خاص: قراءة- سماح عادل
فن النحت في الحضارة اليابانية القديمة، وكيف برع فيه الصناع لدرجة عمل تماثيل غاية في الضخامة والجمال، ومنحوتات غاية في الدقة والصغر. وذلك في الحلقة الواحد والخمسين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
النحت..
وعن فن النحت وصناعة التماثيل في الحضارة اليابانية القديمة يذكر الكتاب: “كان سيف الرجل من طائفة “السيافين” أصلب عوداً من مسكنه؛ لأن صناع المعادن في اليابان بذلوا جهدهم كله في صناعة أسياف تفوق أسياف دمشق وطليطلة، فقد كانوا يصنعونها من المضاء بحيث تكفي ضربة واحدة منها لشق الرجل من كتفه إلى فخذه؛ وكذلك كانوا يزخرفونها بالمقابض والمدلَّيات التي يسرفون في تزيينها، أو في ترصيعها بالجواهر، إسرافاً لم يجعلها دائماً صالحة للنقل؛ ومن صناع المعادن من كانوا يختصون بصناعة المرايا من البرونز، يصقلونها صقلاً أثار خيال أصحاب الأساطير، بحيث راحوا يروون أساطيرهم إعجاباً بما بلغته تلك المرايا من كمال.
من ذلك مثلاً أن فلاحاً اشترى مرآة لأول مرة، ونظر إليها فظن أنه يرى فيها وجه أبيه الميت، فأخفاها على أنها كنز ثمين؛ لكنه كان يتسلل إليها فارتابت زوجته في أمره، وأخرجت المرآة يوماً من مكمنها، فما كان أشد فزعها حين رأت امرأة في مثل سنها، ورجحت أن تكون تلك المرأة خليلة زوجها.
ومن هؤلاء الصناع من افتنَّ في صناعة الأجراس الضخمة، مثل ذلك الجرس العظيم في نارا (732 ميلادية) الذي تبلغ زنته تسعة وأربعين طناً، وكانوا يستخرجون من تلك الأجراس أنغامها الحلوة، أحلى من الأصوات التي تنبعث من مصفقاتنا المعدنية في الغرب، بطرقها بلسان من خارجها، يهزونه بوساطة عمود خشبي متأرجح”.
مواد النحت..
وعن المواد التي كان يفضلها اليابانيون يتابع الكتاب: “وكان النحاتون أميل إلى استخدام الخشب أو المعدن منهم إلى استخدام الحجر، لفقر بلادهم في الجرانيت والمرمر؛ ومع ذلك، فعلى الرغم من صعوبات المادة كلها؛ استطاعوا أن يفوقوا معلميهم من أهل الصين وكوريا، في هذا الفن الذي هو أوضح فن في تحديد معالمه، فسائر الفنون كلها تحاول في خفاء أن تحاكي ما يفعله النحات صابراً حين يزيل ما لا يجوز بقاؤه من مادته”.
“ثالوث هوريوجي” البرونزي..
ويواصل عن تحفة فنية: “وأقدم آية في فن النحت الياباني تقريباً وربما كانت كذلك أعظم آيات اليابان في ذلك الفن هي “ثالوث هوريوجي” البرونزي، وقوامه بوذا جالساً على برعم من براعم اللوتس بين بوذيْن منتظَرَيْن، أمام ستار وهالة من البرونز، لا يفوقهما جمالاً إلا الوشي الحجري الذي نراه على ستار “أورنجزيب” في “تاج محل”.
ولسنا ندري من ذا أبدعت يداه هذه المعابد فأقامها، وتلك التماثيل فنحتها؛ ولنا أن نقول إنها من إرشاد معلمين كوريين، أو أنها اقتفت نماذج من الصين؛ أو أنها تعزى إلى حوافز من الهند، بل لنا أن نقول إنها متأثرة بمؤثرات يونانية جاءتها من أيونيا البعيدة عبر ألف من السنين؛ لكن الذي لا نشك فيه هو أن هذا الثالوث آية من أبدع آيات الفن في تاريخه كله “.
تماثيل ضخمة..
وعن عمل تماثيل ضخمة يضيف الكتاب: “يجوز أن يكون قِصَر قامة اليابانيين، بحيث توشك أجسامهم أن تنوء بحمل مطامحهم وقدراتهم الروحية، هو الذي جعلهم يلتمسون المتعة في إقامة التماثيل الضخمة؛ وقد وفقوا في هذا الفن المحفوف بمواضع الزلل، أكثر مما وفق المصريون أنفسهم؛ فلما فشا الجدري في اليابان سنة 747، كلف الإمبراطور “شومو” “كيميمارو” أن يصوغ تمثالاً ضخماً لبوذا استرضاء للآلهة. فاستخدم “كيميمارو” لهذه الغاية أربعمائة وسبعة وثلاثين طناً من البرونز، ومائتين وثمانية وثمانين رطلاً من الذهب، ومائة وخمسة وستين رطلاً من الزئبق، وسبعة أطنان من الشمع النباتي، وعدة أطنان من الفحم، وقد تطلب هذا العمل عامين، واقتضى سبع محاولات؛ فصب الرأس في قالب واحد، أما البدن فكان مؤلفاً من رقائق معدنية كثيرة لصق بعضها ببعض ثـم غطيت بغشـاء سميك مـن الذهب.
وإن الأجنبي عـن اليابان ليعجب لتمثال بوذا “وايبوستو” القائم في “كاماكورا”، أكثر مما يعجب لذلك التمثال الكئيب العابس في “نارا” وتمثال “وايبوستو” هذا مصبوب من البرونز تم صنعه سنة 1252 على يدي “أونوجرينمون”، ولعل ما يجعل حجم هذا التمثال مناسباً للغاية منه، كونه جالساً على مرتفع في الفضاء المكشوف، محوطاً بمنظر جميل من الشجر، فضلاً عن أن الفنان هنا قد عبر ببساطة تدعو إلى العجب، عن روح بوذا في تأمله وسكينته.
وكان هذا التمثال بادئ الأمر قائماً في معبد كما هي الحال اليوم في التمثال القائم في “نارا” لكن حدث في سنة 1495 أن اجتاحت المكان موجة من البحر، فاكتسحت المعبد والمدينة جميعاً، تاركة فيلسوفنا البرونزي هادئاً وسط هذا الخراب الشامل، وما ملأ الأرض حوله من عذاب وموت.
كذلك شيد “هيديوشي” تمثالاً ضخماً في كيوتو، ولبث خمسون ألف رجل يعملون مدى خمسة أعوام في إقامة هذا التمثال لبوذا؛ بل كان الحاكم العظيم نفسه يتلفع أحياناً بثوب عامل بسيط، ويعاون العاملين في إقامة التمثال معاونة كبرى؛ لكنه لم يكد يتم بناؤه، حتى زلزلت الأرض سنة 1596 فألقت به على الأرض هشيماً، ونثرت حطام جزئه الداخلي الذي كان مفروضاً أن يكون حرماً وموئلاً، نثرتها حول رأسه؛ ويروى في اليابان أن “هيديوشي” رمى الصنم المحطم بسهم قائلاً في ازدراء: “لقد أقمتك هاهنا بباهظ النفقات، فلم تستطع حتى حماية معبدك”.
(النتسوكا)..
وعن الدقة في عمل منحوتات غاية في الصغر يكمل الكتاب: “في هذا المدى الذي يتفاوت فيه الحجم: من أمثال هذه التماثيل الضخمة إلى المدليات (النتسوكا) الصغيرة، تناول النحت الياباني كل ضروب الأشكال في شتى ضروب الأحجام: فأحياناً ترى سادة هذا الفنمثل “تاكامورا” في يومنا هذا ينفقون أعواماً من العمل المتصل في صناعة تماثيل لا تكاد تبلغ قدماً واحدة في طولها؛ وكان يمتعهم أن يصوروا بتماثيلهم تلك كهولاً في الثمانين التَوَت أبدانهم؛ أو شرهين يمرحون في الشره، أو كهنة متفلسفين. وإنه لمن الخير أن نرى روح الفكاهة في عملهم قد شجعهم على المضي في فنهم، لأن معظم الكسب الذي كانت تدره صناعتهم، كان يستولي عليه مستخدموهم الدهاة وكانوا في تماثيلهم الكبيرة مقيدين بتقاليد خاصة بموضوع التمثال، أو بطريقة أدائه، مما يفرضه عليهم الكهنة.
فالكهنة إنما أرادوا من هؤلاء النحاتين أن يصوروا لهم آلهة لا نساء فاجرات، أرادوا أن يوحوا إلى الناس بالتقوى، أو أن يحيطوا فضائلهم بعوامل الخوف لا أن يستثيروا في الناس إحساسهم بالغبطة والجمال، ولما كان النحاتون مرتبطين يداً وروحاً بالدين فقد تدهور فن النحت حين بردت حرارة الإيمان وذهبت قوته؛ وكما حدث في مصر من قبل، رأينا أنه لما غاض معين التقوى، بقيت صلابة التقاليد في الفن دليلاً على برودة الموت”.