19 ديسمبر، 2024 1:01 م

قصة الحضارة (148): الزعامة في أدب المقالة اليابانية كانت لامرأة

قصة الحضارة (148): الزعامة في أدب المقالة اليابانية كانت لامرأة

خاص: قراءة- سماح عادل

استأنف الكتاب الحكي عن التأريخ والمقالة في الحضارة اليابانية القديمة، وكانت أول من كتب المقالة ببراعة امرأة، اهتمت بحياة الأغنياء. وذلك في الحلقة الثامنة والأربعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

التاريخ..

ينتقل الكتاب للحكي عن التاريخ في الحضارة اليابانية: “لن تجد في كتابة التاريخ عند اليابانيين ما يمتعك بمثل ما يمتعك في أدبهم القصصي، على الرغم من أنه يتعذر عليك أن تفرق عندهم بين التاريخ والقصة، وأقدم كتاب باق في الأدب الياباني هو “كوجيكي” ومعناها ثبت “بالآثار القديمة” وهو مكتوب بالأحرف الصينية بقلم “باسومارو” سنة 712، وفي هذا الكتاب كثيراً ما تحل الأساطير محل الحقائق، حتى ليحتاج القارئ أن يمعن في إخلاصه للعقيدة الشنتوية لكي يقبل هذه الأساطير على أنها تاريخ، ثم رأت الحكومة بعد “الإصلاح العظيم” في سنة 654 أن الحكمة تقتضي أن تروى قصة الماضي رواية جديدة.

فظهر تاريخ جديد حول سنة 720 عنوانه “ينهونجي” ومعناها “نيبون” وهو مكتوب باللغة الصينية، ويزدان بفقرات سرقها الكاتب سرقة جريئة من الأدب الصيني، وأحياناً أجراها على ألسنة أشخاص من اليابانيين القدماء، دون أن يأبه مطلقاً للترتيب الزمني للحوادث؛ ومع ذلك فقد جاء الكتاب محاولة أكثر جداً في روايته للحقائق من كتاب “كوجيكي”، وكان هو بمثابة الأساس للكثرة الغالبة مما كتب بعدئذ من كتب في التاريخ الياباني القديم، فمنذ ذلك الحين كتبت عدة كتب في تاريخ اليابان كل منها يبزّ سابقه في روحه الوطنية، وقد كتب “كيتاباتاكي” كتاباً أسماه “جنتوشوتوكي”  ومعناها تاريخ التسلسل الحقيقي للملوك الإلهيين  وضعه على أساس هذه العقيدة المتواضعة الآتية، التي أصبحت اليوم أمراً مألوفاً.

“إن ياماتو العظمى (أي اليابان) بلد إلهي، فالسلف الإلهي لم يضع أساساً لبلد من بلاد الأرض سوى بلدنا، وهو دون سائر البلاد قد لقي الرعاية من آلهة الشمس بحيث ولَّت على أموره سلسلة طويلة من أبنائها، ولن تجد لمثل هذا شبيهاً في البلاد الأخرى، ومن ثم سميت اليابان بالأرض الإلهية”.

التاريخ الأكبر لليابان..

وعن كتابة تاريخ قومي يضيف الكتاب: “وطبع هذا الكتاب أول ما طبع سنة 1649، فكان بداية للحركة التي قصدت إلى استعادة الإيمان القديم والدولة القديمة، وهما الجانبان اللذان بلغا أقصى حدودهما في المناقشات الحامية التي أقامها “موتو – موري” وشاءت الأيام أن يكون “متسو – كوني”  وهو حفيد “أيياسو” نفسه  هو الذي يتصدى لكتابة كتابه الذي أسماه “داي نيهونشي” ومعناها “التاريخ الأكبر لليابان” 1851 فأخرج به صورة من مائتين وأربعين جزءاً صور بها الماضي الذي ساد فيه الأباطرة وساد النظام الإقطاعي، فكان هذا الكتاب بعدئذ من العوامل التي هيأت اليابانيين لخلع حكومة توكوجاوا العسكرية من مراكز السلطان”.

“آراي هاكوسيكي”..

وعن مؤرخ هام يواصل الكتاب: “وقد يكون “آراي هاكوسيكي” أعلم المؤرخين اليابانيين وأبعدهم عن الميل إلى الهوى، فعلمه هو الذي ساد الحياة العقلية في “بيدو” في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وقد سخر “آراي” من اللاهوت الذي كان يأخذ به مبشرو المسيحية الأرثوذكسية، ووصفه بأنه “ممعن في صبيانيته”، لكن جرأته قد حدت به كذلك أن يهزأ ببعض الأساطير التي ظنها أهل وطنه تاريخاً، وكتابه العظيم “هانكامبو”  وهو تاريخ “لدايمو” يتألف من ثلاثين جزءاً  يعد من أعاجيب الروائع الأدبية.

لأنه  فيما يظهر قد تم تأليفه في أشهر قلائل، على الرغم مما لابد أن يكون قد اقتضاه من كثرة البحث، وقد استمد آري بعض علمه وطائفة من أحكامه من دراسته للفلاسفة الصينيين، ويقال إنه لما جعل يحاضر في الآداب الكونفوشيوسية، كان الحاكم العسكري “أينوبو” يستمع إليه في إقبال وإجلال حتى لم يكن ليذب البعوض عن رأسه في الصيف، وكان في الشتاء ينحو بوجهه جانباً إذا أراد أن يمسح الرشح عن أنفه احتراماً للمحاضر، وكتب “آراي” ترجمة لحياته فصور أباه تصويراً جليلاً رسم به المواطن الياباني في خير صورة له وأبسطها:

“إنني أعود بذاكرتي إلى أول لحظة بدأت عندها أتعمق الأمور إلى صميمها، فأجد حياته الرتيبة اليومية لم تكن تختلف في يوم عنها في يوم آخر؛ فما كان يفوته قط أن يستيقظ قبل شروق الشمس بساعة، ثم يستحم بماء بارد، ويصفف شعره بنفسه؛ وإذا اشتد برد الشتاء تعرض عليه امرأته وهي أمي أن تعد له ماء ساخناً، لكنه لم يكن يرضى بذلك، لأنه لم يكن يريد أن يتعب الخدم؛ فلما زاد عمره على السبعين، وتقدمت أمي كذلك في سنها؛ وكان البرد يشتد إلى درجة لا يحتملانها، كانا يستحضران في غرفتهما موقداً وينامان وأقدامهما ممدة تجاهه؛ وكان يوضع إبريق من الماء الساخن إلى جانب المدفأة، فيشرب منه أبي عند استيقاظه.

وكلاهما كان يقدس بوذا، فكان أبي لا يفوته قط  بعد أن يصفف شعره ويسوي ثيابه أن يبدي علائم خشوعه لبوذا. وبعد أن يرتدي رداءه، كان يجلس هادئاً في انتظار تباشير الصباح، وعندئذ يخرج إلى عمله الرسمي. إن أحداً لم يره قط وعلامات الغضب على وجهه، ولست أذكر أبداً أني رأيته يوماً  حتى إن ضحك  يستسلم للمرح الصاخب؛ وأقل من ذلك حدوثاً أن تراه يسفل إلى الألفاظ الجارحة إذا ما شاءت له الظروف أن يؤنب أحداً، وكان في سمره لا يتكلم ما أمكنه السكوت، كان رصيناً في سلوكه، فما رأيته قط جازعاً أو مضطرباً أو قلقاً.

يحافظ على نظافة الغرفة التي كان يشغلها عادة، ويعلق على الجدار صورة قديمة، ويضع في أصيص بعض زهرات من زهور الموسم، وقد ينفق يومه ناظراً إليها؛ كان قليل الرسم للصور يرسمها باللون الأسود على ورق أبيض، لأنه لم يكن محباً للألوان الزاهية، وإذا جادت صحته لم يطلب إلى الخادم أن يعينه في شيء قط، لأنه كان يعد كل شيء لنفسه بنفسه””.

المقالة..

وعن كتابة المقالات يحكي الكتاب: “كان “آرامي” كاتباً للمقالة كما كان مؤرخاً، وله نتاج عظيم في هذا اللون من الأدب (أدب المقالة) الذي ربما كان أمتع ضروب الأدب الياباني جميعاً؛ على أن الزعامة في أدب المقالة كما هي الحال في القصة كانت لامرأة؛ فكتاب “صُوَر على الوسادة” “ماكورازوشي” الذي كتبته “السيدة سي شوناجون” يوضع عادة في أعلى مراتب هذا الأدب، كما أنه أول ما كتب فيه؛ والسيدة الكاتبة قد نشأت في نفس البلاد ونفس الجيل اللذين نشأت فيهما “السيدة موراساكي”.

واختارت لقلمها الحياة المترفة الداعرة من حولها، فراحت تصف تلك الحياة في صور عابرة، يستحيل علينا أن نلم بروعتها في لغتها الأصلية إلا على سبيل التخمين، مهتدين بما نراه باقياً في الترجمة الإنجليزية لتلك الصور من آثار جمالها الفاتن؛ والكاتبة من طائفة “فيوجيورا”، وصعدت حتى أصبحت وصيفة الإمبراطورة؛ فلما قضت الإمبراطورة نحبها، توارت “السيدة سي”: فمن قائل إنها أوت إلى دير، ومن قائل إنها انطوت في ثنايا الفقر؛ لكن كتابها ليس فيه ما يدل على صدق هذا القول أو ذاك؛ وهي تنظر إلى الإباحية الخلقية في عصرها، بالعين المتساهلة التي عرف بها ذلك العصر، ثم هي لا تنزل رجال الدين الماديين منزلة عالية من نفسها:

“إن الواعظ الديني لابد أن يكون وسيم المحيا، إذ يسهل عليك عندئذ أن تحدج بعينيك في وجهه، وبغير ذلك يستحيل الانتفاع بحديثه، لأن عينيك ستحومان هنا وهناك، ويفوتك أن تصغي إلى قوله؛ وإذن فالواعظون الدميمون تقع عليهم تبعة كبرى. ولو كان رجال الوعظ يحيون في عصر أنسب لهم من عصرنا، لسرني أن أحكم عليهم حكماً أقرب إلى صالحهم من حكمي عليهم الآن؛ لكن الأمر كما أراه في الواقع، يدعوني إلى القول بأن خطاياهم أشنع فحشاً من أن تحتمل منا مجرد التفكير””.

ثم تضيف الكاتبة إلى ذلك قوائم صغيرة بما تحب وما تكره:

فالأشياء التي تبعث في نفسها النشوة:

أن أعود إلى البيت من رحلة وقد امتلأت العربات حتى فاضت؛  وأن يكون حول العربة عدد كبير من المشاة الذين يحفزون الثيرة  والعربات تسرع في السير؛  زورق نهري يسبح على الماء.  الأسنان زينت بالسواد على نحو جميل.

والأشياء التي تثير في نفسها الكراهية:

غرفة مات فيها طفل، مدفأة انطفأت نارها، حوزي يكرهه ثور عربته، ولادة سلسلة متصلة من البنات في بيت عالم.

ومن الأشياء الممقوتة:

الناس الذين إذا قصصت عليهم قصة قاطعوك بقولهم: إننا نعرفها، ثم يقولون القصة على صورة تختلف كل الاختلاف عما كنت تنوي أن تقوله. والرجل الذي تصادفه امرأة، ويكون بينهما ود، فيثني على امرأة أخرى يعرفها. والضيف الذي يقص عليك قصة طويلة وأنت عجلان.  شخير رجل تحب أن تخفيه، والرجل ينام في مكان لا شأن له به.  البراغيث”.

“كامونو- شومي”..

وعن كاتب مقالة آخر يواصل الكتاب: “وليس ينافس هذه السيدة في مكان الصدارة من أدب المقالة في اليابان، إلا “كامونو- شومي”؛ الذي حُرِمَ خلافة أبيه في حراسة الضريح الشنتوي “لكامو” في مدينة كيوتو، فاعتنق البوذية حتى أصبح راهباً من رهبانها؛ ولما بلغ من عمره عامه الخمسين، اعتكف في حديقة في الجبل، حيث انصرف إلى حياة التأمل، وهناك كتب كتاباً يودع به الحياة الصاخبة، وأسمى كتابه “هوجوكي” (1212) ومعناها “مدوَّن الأقدام العشر المربعة” فبعد أن بين الصعاب والمضايقات التي يلاقيها الإنسان في حياة المدنية، ووصف مجاعة سنة 1181 أخذ يروي لنا كيف أقام لنفسه كوخاً مساحته عشرة أقدام مربعة وارتفاعه سبع أقدام، واستقر فيه راضي النفس بفلسفة لا يعكر هدوءها شيء وزمالة هادئة لما يحيط به من كائنات الطبيعة.

ولا يسع الأمريكي الذي يقرؤه إلا أن يسمع فيه صوتاً شبيهاً بصوت “ثورو” وإن يكن صادراً من اليابان في القرن الثالث عشر؛ فالظاهر أن كل جيل لابد له من كاتب يدعو إلى معاشرة الطبيعة بمثل كتاب “بِركة وولدِنْ””.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة