6 أبريل، 2024 11:14 م
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (15): اعتمد السومريون على نظام الإقطاع وعلى الدين لحفظ التقسيم الطبقي

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: قراءة- سماح عادل

في الحلقة الخامسة عشرة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء. يتناول الكتاب الحياة الاقتصادية في الحضارة السومرية، وكيف كانوا يتاجر السومريون وينقسمون إلى طبقات.

كما تناول الكتاب القوانين والنظام الإقطاعي والدين كوسيلة لإخضاع الناس وحفظ نظام الطبقات، ونفوذ الكهنة الذي ازداد والنساء وأحوالهن.

الحياة الاقتصادية للسومريين..

يواصل الكتاب تناول الحضارة السومرية باعتبارها من أولى الحضارات العالمية: “انقضى عهد السومريين، ولكن حضارتهم لم ُيقض عليها، فقد ظلت سومر وأكد تخرجان صناعاً وشعراء وفنانين وحكماء ورجال دين، وانتقلت حضارة المدن الجنوبية إلى الشمال على طول مجرى نهر الفرات ودجلة حتى وصلت إلى بلاد بابل وأشور، وكانت هي التراث الأول لحضارة بلاد الجزيرة.

وكان أساس هذه الثقافة وتربة الأرض التي أخصبها فيضان النهرين السنوي، وهو الفيضان الناشئ من سقوط الأمطار الشتوية. وكان هذا الفيضان ضاراً ونافعاً، فقد هدا السومريين إلى أن يجروا ماءه جرياناً أميناً في قنوات للري تخترق البلاد طولاً وعرضاً؛ وقد خلدوا أخطاره الأولى بالقصص التي تتحدث عن فيضان عظيم طغى على الأرض ثم انحسر عنها آخر الأمر ونجا الناس من شره.

وكان نظام الري المحكم الذي يرجع عهده إلى أربعة آلاف سنة ق.م من أعظم الأعمال الإنشائية في الحضارة السومرية، وما من شك في أنه كان أيضا الأساس الذي قامت عليه. فقد أخرجت الحقول التي عنوا بريها وزرعها محصولات موفورة من الذرة والشعير والقمح والبلح والخضر الكثيرة المختلفة الأنواع، وظهر عندهم المحراث من أقدم العصور تجره الثيران كما كانت تجره في بلادنا حتى الأمس القريب. وكان يتصل به أنبوبة مثقوبة لبذر البذور. وكانوا يدرسون المحاصيل بعربات كبيرة من الخشب ركبت فيها أسنان من الظران تفتت القش ليكون علفاً للماشية، وتفصل منه الحب ليكون طعاماً للناس”.

موضحا تفاصيل الحياة الاقتصادية لديهم: “ولقد كانت هذه الثقافة بدائية من نواحٍ كثيرة فقد كان السومريون يستخدمون النحاس والقصدير، وكانوا يخلطونهما في بعض الأحيان ليصنعوا منهما البرونز، وبلغ من أمرهم أنهم كانوا من حين إلى حين يصنعون من الحديد آلات كبيرة. ولكن المعادن مع هذا كانت نادرة الوجود قليلة الاستعمال؛ وكانت كثرة الآلات السومرية تتخذ من الظران، وبعضها، كالمناجل التي يقطع بها الشعير، يصنع من الطين؛ أما الدقيق منها كالإبر والمثاقب فكان يصنع من العاج والعظام.

وكانت صناعة النسيج واسعة الانتشار يشرف عليها مراقبون يعينهم الملك  على أحدث طراز من الإشراف الحكومي على الصناعات عرف حتى الآن. وكانت البيوت تبنى من الغاب تعلوه لبنات من الطين والقش تعجن بالماء وتجفف بالشمس. وما يزال من اليسير العثور على منازل من هذا الطراز في الأرض التي كانت من قبل بلاد سومر، وكان لهذه الأكواخ أبواب من الخشب تدور في أوقاب منحوتة من الحجارة، وكانت أرضها عادة من الطين، وسقفها مقوسة تصنع من الغاب المثنى إلى أعلى، أو مستوية مصنوعة من الغاب المغطى بالطين المبسوط فوق دعامات من الخشب. وكانت البقر والضأن والخنازير تجول في المساكن في رفقة الإنسان البدائية وكان ماء الشرب يؤخذ من الآبار”.

وعن النقل يحكي: “وأكثر ما كانت تنقل البضائع بطريق الماء. ولما كانت الحجارة نادرة الوجود في بلاد سومر فقد كانت تنقل إليها من خارج البلاد عن طريق الخليج الفارسي أو من أعالي النهرين، ثم تحمل في القنوات إلى أرصفة المدن النهرية.

لكن النقل البري أخذ ينمو وينتشر، وشاهد ذلك ما كشفته بعثة أكسفورد في كش من مركبات هي أقدم ما عرف من المركبات ذات العجلات في تاريخ العالم. وقد عثر في أماكن متفرقة على أختام يستدل منها على وجود صلات تجارية بين سومر وبين مصر والهند. ولم تكن النقود قد عرفت في ذلك الوقت”.

وعن المقايضة والتجارة: “ولهذا كانت التجارة تتبادل عادةً بطريق المقايضة، ولكن الذهب والفضة كانا يستعملان حتى في ذلك الوقت البعيد لتقدير قيم البضاعة، وكانا يقبلان في العادة بدلاً من البضائع نفسها – إما على هيئة سبائك وحلقات ذات قيم محدودة وإما بكميات تقدر قيمتها حسب وزنها في كل صفقة تجارية. وكانت الطريقة الثانية أكثر الطريقتين استعمالاً. وإن كثيراً من ألواح الطين التي وصلت إلينا وعليها بعض الكتابات السومرية لهي وثائق تجارية تكشف عن حياة تجارية جمة النشاط.

ويتحدث لوح من هذه الألواح في لغة تدل على الملل والسآمة عن “المدينة التي تعج بضوضاء الإنسان”. وكان لديهم عقود مكتوبة موثقة يشهد عليها الشهود، ونظام للائتمان تقرض بمقتضاه البضائع والذهب والفضة، وتؤدي عنها فوائد عينية يختلف سعرها من 15% إلى 33% في السنة.ولما كان استقرار المجتمع يتناسب إلى حد ما تناسباً عكسياً مع سعر الفائدة فإن لنا أن نفترض أن التجارة السومرية كانت كتجارتنا يحيط بها جو من الارتياب والاضطراب الاقتصاديين والسياسيين”.

طبقات من الناس..

ويحكي الكتاب عن تقسيم المجتمع السومري طبقيا: “وقد وجدت في المقابر كميات كبيرة من الذهب والفضة منها ما هو حلي ومنها ما هو أوانٍ وأسلحة وزخارف، بل إن منها ما هو عدد وآلات. وكان أهل البلاد الأغنياء منهم والفقراء ينقسمون إلى طبقات ومراتب كثيرة، وكانت تجارة الرقيق منتشرة بينهم وحقوق الملكية مقدسة لديهم. ونشأت بين الأغنياء والفقراء طبقة أفرادها من صغار رجال الأعمال وطلاب العلم والأطباء والكهنة. وقد علا شأن الطب عندهم فكان لكل داء دواء خاص، ولكنه ظل يختلط بالدين ويعترف بأن المرض لا يمكن شفاءه إلا إذا طردت الشياطين من أجسام المرضى، لأن الأمراض إنما تنشأ من تقمصها هذه الأجسام.

وكان لديهم تقويم، لا نعرف متى نشأ ولا أين نشأ، تقسم السنة بمقتضاها إلى اثنا عشر شهراً قمرياً يزيدونها شهراً في كل ثلاثة أعوام أو أربعة حتى يتفق تقويمهم هذا مع فصول السنة ومع منازل الشمس. وكانت كل مدينة تسمي هذه الأشهر بأسماء خاصة”.

نظام الحكم..

وعن نظام الحكم يفصل الكتاب: “والحق أن كل مدينة كانت شديدة الحرص على استقلالها، تعض عليه بالنواجذ، وتستمتع بملك خاص بها تسميه باتيسى أو الملك- الكاهن تدل بهذه التسمية نفسها على أن نظام الحكم كان وثيق الاتصال بالدين. وما وافى عام 1800 ق.م حتى نمت التجارة نمواً جعل هذا الانفصال بين المدن أمراً مستحيلاً، فنشأت منها جميعاً “إمبراطوريات” استطاعت فيها شخصية قوية عظيمة أن تخضع المدن والملوك- الكهنة لسلطانها، وأن تؤلف من هذه المدن وحدة سياسية واقتصادية.

وكان هذا الملك الأعظم صاحب السلطان المطلق يحيط به جو من العنف والخوف شبيه بما كان يحيط بالملوك في عصر النهضة الأوربية. ذلك بأنه كان معرضاً في كل وقت إلى أن ُيقضى عليه بنفس الوسائل التي قضى بها على أعدائه وارتقى بها عرشه. وكان يعيش في قصر منيع له مدخلان ضيقان لا يتسع الواحد منهما لدخول أكثر من شخص واحد في كل مرة. وكان عن يمين المدخل وشماله مخابئ يستطيع من فيها من الحراس السريين أن يفحصوا عن كل زائر أو ينقضوا عليه بالخناجر. بل إن هيكل الملك كان هو نفسه مكاناً سرياً مختفياً في قصره يستطيع أن يؤدي فيه واجباته الدينية دون أن تراه الأعين، أو أن يغفل أداءها دون أن يعرف الناس شيئا عن هذا الإغفال.

وكان الملك يخرج إلى الحرب في عربة على رأس جيش مؤلف من خليط من المقاتلين مسلحين بالقسى والسهام والحراب. وكانت الحرب تشن لأسباب صريحة هي السيطرة على طرق التجارة والاستحواذ على السلع التجارية؛ فلم يكن يخطر لهم ببال أن يستروا هذا الغرض بستار من الألفاظ يخدعون بها أصحاب المثل العليا.

من ذلك أن “منشتوسو” ملك أكد أعلن في صراحة أنه يغزو بلاد عيلام ليستولي على ما فيها من مناجم الفضة، وليحصل منها على حجر الديوريت لتصنع منه التماثيل التي تخلد ذكره في الأعقاب- وتلك هي الحرب الوحيدة في التاريخ التي تخوضها الجيوش لأغراض فنية. وكان المغلوبون يباعون ليكونوا عبيداً، فإذا لم يكن في بيعهم ربح ذبحوا ذبحاً في ميدان القتال. وكان يحدث أحياناً أن يقدم عشر الأسرى قرباناً إلى الآلهة المتعطشة للدماء، فيقتلوا بعد أن يوضعوا في شباك لا يستطيعون الإفلات منها. وقد حدث في هذه المدن ما حدث بعد إذ في المدن الإيطالية في عصر النهضة، فكانت النزعة الانفصالية التي تسود المدن السومرية حافزاً قوياً للحياة والفن فيها، ولكنها كانت كذلك باعثاً على العنف والنزاع الداخلي، فأدى هذا إلى ضعف الدويلات جميعها وإلى سقوط بلاد سومر بأكملها”.

نظام الإقطاع..

وعن نظام الإقطاع: “وكان نظام الإقطاع وسيلة حفظ النظام الاجتماعي في الإمبراطورية السومرية. فقد كان الملك عقب كل حرب يقطع الزعماء البواسل مساحات واسعة من الأرض ويعفيها من الضرائب. وكان من واجب هؤلاء الزعماء أن يحافظوا على النظام في إقطاعاتهم، ويقدموا للملك حاجاته من الجند والعتاد. وكانت موارد الحكومة تتكون من الضرائب التي تجبى عيناً وتخزن في المخازن الملكية وتؤدى منها مرتبات موظفي الدولة وعمالها.

وكان يقوم إلى جانب هذا النظام الملكي الإقطاعي طائفة من القوانين تستند إلى سوابق كثيرة من عهد أور- أنجور ودنجى اللذين جمعا قوانين أور ودوناها. كانت هي المعين الذي استمد منه حمورابي شريعته الذائعة الصيت. وكانت تلك الشرائع أبسط وأكثر بدائية من الشرائع اللاحقة، ولكنها كانت أيضا أقل منها قسوة. مثال ذلك أن الشرائع السامية تقضي بقتل الزوجة إذا زنت، أما الشريعة السومرية فكل ما تجيزه أن تسمح للزوج بأن يتخذ له زوجة ثانية، وأن ينزل الزوجة الأولى منزلة أقل من منزلتها السابقة.

والقانون السومري يشمل العلاقات التجارية كما يشمل العلاقات الزوجية والجنسية بوجه عام، وينظم شئون القروض والعقود، والبيع والشراء، والتبني والوصية بكافة أنواعها. وكانت المحاكم تعقد جلساتها في المعابد وكان معظم قضاتها من رجال الدين؛ أما المحاكم العليا فكان يعين لها قضاة فنيون مختصون. وخير ما في القانون كله هو النظام الذي وضعه لتجنب التقاضي: ذلك أن كل نزاع كان يعرض أولاً على محكم عام واجبه أن يسويه بطريقة ودية دون أن يلجأ المتنازعون إلى حكم القانون، فها هي ذي مدينة بدائية يجدر بنا أن نتلقى منها درسا نصلح به مدينتنا”.

الدين والأخلاق..

وعن الدين والاخلاق يبين الكتاب: “نشر أور- أنجور في البلاد شرائعه باسم الإله الأعظم شمش، ذلك أن الحكومة سرعان ما رأت ما في الالتجاء إلى الدين من فوائد سياسية. فلما أن أصبح الآلهة ذوي فائدة من هذه الناحية تضاعف عددهم مراراً حتى أصبح لكل مدينة، ولكل ولاية، ولكل نوع من النشاط البشري، إله موح مدبر. وكانت عبادة الشمس قد تقادم عهدها حين نشأت بلاد سومر، وكان مظهرها عبادة شمس “نور الآلهة” الذي كان يقضي الليل في الأعماق الشمالية حتى يفتح له الفجر أبوابه فيصعد في السماء كاللهب ويضرب بعربته في أعماق القبة الزرقاء ولم تكن الشمس إلا عجلة في مركبته النارية.

وشيدت مدينة نبور المعابد العظيمة للإله إنليل ولصاحبته ننهيل، وأكثر ما كانت تعبد أوروك إلهة أنينى العذراء إلهة الأرض والمعروفة لدى أهل أكد الساميين باسم إستير، والتي تشبه عند أهل الشرق الأدنى أفرديتى- دمتر الفاجرة الغمليجة عند الغربيين. وعبدت مدينتا كش ولكش أمّاً لهما حزينة هي الإلهة ننكر ساج التي أحزنها شقاء البشر فأخذت تشفع لهم عند الآلهة الذين كانوا أشد منها قسوة؛ وكان ننجرسو إله الريّ و”ربّ الفيضانات”.

وكان أبو أو تموز إله الزرع؛ وكان سِنْ إله القمر، وكانوا يمثلونه في صورة إنسان يعلو رأسه هلال أشبه شيء بالهلالات التي تحيط برؤوس القديسين في العصور الوسطى؛ وكان الهواء كله في زعمهم مملوءً بالأرواح- منها ملائكة خيرين لكل سومر ملك منهم يحميه، ومنها أرواح خبيثة أو شياطين تعمل جاهدة لطرد الروح الخيرة الواقية وتقمص جسم الآدمي وروحه.

وكانت كثرة الآلهة تسكن المعابد حيث يقرب لها المؤمنون القرابين من مال وطعام وأزواج، وتنص ألواح جوديا على الأشياء التي ترتاح لها الآلهة وتفضلها عن غيرها، ومنها الثيران، والمعز، والضأن، واليمام، والدجاج، والبط، والسمك، والبلح، والتين، والخيار، والزبد، والزيت، والكعك. ولنا أن نستدل من هذا الثبت على أن الموسرين من أهل البلاد كانوا يتمتعون بالكثير من أصناف الطعام؛ ويلوح أن الآلهة كانوا في بادئ الأمر يفضلون لحم الآدميين فلما ارتقى أخلاق الناس لم يجدوا بدا من الاقتناع بلحم الحيوان.

وقد عثر في الخرائب السومرية على لوح نقشت عليه بعض الصلوات وجاءت فيها هذه النذر الدينية الغريبة: “إن الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان حياته”، وأثرى الكهنة من هذه القرابين حتى أصبحوا أكثر الطبقات مالاً وأعظمها قوة في المدن السومرية، وحتى كانوا هم الحكام المتصرفين في معظم الشئون، حتى ليصعب علينا أن نحكم إلى أي حد كان الباتيسى كاهنا- وإلى أي حد كان ملكاً”.

جشع الكهنة..

وعن جشع الكهنة: “فلما أسرف الكهنة في ابتزاز أموال الناس نهض أوروكاجينا كما نهض لوثر فيما بعد، وأخذ يندد بنهمهم وجشعهم، ويتهمهم بالرشوة في توزيع العدالة، وبأنهم يتخذون الضرائب وسيلة يبتزون بها من الزراع والصيادين ثمرة كدهم. وأفلح وقتا ما في تطهير المحاكم من هؤلاء الموظفين المرتشين الفاسدين، وسن قوانين لتنظيم الضرائب والرسوم التي تؤدى للمعابد، وحمى الضعفاء من ضروب الابتزاز، ووضع الشرائع التي تحول دون اغتصاب الأموال والأملاك. لكن العالم كان قد عمر حتى شاخ، وتأصلت فيه الأساليب القديمة التي غشاها الزمان بشيء من التبجيل والتقديس.

واستعاد الكهنة سلطانهم بعد موت أورو- كاجينا كما استعادوا سلطانهم في مصر بعد موت إخناتون؛ ذلك أن الناس لا يترددون في أن يؤدوا أغلى الأثمان لكي يعودوا إلى ما خطته لهم أساطيرهم؛ وكانت جذور الأساطير الدينية حتى في ذلك العهد السحيق قد أخذت تتأصل في العقول”.

الحياة الآخرة..

وافترض الكتاب أن السومريين آمنوا بالحياة الآخرة: “ومن حقنا أن نفترض أن السومريين كانوا يؤمنون بالحياة الآخرة، لأن الطعام والأدوات كانت تدفن مع الموتى في القبور، ولكنهم كانوا يصورون الدار الآخرة، كما صورها اليونان من بعدهم، عالماً مظلماً تسكنه الأطياف التعسة ويهوى إليه الموتى أياً كان شأنهم من غير تمييز بينهم.

ولم تكن فكرة الجنة والنار والنعيم الدائم والعذاب المخلد، قد استقرت بعد في عقولهم، ولم يكونوا يتقدمون بالصلاة والقربان طمعا في “الحياة الخالدة”، بل كانوا يتقدمون بهما طمعاً في النعم المادية الملموسة في الحياة الدنيا. وتصف إحدى الأساطير المتأخرة كيف علمت إي إلهة الحكمة أدابا حكيم إريدو جميع العلوم، ولم تخف عنه من أسرارها إلا سراً واحداً- هو سر الحياة الأبدية التي لا تنتهي بالموت. وتقول أسطورة أخرى أن الآلهة خلقت الإنسان منعما سعيدا، ولكنه أذنب وارتكب الخطايا بإرادته الحرة، فأرسل عليه طوفان عظيم عقاباً له على فعله، فأهلك الناس كافة ولم ينج منه إلا رجلاً واحد هو تجتوج الحائك، وأن تجتوج هذا خسر الحياة الخالدة والعافية لأنه أكل فاكهة شجرة محرمة”.

وعن المدارس الملحقة بالمعابد: “وكان الكهنة يعلمون الناس العلوم ويلقنونهم الأساطير، وما من شك في أنهم كانوا يتخذون من هذه الأساطير سبيلاً إلى تعليم الناس ما يريدونه هم، وإلى حكمهم والسيطرة عليهم. وكانت تلحق بمعظم الهياكل مدارس يعلم فيها الكهنة الأولاد والبنات الخط والحساب، ويغرسون في نفوسهم مبادئ الوطنية والصلاح، ويعدون بعضهم للمهنة العليا مهنة الكتابة. ولقد بقيت لنا من أيامهم الألواح المدرسية وعليها جداول للضرب والقسمة، والجذور التربيعية والتكعيبية، ومسائل في الهندسة التطبيقية. ويستدل من أحد الألواح المحتوية على خلاصة لتاريخ الإنسان الطبيعي على أن ما كان يتلقاه أطفال ذلك العهد من هذا العلم لم يكن أسخف كثيرا مما تلقاه أبناؤنا في هذه الأيام.

فقد جاء في هذا اللوح: “إن الإنسان في أول خلقه لم يكن يعرف شيئاً عن خبز يؤكل أو ثياب تلبس، فكان الناس يمشون منكبين على وجوههم، يقتلعون الأعشاب بأفواههم ليقتاتوا بها كما تقتات بها الأغنام، ويشربون الماء من حفر في الأرض”.

ومن أعظم الشواهد الناطقة بما بلغه من هذا الدين- وهو أول الأديان التي عرفها التاريخ- من نبل في التعبير والتفكير، ذلك الدعاء الذي يتضرع به الملك جوديا للإلهة “بو” راعية لكش ونصيرتها:

أي ملكتي، أيتها الأم التي شيدت لكش

إن الذين تلحظينهم بعينيك ينالون العزة والسلطان،

والعابد الذي تنظرين إليه تطول حياته؛

أنا ليس لي أُم- فأنت أمي،

وليس لي أب- فأنت أبي… ؛

أي إلهتي بو؟ إن عندك علم الخير،

وأنت التي وهبتني أنفاس الحياة،

وسأقيم في كنفك أعظّمك وأمجّدك،

واحتمي بحماك يا أُمّاه.

النساء والمعابد..

وعن النساء والمعابد: “كان يتصل بالهياكل عدد من النساء منهن خادمات، ومنهن سراري للآلهة أو لممثليهم الذين يقومون مقامهم على الأرض؛ ولم تكن الفتاة السومرية ترى شيئا من العار في أن تخدم الهياكل على هذا النحو، وكان أبوها يفخر بأن يهب جمالها ومفاتنها لتخفيف ما يعتري حياة الكاهن المقدسة من ملل وسآمة؛ وكان يحتفل بإدخال ابنته في هذه الخدمة المقدسة، ويقرّب القرابين في هذا الاحتفال، كما كان يقدم بائنة ابنته إلى المعبد الذي تدخله.

وكان الزواج قد أصبح وقتئذ نظاماً معقداً تحوطه شرائع كثيرة. فكانت البنت إذا تزوجت تحتفظ لنفسها بما يقدمه أبوها من بائنة؛ ومع أن زوجها كان يشترك معها في القيام بهذه البائنة، فقد كان لها وحدها أن تقرر من يرثها بعد وفاتها. وكان لها من الحقوق على أولادها ما لزوجها نفسه، وإذا غاب زوجها ولم يكن لها ابن كبير يقيم معها كانت تدير هي المزارع كما تدير البيت. وكان لها أن تشتغل بالأعمال التجارية مستقلة عن زوجها، وأن تحتفظ بعبيدها أو أن تطلق سراحهم. وكانت تسمو أحياناً إلى منزلة الملكة كما سمت شوب- آد وتحكم مدينتها حكماً رحيماً رغداً قوياً.

غير أن الرجل كان هو السيد المسيطر في الأزمات جميعها وكان من حقه في بعض الظروف أن يقتل زوجته أو يبيعها أمة وفاء لما عليه من الديون. وكان الحكم الأخلاقي على الرجل يختلف عن الحكم الأخلاقي على المرأة حتى في ذلك العهد السحيق، وكان ذلك نتيجة لازمة لاختلافهما في شئون الملكية والوراثة. فزني الرجل كان يعد من النزوات التي يمكن الصفح عنها، أما زني الزوجة فكان عقابه الإعدام، وكان ينتظر منها أن تلد لزوجها وللدولة كثيرا من الأبناء؛ فإذا كانت عاقرا جاز طلاقها لهذا السبب وحده، أما إذا كرهت أن تقوم بواجبات الأمومة، فكانت تقتل غرقاً. ولم يكن للأطفال شيء من الحقوق الشرعية، وكان للآباء إذا تبرءوا منهم علناً أن يحملوا ولاة الأمور على نفيهم من المدينة.

غير أن نساء الطبقات العليا كن يحيين حياة مترفة، وكان لهن من النعم ما كاد يعدل بؤس أخواتهن الفقيرات، شأنهن في هذا شأن النساء في جميع الحضارات. فالأدهان والأصباغ والجواهر من أظهر العاديات في المقابر السومرية وقد كشف الأستاذ ولي في قبر الملكة شوب- آد عن مدهنة صغيرة من دهنج أزرق مشرب بخضرة، وعلى دبابيس من ذهب رؤوسها من اللازورد، كما عثر أيضا على مثبنة عليها قشرة من الذهب المخرم. وقد وجد في هذه المثبنة التي لا يزيد حجمها على حجم الخنصر ملعقة صغيرة لعلها كانت تستخدم في أخذ الصبغة الحمراء من المدهنة. وكان فيها أيضا عصا معدنية يستعان بها على ملوسة الجلد، وملقط لعله كان يستعمل لتزجيج الحاجبين أو لنزع ما ليس مرغوبا فيه من الشعر. وكانت خواتم الملكة مصنوعة من أسلاك الذهب وكان أحدها مطعما بفصوص من اللازورد، وكان عقدها من الذهب المنقوش واللازورد. وما أصدق المثل القائل أنه لا جديد تحت شمس وأن الفرق بين المرأة الأولى والمرأة الأخيرة ليتسع له سم الخياط”.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب