خاص: قراءة- سماح عادل
انتقل الكتاب إلي الحكي عن فن الموسيقي في الحضارة اليابانية القديمة، ومدي انتشار حب العزف بين فئات الشعب، كما تناول الخشب المحفور ببراعة ودقة. وذلك في الحلقة الخمسين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الموسيقى والرقص..
وعن الموسيقي والرقص يستأنف الكتاب الحديث: “جاءت القوالب الخارجية للفن الياباني من الصين، مثلها في ذلك مثل كل ظاهرة بادية من ظواهر الحياة اليابانية؛ أما القوة والروح الداخليان، فمثلهما مثل كل ما هو حيوي من أمور اليابان، في صدورهما عن الشعب نفسه؛ نعم إن الموجة الفكرية والهجرة اللتين جاءتا إلى اليابان بالبوذية في القرن السابع، قد جاءتاها كذلك من الصين وكوريا بصور الفن وبالدوافع النفسية المرتبطة بتلك العقيدة، التي ليست أصل في الصين وكوريا منها في اليابان، بل إنه لمن الحق أيضاً أن العناصر الثقافية لم تدخل إلى اليابان من الصين والهند وحدهما، بل جاءتها كذلك من أشور واليونان.
فالملامح التي تراها في بوذا كاما كورا مثلاً أقرب إلى الملامح “اليونانية البكتيرية” منها إلى الملامح اليابانية لكن هذه الحوافز وإن تكن قد جاءت إلى اليابان من الخارج، إلا أنها استُخدمت هناك في إبداع ما هو جديد؛ فسرعان ما تعلم شعب اليابان أن يفرق بين الجمال والقبح؛ وكثيراً ما كان أغنياء تلك البلاد يؤثرون تحف الفن على الأرض أو الذهب، وكان رجال الفن فيها يعملون بإخلاص لفنهم أنساهم نفوسهم.
وهؤلاء الفنانون، على الرغم من أنهم كانوا يجتازون دوراً طويلا عنيفاً من التدريب الفني، قَلَّ أن تقاضوا على فنهم أجراً أكثر ممـا كـان يتـقاضاه الصـناع مـن أجـور؛ وإن شاءت لهم الأيام مرة أن يجيئهم شيء من ثراء، راحوا يبددونه في إسراف مستهتر، ثم لم يلبثوا بعدئذ أن يعودوا إلى فقرهم الطبيعي الذي ترتاح إليه نفوسهم، أما من حيث النشاط والذوق والمهارة، فلم يكن يدانيهم إلا أرباب الفن من أهل مصر القديمة واليونان في عصورها الوسطى”.
مظاهر الفن..
وعن انتشار مظاهر الفن في تفاصيل الحياة: “إن حياة الشعب نفسها كانت تتخللها علائم الفن، تراها في نظافة بيوتهم وجمال ملابسهم، وظرف حليهم، وإقبالهم إقبالاً فطرياً على الغناء والرقص؛ ذلك لأن الموسيقى كالحياة جاءت إلى اليابان من الآلهة نفسها.
ألم تُغَن “إيزانامي” في جوقات جمعية عند خلق الأرض؟ ونقرأ عنهم أن الإمبراطور “إنكيو” عزف على آلة موسيقية بعد ذلك بألف عام، وقامت الإمبراطورة ترقص لعزفه، وكان ذلك في مأدبة إمبراطورية سنة 419، أقيمت احتفالاً بافتتاح قصر جديد؛ ولما مات “إنيكو” أرسل أحد ملوك كوريا ثمانين موسيقاراً ليعزفوا في جنازته، فعلم هؤلاء العازفون أهل اليابان آلات موسيقية جديدة وأنغاماً جديدة، بعضها من كوريا، وبعضها من الصين، وبعض ثالث من الهند.
ولما نُصِب الـ “دايبوتسو” في معبد “تودايجي” في نارا عزفت موسيقى الأساتذة من الصين في احتفال التنصيب؛ ولا يزال “بيت المال” الإمبراطوري في نارا يعرض علينا الآلات التي استخدمت في تلك الأيام السوالف، وكان الغناء والإلقاء”.
الأديرة..
وعن تصنيف الموسيقي طبقيا يواصل الكتاب: “وموسيقى القصر وموسيقى الرقص في الأديرة، هي الضروب الرفيعة الموقرة من الموسيقى، أما الأنغام الشعبية فكانوا يعزفونها على آلة يسمونها “بيوا” “أي قيثارة” أو على آلة يطلقون عليها “ساميزانة” وهي آلة ذات ثلاثة أوتار، ولم يكن لليابانيين نوابغ في التأليف الموسيقي، ولا كان لهم كتب في الموسيقى، وتأليفهم الموسيقية الساذجة التي كانوا يعزفونها في خمسة أنغام على السلم الهارموني الصغير، لم يكن فيها اتساق في النغم، ولا كان عندهم تمييز بين ما هو صغير وما هو كبير من مفاتيح الموسيقى”.
الموسيقي للجميع..
وعن ممارسة العزف بشكل كبير بين الشعب الياباني: “ومع ذلك فكل ياباني تقريباً كان يستطيع العزف على آلة من الآلات العشرين التي جاءتهم من القارة الآسيوية؛ ويقول اليابانيون إن أية واحدة من هذه الآلات لو أتقن العزف عليها، استطاعت أن ترقص الغبار العالق بسقف المكان، والرقص نفسه شاع بينهم “شيوعاً لا نظير له في أي بلد آخر” ولم يكونوا يرقصون على سبيل إتمام مقتضيات الغرام بين عشيقين، بمقدار ما كانوا يرقصون تنسكا في العبادة أو في الحفلات الجمعية.
فكان يحدث أحياناً أن يخرج أهل قرية بأسرهم، في أبهى حللهم، ليحتفلوا بإحدى المناسبات السعيدة احتفالا راقصا يشترك فيه الناس جميعا. وكانت الراقصات المحترفات يجتذبن حشوداً من الجماهير بمهارتهن في الرقص؛ وكنت تجد الرجال والنساء على السواء حتى في أرفع الطبقات ينفقون من وقتهم زمناً طويلاً في هذا الفن.
تقول “السيدة موراساكي” في قصتها عن “جنجي” إنه حين رقص رقصة “موجات البحر الأزرق” مع صديقته “تونو – شوجو” تحركت العواطف في صدور المشاهدين جميعاً؟ “فلم يشهد أولئك المشاهدون قط في حياتهم أقداماً تطأ الأرض بهذه الرشاقة كلها، ولا شاهدوا رؤوساً قامت على أعناقها بهذا الجلال كله. كانت هذه الرقصة من عمق التأثير في النفوس ومن جمال الحركات، بحيث أغرورقت عينا الإمبراطور في ختامها، وأجهش الأمراء والسادة كلهم بالبكاء””.
حفر الخشب..
ويضيف الكتاب عن مهارة حفر الخشب: ” وقد كان كل من تسعفه ظروفه المالية، يزين نفسه زينةً، لا يكتفي فيها بالوشي الجميل والدمقس المصور بالرسوم، بل يضيف إلى ذلك تحفاً رقيقة هي من الخصائص المميزة لليابان القديمة، بل توشك أن تكون تعريفاً يحدد معناها؛ فكان النساء ينكمشن ليغازلن الرجال من وراء مراوح فتانة الجمال، بينما الرجال يسيرون في خيلاء بما حملوا من سيوف نقشت نقشاً نفيساً، وما علقوا في مناطقهم من صناديق يسمون الواحد منها “إنْروُ” تدلت من أوساطهم بخيط سميك، وكان الصندوق منها يتألف عادة من عيون نقشت في العاج أو الخشب نقشاً دقيقاً، يضعون فيها التبغ والنقود وأدوات الكتابة وغير ذلك مما يلزم استعماله أحياناً.
ولكي يمتنع سقوط الخيط منزلقاً تحت المنطقة، كانوا يربطونه في الجانب الآخر من المنطقة بوصلة صغيرة يسمونها “نتسوكا” وهي كلمة مكونة من جزئين: “ني” ومعناها طرف، و “تسوكا” ومعناها يربط، وكانت تلك الوصلة تعهد إلى فنان يرسم على سطحها المتغضن رسماً مسرفاً في الرقة والنفاسة، رسماً لآلهة أو شياطين أو فلاسفة أو حور أو طيور أو زواحف أو سمك أو حشر أو زهر أو أوراق شجر أو مناظر من حياة الناس.
وهاهنا وجدت روح الفكاهة الشيطانية التي يتفوق فيها الفن الياباني على سائر الفنون تفوقاً فسيحاً، وجدت متنفساً طليقاً، وإن يكن متواضعاً، فلن يتكشف لك ما في هذه التحف الفنية من لطف بالغ ودلالة كبرى، إلا بعد فحص دقيق لها، غير أن لمحة سريعة تنظر بها إلى صورة مصغرة لامرأة بدينة أو كاهن سمين أو قرد خفيف الحركات أو حشرات لطيفة، مما كانوا ينقشونه على مساحة لا تبلغ بوصة واحدة مكعبة من العاج أو الخشب، تكفيك للتأكد مما كان للشعب الياباني من خصال فنية فذة تنبض بحرارة العاطفة” .
“هيداري جنجارو”..
وعن احد مشاهير هذا الفن يكمل الكتاب: “وكان أشهر من حفر الخشب من اليابانيين هو “هيداري جنجارو” هيداري معناها مبتور اليد اليسرى، فتنبئنا الأساطير كيف فقد ذراعا وكسب إسما؛ وذلك أن ظافراً في القتال طالب مولى “جنجارو” بحياة ابنته، فنحت “جنجاروا” رأساً مبتوراً يمثل رأس ابنة مولاه تمثيلاً بلغ من الصدق حداً جعل ذلك الظافر يأمر ببتر الذراع اليسرى لهذا الفنان عقاباً له على قتـل ابنـة مـولاه.
جنـجارو هـو الـذي نـحت بـإزميله الفـيلة والقطـة النائمة التي نراها في ضريح “أيياسو” في نِكُو”، وهو الذي نحت كذلك “باب السفير الإمبراطوري” في معبد “نيشي – هنجوان” في كيوتو؛ وقد قص الفنان على الجانب الداخلي من ذلك الباب قصة الحكم الصيني الذي طهر أذنه مما أصابها من دنس باستماعها لاقتراح عُرض عليه بقبول عرش بلاده، وكيف تجمع قطيع الماشية في تجهم، يقاتل ذلك الحكيم لأنه أصاب ماء النهر بالنجاسة حين أراد تطهير أذنه الدنسة؛ على أن “جنجارو” لم يكسب شهرته هذه إلا لأنه أبرز فنان في وضوح شخصيته، من بين طائفة الفنانين الذين ذهب الزمان بأسمائهم، والذين زينوا ألوف المباني بالخشب المنقوش أو المدهون نقشاً أو دهناً جميلاً”.
شجرة “اللاكيه”..
وعن أهمية نوع معين من الأشجار: “لقد لقيت شجرة “اللاكيه” في جزر اليابان منزلة تتناسب مع شغف أولئك الناس بالفنون، فكانوا يروونها في عناية عظيمة؛ وكان رجال الفن أحياناً يكسون نقوشهم التي نحتوها في الخشب بطبقات من “اللاكيه”، وأحياناً أخرى يسرفون في فرض العناء على أنفسهم بأن يصبوا تمثالاً من الطين، ثم يجعلونه أجوف، ثم يضعون في جوفه عدة طبقات من “اللاكيه”، كل طبقة تكون أسمك من سابقتها.
وهكذا رفع الفنان الياباني مادة الخشب إلى منزلة المرمر، وملأ الأضرحة والمقابر والقصور بأجمل ما نعرفه في القارة الآسيوية من الزخارف الخشبية”.