليابان وهويتها وما بين الإخلاص للطبيعة. وذلك في الحلقة الخامسة والخمسين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
“سشيو”..
ويواصل الكتاب عن فن التصوير في الحضارة اليابانية القديمة: “وكانت هذه الفترة الثانية من فترات التصوير الياباني، هي الفترة التي أنجبت أعظم شخصية ظهرت في تاريخ التصوير كله، وهو “سشيو”، الذي كان كاهناً من طائفة “زن” في “سوكوكوجي”، وهي مدرسة من المدارس الفنية الكثيرة التي أقامها “يوشيمتسوا” الحاكم العسكري من أسرة “أشيكاجا”.
فقد استطاع “سشيو” هذا وهو لم يزل في يفاعته أن يدهش بني بلده برسومه؛ وتروي عنه أسطورة لم تدر كيف تعبّر عن إجلالها لفنه، تروي أنه ربط ذات يوم إلى عمود لسوء سلوكه، فرسم بأصابع قدميه جرذاناً بلغ شبهها بالجرذان الحية حداً جعل الحياة تدب فيها فتأتي لتقرض الوثاق الذي شد به، ولما اشتد به الشوق إلى الاتصال بسادة الفن في الصين حينئذ اتصالاً مباشراً، حصل على أوراق اعتماد رسمية من رؤسائه الدينيين ومن الحاكم العسكري، ثم عبر البحر.
لكن رجاءه خاب حين وجد التصوير الصيني في طريقه إلى التدهور، ثم عزى نفسه بما وجده في تلك المملكة العظيمة من تنوع في الحياة والثقافة، وعاد إلى وطنه مملوءاً بآلاف الأفكار الجديدة التي توحي إليه بما ينبغي أن يفعله؛ وتروي الرواية أن رجال الفن ورجال الطبقة العليا من أهل الصين، صحبوه إلى السفينة التي أعادته إلى بلاده، وأمطروه بورقات بيض ملتمسين منه أن يرسم فيها رسوماً تخطيطية بسيطة إن لم يَجُدْ عليهم بأكثر من ذلك ثم يرسلها إليهم؛ ومن ثم هكذا تقول هذه الرواية سمي باسمه الرمزي “سشيو”، الذي معناه “سفينة الثلج”، لأن الورقات البيض تساقطت عليه كما يتساقط الثلج.
والظاهر أنه لما بلغ اليابان استقبله الناس هناك استقبالهم لأمير، ومنحه الحاكم العسكري “يوشيماسا” منحاً كثيرة، لكنه رفض هذه المنح كلها لو أخذنا بما نقرأه عن الأمر وعاد فأوى إلى أبراشيته الريفية في “شوشو””.
رسم الصين..
وعن رسمه للصين يضيف الكتاب: “وهناك راح ينثر الفن نثراً، واحدة في إثر واحدة، كأنما ينتج في كل لحظة نتاجاً تافها عابرا أوحت به ظروف اللحظة الراهنة، حتى كاد يخلد بصوره كل جوانب الصين في مناظرها وحياتها؛ فقلما رأت الصين مثل هذا التنوع كله في موضوعات التصوير عند الفنان الواحد ولم تر اليابان مثل ذلك قط في تاريخها كلا ولا رأت مثل هذه القوة في التصور والتصوير معاً، وفي ثبات الخطوط.
ولما بلغ الشيخوخة، دقَّ رجال الفن في اليابان طريقاً إلى بابه وكرموه فجعلوه حتى قبل موته فناناً في طليعة الركب؛ وإن الصورة بريشة “سشيو” لتقدر اليوم عند هواة الصور من اليابانيين، بمثل ما يقدر به هواة الأوربيين صورة بريشة ليوناردو؛ وتروي أسطورة من تلك الأساطير التي تحول الأفكار الغريبة إلى حكايات لطيفة، أن رجلاً كان يملك صورة من رسم “سشيو” ثم اشتعلت النار بمنزله بحيث كان يستحيل عليه النجاة، فبقر بطنه بقراً بسيفه ودسّ في معدته قماشة الصورة النفيسة ووجدت الصورة بعدئذ سليمة من التلف داخل جثمانه الذي كانت النار قد أكلته إلى نصفه “.
الثراء..
وعن تأثير الثراء في التصوير الياباني يحكي الكتاب: “واستمر ازدياد التأثير الصيني في كثير من رجال الفن الذين كانوا في كنف أمراء الإقطاع من الأسرتين العسكريتين: “أشيكاجا” و”توكوجاوا” وكان لكل أمير في حاشيته مصوره الرسمي الذي نيط به أن يدرب مئات الفنانين الناشئين الذين قد تدعو الحاجة المباغتة إلى استخدامهم في زخرفة أحد القصور، إذ كانت المعابد عندئذ تُنسى، لأن الفن كان في طريق التحول إلى المجال الدنيوي كلما ازدادت البلاد ثراء، ولما دنا القرن الخامس عشر من ختامه، أنشأ “كانو ماسانوبو” في كيوتو تحت رعاية “أشيكاجا” مدرسة للفنانين العلمانيين، أطلق عليها الجزء الأول من اسمه، وجعلها تتجه بجهدها كله نحو الاحتفاظ بكل شدة بالتقاليد الكلاسيكية الصينية في الفن الياباني.
وبلغ ابنه “كانو موتونوبو” في هذا الاتجاه مبلغاً جعله عَلَماً لا يمتاز عليه إلا “سشيو” وحده؛ وإن قصة لتروى عنه فتبين بياناً واضحاً كيف أن تركيز الانتباه والثبات على غاية واحدة هما اللذان يكونان العبقرية؛ تقول عنه القصة إنه قد طُلِبَ إليه أن يصور عدداً من طيور الكركيّ فشوهد مساءً بعد مساء يمشي مشية الكركي؛ واتضح أنه كان في كل ليلة يقلد الكركي الذي كان مصمماً على تصويره في اليوم التالي؛ فيظهر أن الإنسان لابد له من الذهاب إلى مخدعه والغاية المنشودة نصب عينيه، حتى يستيقظ في الصباح مشهوراً.
وظهر حفيد لـ “موتونوبو” هو”كانو ييتوكو”، فطوَّر على يديه تحت رعاية هيديوشي، نمطاً فنياً أبعد ما يكون عن الكلاسيكية المتزمتة التي اصطنعها أسلافه، على الرغم من أنه فرعاً من أسرة “كانو”، وجاء “تانيو” فنقل مركز المدرسة من كيوتو إلى بيدو، وعمل في كنف أفراد أسرة “توكوجاوا” وعاون في زخرفة مقبرة “أيياسو” في “نكو” وبالرغم من كل هذه المحاولات نحو مواءمة الفن لظروف العصر، فقد استنفذت أسرة “كانو” دوافعها إلى الفن على مر الزمن، وأدارت اليابان وجهها نحو أعلام آخرين يبدءون لها في تاريخ فنها شوطاً جديداً.”
مدرسة الزعيمين..
وعن مدرسة أخري في التصوير ظهرت يتابع الكتاب: “وهكذا ظهرت طائفة أخرى من رجال التصوير سنة 1660، وأطلق عليها اسم علميها الزعيمين، إذ سميت “مدرسة كويتسو – كورين”، وكان من طبيعة التذبذب الذي يطرأ على الفلسفات وأنماط الفن، أن تنظر هذه المدرسة الجديدة إلى الأوضاع والموضوعات الصينية التي عني بها “سشيو” و “كانو” نظرتها إلى الشيء الرجعي الذي أبلاه الزمان؛ وتلفت الفنانون الجدد يبحثون عن مناظر في بلادهم نفسها، واستوحوا بلادهم الإلهام الفني والموضوعات التي يديرون فيها فنهم ذاك؛ وكان “كويتسو” رجلاً بلغ به تنوع المواهب حداً يذكّرنا بما قاله “كارلايل” غيرةً من سواه من العظماء، إذ قال إنه لا يعرف عظيماً واحداً لم يكن ليستطيع أن يكون عظيماً في أي مجال شاء؛ ذلك أن “كويتسو” هذا كان ممتازاً في الخط وممتازاً في التصوير، وممتازاً في الرسم على المعادن و”اللاكيه” والخشب؛ وهو شبيه بـ “وليم مورس” في قيامه بحركة إحيائية في سبيل الطباعة الجميلة.
وأشرف على قرية قام فيها صُنَّاعُه بمختلف ألوان الفن تحت إرشاده، ولم ينافسه الزعامة في التصوير في عهد “توكوجاوا” إلا “كورين” ذلك المصور البارع للأشجار والأزهار، الذي يحدثنا عنه معاصروه فيقولون إنه كان يستطيع بجرة واحدة من فرجونه أن يطبع ورقة من أوراق السوسن على قماشه الحرير فتحيا؛ ولست تجد مصوراً سواه تمثلت فيه الروح اليابانية الخالصة كاملة كما تمثلت فيه؛ أو أظهر الروح اليابانية كما أظهرها هو إظهار جعله بمثابة النمط لليابان كلها في سلامة ذوقه ودقة فنه”.
“مارويامي أوكيو”..
ويكمل الكتاب عن آخر مدرسة تصوير: “وآخر مدارس التصوير اليابانية التي يسجلها التاريخ، بمعنى كلمة التصوير الدقيق، مدرسة أسسها “مارويامي أوكيو” في كيوتو في القرن الثامن عشر؛ وكان “أوكيو” هذا رجلاً من الشعب، حركت نوازع الفن في نفسه معرفته اليسيرة بالتصوير الأوربي، فصمم أن يهجر الأسلوب القديم بما فيه من نزعة مثالية ونزعة تأثرية قد نفذت منهما عصارة الحياة، وأن يحاول وصفاً واقعياً لمشاهد بسيطة يختارها من الحياة اليومية الجارية؛ وأغرم غراماً خاصاً برسم الحيوان، واحتفظ بصنوف كثيرة من أنواع الحيوان تعيش حوله ليتخذ منها موضوعـات لـفنه؛ وقـد حـدث مـرة أن رسم خـنزيراً مـتوحشاً وأطلع الصيادين على صورته فخاب رجاءه حين ظن هؤلاء الصيادون أن الخنزير المرسوم يصور خنزيراً ميتاً؛ فلبث يحاول، حتى رسم صورة لخنزير قال عنها الصيادون إن الخنزير الذي تصوره ليس ميتاً، ولكنه نعسان؛ ولما كانت الطبقة العالية في كيوتو مفلسة، اضطر “أوكيو” أن يبيع صوره لأبناء الطبقة الوسطى، ولعل هذه الضرورة الاقتصادية هي التي ألزمته إلى حد كبير أن يختار لفنه موضوعات شعبية، لدرجة أنه جعل يصور بعض غانيات كيوتو، وصعق لذلك فنانو الجيل السابق لجيله، ولكنه مضى في طريقه خارجاً على التقاليد؛ وجاء “موري سوزن” فتقبل زعامة “أوكيو” في التزام الطبيعة في الفن، وقصد إلى حيث تسكن الحيوانات فعاش بينها لكي يتاح له الإخلاص في تصويرها، حتى أصبح أعظم مصور ياباني في رسم القردة والغزلان؛ فلما مات “أوكيو” (1795) كان الواقعيون قد كسبوا السيادة التامة على فن التصوير، واستطاعت مدرسة شعبية خالصة أن تستوقف الأنظار، لا في اليابان وحدها، بل في أرجاء العالم كله”.