خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن فن المسرح في الحضارة اليابانية القديمة، وكيف تتكون تلك المسرحيات ورد فعل الجمهور عليها. وذلك في الحلقة التاسعة والأربعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
المسرحية..
ينتقل الكتاب إلي الحكي عن مجال المسرح في الحضارة اليابانية القديمة: “وآخر ألوان الأدب، وأعسرها فهماً علينا، هي المسرحية اليابانية؛ فما دمنا قد نشأنا في جو من تقاليد المسرح الإنجليزي الذي يبدأ من رواية هنري الرابع وينتهي برواية “مارية اسكتلندة”، فكيف يمكن أن نعد آذاننا إعداداً يتقبل المسرحيات الغنائية اليابانية بما فيها من إطناب وحركات صامتة بالنسبة إلينا؟ إنه لابد لنا من نسيان شكسبير والعودة إلى “إفريمان”، بل والعودة إلى ما هو أبعد من ذلك في الماضي، إلى الأصول الدينية للمسرحية اليونانية والمسرحية الأوروبية الحديثة؛ عندئذ نجد ما يعيننا على متابعة تطور التمثيل الصامت الشنتوي القديم، والرقص الكهنوتي المسمى “كاجورا”، حتى أصبح هذه الصورة التمثيلية الناطقة بالحوار، التي تتألف منها المسرحية الغنائية عند اليابانيين.
ففي نحو القرن الرابع عشر أضاف الكهنة البوذيون أناشيد جوقية إلى التمثيل الطقوسي الصامت، ثم أضافوا إلى ذلك شخصيات فردية، ودبروا حبكة للمسرحية بحيث تفسح المجال أمام هذه الشخصيات فتفعل الأفعال كما تقول الكلام، ومن ثم ولدت المسرحية”.
ثلاثيات..
وعن تكوين تلك المسرحيات يشرح الكتاب: “كانت هذه المسرحيات، مثل المسرحيات اليونانية، تُؤدي في ثلاثيات وكانوا يمثلون في الفترات التي بين الفصول أحياناً، ما يطلقون عليه “كيوجن” أي المهازل أو التهريج قاصدين بذلك أن يخففوا ويلطفوا من حدة العاطفة والفكر؛ أما الجزء الأول الثلاثي المسرحي فقد كانوا يخصصونه لاسترضاء الآلهة، فكاد لا يزيد على تمثيل ديني صامت.
وأما الجزء الثاني فكان يؤدي بعدة مسرحية كاملة، ويبتغون به طرد الأرواح الشريرة بتخويفها؛ وأما الجزء الثالث فكان ألطف جواً، يراد به تصوير جانب رائع من جوانب الطبيعة، أو وجه ممتع من وجوه الحياة اليابانية؛ وكانت أسطر المسرحية تصاغ عادة في صورة الشعر المرسل، بحيث يتألف البيت الواحد من اثني عشر مقطعاً؛ وكان الممثلون ذوي منزلة اجتماعية حتى بين العلْية.
ما تزال بين أيدينا وثيقة تثبت أن “نوبونجا” و”هيديوشي” و”أيياسو” قد اشتركوا جميعاً كممثلين في إحدى المسرحيات الغنائية حول سنة 1850، وكان كل ممثل يلبس قناعاً منحوتاً من الخشب نحتاً فنياً دقيقاً يجعل هذه الأقنعة تحفة عند هواة الآثار الفنية في عصرنا هذا، وكانت مناظر المسرح قليلة، إذ كانوا يعتمدون على الخيال القوي عند النظارة في خلق البطانة التي يتم الفعل المسرحي في جوّها؛ وأما الحكايات التي تمثل فمن أبسط الحكايات تأليفاً، ولم يكن مجرى الرواية هو نقطة الاهتمام.
ومن أشيع تلك الروايات رواية تحكي عن “سياف” أصابه الفقر، طرق بابه راهب جوال أراد الدفء، فقطع له السياف أعز نباتاته ليوقد له بها ناراً؛ وعندئذ تبين أن الراهب لم يكن إلا الوصي على العرش، فأجزل العطاء للفارس، وكما أننا في الغرب لا نفتأ نختلف إلى المسرح مرة بعد مرة لنسمع مسرحية غنائية، روايتها قديمة، وربما كانت رواية سخيفة أيضاً، فكذلك ترى أهل اليابان حتى يومنا هذا يبكون كلما شهدوا هذه الرواية التي يتكرر تمثيلها بغير انقطاع ، ذلك لأن براعة التمثيل تعيد لهذه الرواية في كل مرة قوتها ومغزاها؛ ولو قصد إلى المسرح متفرج متعجل عملي المقاييس، فإنه قد يجد في أمثال هذه الأغاني التي صبت في قالب تمثيلي، تسلية أكثر مما يجد فيها عظمة تأخذ عليه نفسه”.
المسرحية الغنائية..
وعن المسرحية الغنائية يفصل الكتاب: “لكن اسمع ما يقوله فيها شاعر ياباني: “كم في المسرحية الغنائية من عناصر المأساة وعناصر الجمال، ولطالما طاف برأسي خاطر، هو أننا نؤدي خدمة جليلة لا شك فيها، إذا نحن أحسنّا تقديم مسرحيتنا الغنائية في الغرب، ولو فعلنا لنتج عن ذلك احتجاج شديد ضد المسرح الغربي، إن ذلك لو تم كان بمثابة الإيحاء باتجاه جديد” ومع ذلك فاليابان نفسها لم تنتج من هذا الضرب المسرحي شيئاً منذ القرن السابع عشر على الرغم من أنها تقوم بتمثيلها اليوم، وتقبل عليها إقبالاً شديداً”.
المسرح الشعبي..
وعن المسرح الشعبي يحكي الكتاب: “إن تاريخ المسرحية في معظم البلاد عبارة عن تحول تدريجي من سيادة الجوقة إلى سيادة دور يقوم به فرد من الأفراد وعند هذه النقطة تنتهي مراحل التطور في الكثرة الغالبة من الحالات التي يتم فيها هذا الانتقال، ولما تقدم الفن المسرحي في اليابان من حيث تقاليده وروعته، خلق شخصيات محببة إلى الناس صارت هي القوة السائدة في المسرحية، وأخيراً قل شأن التمثيل الصامت والموضوعات الدينية، وباتت المسرحية حرباً بين أفراد تملؤهم قوة الحياة وقوة الخيال، وهكذا ظهر المسرح الشعبي في اليابان الذي يطلق عليه “كابوكي شيباي”.
وأول مسرح من هذا القبيل الشعبي ظهر حول عام 1600، أنشأته راهبة ملت جدران الدير، فأقامت مسرحاً في أوساكا وجعلت ترتزق بالرقص على ذلك المسرح، وكان ظهور المرأة على المسرح كما هي الحال في إنجلترا وفرنسا بمثابة الثورة واقتراف إثم محرم، ولما كانت الطبقات العليا قد اجتنبت هذه المحرمات اللهم إلا في خفاء يؤمّنها من الخطر فقد أوشك الممثلون أن يصبحوا طبقة منبوذة، ليس لهم حافز اجتماعي يدفعهم إلى صيانة مهنتهم من الدعارة والفساد، واضطر الرجال أن يقوموا بأدوار النساء، وذهبوا في إتقان تقليد النساء إلى حد لم يستطيعوا عنده أن يخدعوا النظارة فحسب، بل خدعوا أنفسهم كذلك، حتى لقد ظل كثير من هؤلاء الرجال الذين كانوا يمثلون أدوار النساء، ظلوا نساء خارج المسرح.
وكان من عادة الممثلين أن يصبغوا وجوههم بألوان زاهية، وربما يرجع ذلك إلى خفوت الأضواء على المسرح؛ كذلك كانوا يلبسون أردية ذات رسوم فاخرة لكي يدلوا بها على عظمة أدوارهم، ثم لكي يرفعوا من قدر تلك الأدوار؛ وغالباً ما كان يجلس خلف المسرح أو حوله أفراد أو جوقات، تلقي الكلام المراد إلقاؤه، وكان هؤلاء أحياناً هم الذين ينطقون بالكلام بينما يقصر الممثلون أنفسهم على الحركات المناسبة صامتين؛ وأما النظارة فقد كانت تجلس على الأرضية المفروشة بالبُسُط، أو في مقصورات على الجانبين”.
“شيكاماتسو مُنْزايمون”..
ويضيف عن أحد مشاهير المسرح الياباني: “وأشهر الأسماء التي تصادفك في المسرحية الشعبية في اليابان هو “شيكاماتسو مُنْزايمون” (1653-1724) الذي يقرنه مواطنوه بشكسبير، وأما النقاد الإنجليز فتراهم يمقتون هذه المقارنة، فيتهمون “شيكاماتسو” بالعنف والإسراف والمبالغة في قوة اللفظ وبُعد حبكاته عن الواقع، إلا أنهم يعترفون له “بشيء من القوة والفخامة البدائيتين”.
والظاهر أن التشابه تام، فتلك المسرحيات الأجنبية بالنسبة لنا تبدو لنا مجرد مسرحيات غنائية، لأنه إما أن يكون معناها أو تكون دقائقها اللغوية خافية علينا، وقد يكون هذا نفسه هو وقع شكسبير على رجل لا يستطيع أن يقدر جمال لغته أو يتابعه في أفكاره، وربما كان “شيكاماتسو” قد غالى في جعل العشاق في مسرحياته ينتحرون على المسرح ليكون انتحارهم بمثابة الذروة التي تعلو إليها حوادث القصة، على نحو ما نرى في رواية “روميو وجوليت”، لكن قد يكون له في ذلك هذا العذر، وهو أن الانتحار في الحياة اليابانية أوشك أن يكون من الشيوع بمثل ما كان على المسرح”.
التمثيل الياباني..
ويكرر المؤلفان خطأهما المعتاد في عقد مقارنة مستمرة ما بين أية حضارة يؤرخون لها وما بين الحضارة الغربية: “إن المؤرخ الأجنبي عن البلاد، لا يسعه في هذه الأمور إلا أن يسجل، لا أن يصدر حكمه، فالتمثيل الياباني في عيني مُشاهد عابر، يبدو أقل في درجة الرقي والنضوج من التمثيل الأوربي، لكنه أكثر منه قوة ورفعاً لأفئدة المشاهدين؛ إن المسرحيات اليابانية قد تكون أكثر تمشياً في سذاجتها مع سواد الشعب، لكنها أقل تعرضاً لعوامل الضعف التي تنشأ عن الصيغة العقلية السطحية، من زميلاتها في فرنسا وإنجلترا وأمريكا اليوم؛ والعكس صحيح.
وهو أن الشعر الياباني يبدو لنا خفيفاً ميتاً، مبالغاً في رقته الأرستقراطية، نحن الذين تعودت أذواقنا المقطوعات الغنائية التي تكاد تبلغ في طولها طول الملاحم مثل قصيدة Maud، كما تعودت أذواقنا الملاحم التي يبلغ الملل من قراءتها حداً لا أشك معه في أن هومر نفسه إذا اضطر أن يقرأ الإلياذة مجتمعة لترنح رأسه من نعاس.
وأما القصة اليابانية فالظاهر أنها عاطفية تثير حب التطلع في نفس القارئ، ومع ذلك فيخيل إلينا أن آيتين من آيات القصة الإنجليزية هما قصة “توم جونز” وقصة “أوراق بِكْوِك” يقابلان تمام التقابل قصتي “جنجي مونوجاناري” و “هيزا كوريج” في الأدب الياباني؛ ويجوز أن تكون “السيدة موراساكي” أنبغ من “فيلدنج” العظيم نفسه في دقتها ورشاقتها وسعة فهمها؛ إن كل ما هو بعيد عن أنفسنا غامض علينا، يكون مملولاً سخيفاً بالنسبة لنا، وستظل الأشياء في اليابان غامضة علينا حتى نستطيع أن ننسى نسياناً تاماً تراثنا الغربي، لنشرب تراث اليابان تشرباً كاملاً”.