15 نوفمبر، 2024 11:27 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (154):  المصور الياباني أخلص لمشاعره تجاه ما يرسمه

قصة الحضارة (154):  المصور الياباني أخلص لمشاعره تجاه ما يرسمه

خاص: قراءة- سماح عادل

في فن التصوير في الحضارة اليابانية القديمة، اعتمد الفنان علي ما يشعر به تجاه ما يرسمه، لا أن يقدمه كما هو شكلا محايدا. وذلك في الحلقة الرابعة والخمسين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

التصوير..

انتقل الكتاب إلي الحكي عن التصوير: “آيات التصوير الياباني نتاج فترة من الزمن طولها ألف ومائتا عام، تتقسمها كثرة متشابكة الخيوط من مختلف المدارس؛ وقد طرأ على تلك الآيات الفساد أو الضياع على مر الزمن، وتكاد كلها تكون خبيثة بين المجموعات الخاصة في اليابان .

وأما الآيات القليلة المعروضة لأعين الباحثين من الأجانب، فمختلفة في قالبها وطريقتها وأسلوبها ومادتها عن الصور الغربية اختلافاً، يستحيل معه إصدار حكم سليم عليها من عقل غربي. فالصور اليابانية قبل كل شيء تشبه نماذجها في الصين من حيث إنها رُسمت أول ما رسمت بنفس الفرجون الذي كان يستخدم للكتابة؛ والكلمة التي معناها كتابة، والأخرى التي معناها تصوير، هما في الأصل كلمة واحدة  كما هي الحال أيضاً عند اليونان.

فالتصوير كان عبارة عن فن خطي؛ وهذه الحقيقة الأساسية قد تفرع عنها نصف خصائص التصوير في الشرق الأقصى، بادئاً من المادة المستعملة في التصوير، ومنتهياً إلى إخضاع اللون للتخطيط، فالمواد المستعملة بسيطة: مداد أو ألوان مائية، وفرجون وورق نشاف أو حرير نشاف، وأما العمل نفسه فعسير: فالفنان لا يعمل وهو واقف، بل يعمل جاثياً على ركبتيه، منحنياً على قطعة الحرير أو قطعة الورق المنشورة على الأرض؛ ولابد له من ضبط يده في التخطيط بالفرجون، حتى يستطيع أن يخط إحدى وسبعين درجة أو أسلوباً من درجات التخطيط أو أساليبه.

وكانت الرسوم ترسم على الجدران في القرون الأولى، أيام أن كانت البوذية مسيطرة على الفن في اليابان، على نحو ما كانت ترسم الصور الجدارية في “أجانتا” أو “تركستان”؛ غير أن كل ما بقي لدينا تقريباً من أعمال فنية واسعة الشهرة إما أن تكون من نوع الـ “ماكيمونو” أي اللفائف أو نوع الـ “كاكيمونو” أي التعاليق أو من نوع الستائر، ولم تكن هذه الصورة ترسم لتعرض في متاحف الفن عرضاً يخلو من استساغة المشاهدين لفنها  إذ ليس في اليابان متاحف للفن.

إنما كانت ترسم لتكون متعة لناظري مقتنيها وأنظار أصدقائه؛ أو كانت تُرسم لتكون جزءاً من زينة زخرفية في معبد أو قصر أو منزل؛ وكان من النادر جداً أن تصور تلك الرسوم أشخاصاً معينين، إذ كان معظمها يصور لمحات من الطبيعة، أو مشاهد من النشاط العسكري، أو قبسات فكهة أو تهكمية تصور ما يشاهده الفنان من طرائق العيش عند الحيوان أو بني الإنسان نساء ورجالاً”.

وجدان الفنان..

وعن تعبير التصوير عن ما يجري داخل الفنان يواصل الكتاب: “كانت صورهم أقرب إلى أن تكون قصائد تعبر عن وجدان الفنان، منها إلى أن تكون رسماً لأشياء؛ كما كانت أدنى شبهاً بالفلسفة منها بالتصوير الفوتوغرافي؛ فلم يحاول الفنان الياباني أن يلتزم الواقع في تصويره، وقلما أراد أن يقلد برسمه الصورة الخارجية للشيء المرسوم، فقد نفض يديه، في ازدراء من ظلال الأشياء، على اعتبار أنها لا تتصل بجواهر الأشياء، مؤثراً لنفسه أن يصور “في الهواء الطلق” بمعنى أنه لا يتقيد بتجسيم الشيء بوساطة تأثير النور والظل.

وهو يبتسم ساخراً بالغربيين في إصرارهم على أن يخضعوا الأشياء البعيدة لقواعد النظر في رؤيته للأشياء على أبعاد، بحيث تصغر تبعاً لذلك أو تكبر، يقول “هوكاساي”  في تسامح فلسفي  “إن التصوير الياباني يمثل القالب واللون بغض النظر عن التجسيم. أما طرائق الأوربيين فتهدف إلى التجسيم والإيهام”.

أراد الفنان الياباني أن ينقل شعوراً أكثر مما ينقل شيئاً، أراد أن يوحي أكثر مما يعرض الشيء بأكمله كما هو، ففي رأيه لا يلزم أن تبين من عناصر المنظر المرسوم أكثر من عدد قليل، فالأمر هنا في التصوير كالأمر في الشعر الياباني، الذي لا يسمح بالزيادة في القول عن مجرد القدر الذي يكفي لإثارة وجدان التقدير الفني في السامع، بحيث يعمل خياله إعمالاً يكمل به النتيجة الجمالية المراد بلوغها. وكان المصور شاعراً، يقدر إيقاع التخطيط، ويقدر موسيقى القوالب، أكثر جداً مما يقدر أشكال الأشياء وطرائق بنائها التي تختار اختياراً كما اتفق، وهو كالشاعر يعتقد أنه لو أخلص لمشاعره، فحسبه هذا القدر من الواقعية”.

كوريا..

وعن التأثر بالفن الكوري يضيف الكتاب: “ويحتمل أن تكون كوريا هي التي جاءت بفن التصوير للإمبراطورية القلقة التي تم لها عندئذ غزوها، وأغلب الظن أن بعض رجال الفن من كوريا هم الذين رسموا الصور الجدارية ذات الانسياب في خطوطها والازدهار في ألوانها التي تراها في “معبد هوريوجي”، لأنك لا تجد شيئاً في تاريخ اليابان فيما قبل القرن السابع، تفسر به مثل هذا الإنتاج القومي المفاجئ الذي بلغ فيه كمال الفن روعة لا يعيبها خطأ.

ثم جاءها الحافز الثاني من الصين مباشرة، حين ذهب إليها الكاهنان اليابانيان “كوبودايشي” و”دنجيودايشي” ليدرسا فيها فن التصوير، فلما عاد “كوبودايشي” (سنة 806) إلى اليابان، كرس نفسه للتصوير وللنحت وللأدب والعبادة في آن معاً، وبعض الآيات التي تعد من أقدم الآيات الفنية، هي من نتاج فرجونه المتعدد المواهب.

وكانت البوذية أيضاً مصدر وحي للفنان في اليابان كما كانت مصدر وحي له في الصين، فممارسة الحالة التأملية البوذية المعروفة باسم “زن” قد اتجهت ناحية الإبداع في ناحيتي اللون والشكل، بقوة تكاد تقرب من القوة التي اتجهت بها نحو الفلسفة والشعر؛ وكثرت مناظر “اميدا بوذا” في الفن الياباني كثرة مناظر البشرى بمولد المسيح ومناظر صَلْبه على الجدران واللوحات التي ترجع إلى عهد النهضة الأوربية؛ والكاهن “ييشين سوزو” مات سنة 1017 هو لليابان بمثابة “فرا إنجليكو” و “إلى جريكو” لذلك العصر.

فتصويره لصعود “أميدا” وهبوطه جعله أعظم مصور ديني في تاريخ اليابان؛ وكان عندئذ “كوسي نو – كا نوكا” حوالي 950 قد بدأ في جعل التصوير الياباني علماني الصبغة؛ وهاهنا بدأت الطيور والزهور والحيوان تنافس الآلهة والأولياء على لوحات التصوير”.

مدرسة يابانية..

وعن نشأة مدرسة يابانية في التصوير يتابع الكتاب: “غير أن فرجون “كوسي” كان ما يزال يتحرك على أساس القواعد الصينية ويفكر بعقول أهل الفن في الصين؛ ولم تبدأ اليابان في قرونها الخمسة التي اعتزلت بنفسها فيها وأخذت خلالها تصور مناظرها هي، وموضوعاتها هي، بطريقتها الخاصة، إلا حين وقفت علاقات الاتصال بين اليابان والصين في القرن التاسع.

ونشأت مدرسة قومية لفن التصوير حوالي سنة 1150، تحت رعاية الدوائر الإمبراطورية والأرستقراطية في كيوتو؛ وأعلنت تلك المدرسة سخطها على ما يرد إلى البلاد من الخارج، من حوافز وأساليب في عالم الفن، وأخذت على نفسها أن تزخرف منازل العاصمة الفاخرة، برسوم زهور اليابان ومناظرها الطبيعية، وكان لهذه المدرسة عدة أسماء، كما كان لها عدة أعلام بارزين.

فيطلق عليها “ياماتو- ريو” أو الأسلوب الياباني، و”واجا – ريو” ومعناها كذلك الأسلوب الياباني، و”كاسوجا” باسم مؤسسها المشهور، وأخيراً يطلق عليها “مدرسة توسا” باسم أهم ممثل لها في القرن الثالث عشر، وهو “توسا جون – نو – كومي”؛ ومنذ ذلك الحين، ظل اسم “توسا” يطلق على كل رجال الفن الذين ينتمون إلى تلك المدرسة، وهي مدرسة جديدة بوصفها بالصفة القومية، لأنك لا تجد في الفن الصيني ما يقابل مما أنتجته فراجين أتباع هذه المدرسة من حيث القوة والثبات والتنوع والفكاهة.

مما تراه في اللوحات التي تقص قصصاً عن الحب والحرب، فحوالي سنة 1010 رسم “تاكايوشي” بالألوان رسوماً فخمة تصور حكاية “جنجي” وما فيها من غواية، وسرى “توبا سوجو” عن نفسه برسم صور تهكمية نابضة بالحياة، يسخر فيها من أوغاد عصره وكهنته، تحت ستار من القردة والضفادع، ولما وجد “فوجيوارا تاكانوبو” قرب نهاية القرن الثاني عشر، أن حسبه الشريف لا يغنيه شيئاً مذكوراً في إشباع حاجته من الطعام والشراب، استدار للفرجون يكسب به عيشه، ورسم صوراً عظيمة لـ “يورنيومو” وغيره، لا تشبه في شيء قط ما أنتجته الصين حتى ذلك الحين.

وصور ابنه “فوجيوارا نوبوزاني” ستاً وثلاثين صورة للشعراء، محتملاً ما في ذلك العمل من صبر، وفي القرن الثالث عشر رسم ابن “كاسوجا” وهو “كيون”أو غيره. تلك اللوحات الحية التي تعد من أروع ما أنتجه العالم كله في فن التصوير”.

نهضة صنج..

وعن عودة التأثر بالحضارة الصينية يتابع الكتاب: “لكن هذه المصادر القومية التي كانت تبعث الوحي، راحت تجف شيئاً فشيئاً، بحيث تتحول إلى أوضاع تقليدية في الأشكال والأساليب، وعاد الفن الياباني من جديد فالتمس غذاءه عند المدارس الجديدة التي كانت ناهضة في الصين أيام “نهضة صنج”، ولبث اليابانيون حيناً مدفوعين إلى تقليد الصين بغير ضابط، وأنفق الفنانون اليابانيون الذين لم يشهدوا “المملكة الوسطى” قط، أنفقوا أعمارهم في رسم أشخاص ومناظر من الصين، فرسم “شو دنو” ست عشرة صورة لأولياء بوذيين، هي الآن بين الكنوز المعروضة في “متحف فرير”للفن في واشنطن.

وأما “شوبون” فقد شاءت له ظروفه أن يولد وأن ينشأ في الصين، فلما جاء ليقضي حياته في اليابان، استطاع أن يصور مناظر طبيعية صينية مستعيناً في ذلك بذاكرته وبخياله معاً”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة