خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن الفكر والأدب في الحضارة اليابانية القديمة وعن الكتابة والتعليم وكيف كانا ترفا لا ينالهما إلا الأغنياء، وعن الشعر الياباني وعذوبته. وذلك في الحلقة الثانية والأربعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الشعر والطبيعة..
يواصل الكتاب الحكي عن الشعر في الحضارة اليابانية القديمة: “لقد أجاد “تسورايوكي” التعبير عن الموضوع الذي لم يفتأ الشعر الياباني يتناوله وهو ما تبديه الطبيعة من أوجه وحالات، ومن ازدهار وذبول الطبيعةُ في تلك الجزر، التي جعلتها البراكين مشهداً للروائع، وجعلها المطر الغزير دائمة الإيناع، وإن الشعراء في اليابان ليمرحون فيما لم تلكه الألسن من جوانب الحقول والغابات والبحر، فصغار السمك تنثر الرذاذ وهي تتقلب في مجاري الجبال، والضفادع تقفز فجأة من البرك الساخنة، والشطآن تخلو من المد والجزر، والتلال تقطعها كِسَف الضباب الذي سكن بلا حراك، وقطرة المطر تأوي كأنها الجواهر المكنونة في ثنية نجم من أنجم الكلأ.
وكثيراً ما يمزج شعراء اليابان في شعرهم بين أغاني الحب وأشعار عبادتهم للطبيعة النامية، أو تراهم يرثون رثاء مراً لما يرونه في الازدهار والحب والحياة من قصر الأمد، والعجيب أن هذه الأمة التي تموج بالمقاتلين، قلما تتغنى في شعرها بالقتال، بل تراهم لا يثنون الحماسة في القلوب إلا بترانيم يترنمون بها، حيناً بعد حين، وكانت الكثرة الغالبة من القصائد قصيرة بعد عهد “نارا.”
فهذه مجموعة “كوكنشو” التي تحتوي ألفاً ومائة قصيدة، لا تجد إلا خمساً منها فقط صيغت في صورة الـ “تانكا”، وهي صورة تكون فيها القصيدة مؤلفة من خمسة أبيات، أولها من خمسة مقاطع وثانيها من سبعة، وثالثها من خمسة، ورابعها من سبعة، وخامسها من سبعة، كذلك وليس في هذه القصائد قافية، ذلك لأن ألفاظ اللغة اليابانية كلها تقريباً تنتهي بحرف مد، فلا تترك مجال الاختيار أمام الشاعر من الاتساع بحيث ينتفي مختلف القواف، وكذلك ليس في شعرهم تفعيلات ولا نغم ولا مقدار معين من الكلمات في البيت الواحد.
لكنك تجد فيه كثيراً من ألاعيب اللغة، فتراهم مثلاً يضيفون مقاطع في أوائل الكلمات لا يكون لها معنى سوى ما تضيفه إلى الكلام من تنغيم، ويستهلون قصائدهم بأبيات تعمل على تكملة الصورة أكثر مما تؤدي إلى تمام الفكرة، ويربطون العبارات بألفاظ تحمل معنيين على نحو يثير في القارئ الدهشة والانتباه، ولقد خلع الزمن ثوباً من الجلال على أمثال هذه الألاعيب اللفظية عند اليابانيين، كما هي الحال في توافق اللفظ والمعنى وفي القافية عند الإنجليز، وأشعارهم محببة لدى طبقات الشعب.
الارستقراطية..
ويفصل في وصف الشعر الياباني: “ومع ذلك فلا يؤدي ذلك بالشاعر إلى السوقية في شعره، بل الأمر على نقيض ذلك، إذ تميل هذه القصائد الكلاسيكية إلى الأرستقراطية في فكرها ولفظها، فلأنها ولدت في جو تشيع فيه أبهة القصور، تراها مصوغة صياغة روعي فيها الإحكام على نحو يكاد يجعل منها تعبيراً عن الأنفة والكبرياء، وهذه القصائد تنشد كمال اللفظ والصياغة أكثر مما تبحث عن جدة المعنى، وهي تكسب العاطفة أكثر مما تعبر عنها، وهي في كبريائها أرفع من أن تطنب القول وتطيل، فلن تجد أرباب القلم في أي بلد من بلاد الأرض سوى اليابان، لهم ما لأدباء اليابان من تحفظ في القول يعترفون به اعترافاً صريحاً، فكأنما أراد شعراء اليابان أن يكفروا بتواضعهم في القول عما زل فيه مؤرخوها من تهويل في الفخر بأنفسهم.
فيقول اليابانيون إنك إذا كتبت ثلاث صفحات عن الرياح الغربية، زللت في ثرثرة السوقة، فالفنان الأصيل لا ينبغي له أن يفكر للقارئ، بل واجبه أن يغريه حتى يستثير فيه نشاط التفكير لنفسه، فلا بد للفنان أن يبحث وأن يجد صورة حسية جديدة تثير في القارئ كل الأفكار وكل المشاعر التي يصر الشعر الغربي على بسطها في تفصيلاتها؛ فكل قصيدة عند الياباني لا بد أن تكون سجلاً هادئاً لوحي اللحظة التي كتبت فيها.”
تخليد ..
وعن كتابة الشعر بغاية التخليد يضيف الكتاب: “وعلى ذلك فإننا نضل سواء السبيل لو أننا بحثنا في هذه الدواوين، أو في مجموعة المختارات التي تسمى “هيا كونن إشيو”، ومعناها “أشعار متفرقة لمائة شاعر”، والتي هي شبيهة بالديوان الذي يجمع مختارات من الشعر الإنجليزي ويطلق عليه “الكنز الذهبي”، أقول إننا نضل سواء السبيل لو أننا بحثنا في هذه المجموعات عن قصيدة فيها حماسة أو عن ملحمة فيها حروب، أو عن مطولات غنائية، فهؤلاء الشعراء إنما أرادوا أن يخلدوا أنفسهم بسطر واحد يقوله الواحد منهم.
فهاهو ذا “سايجيوهوشي” قد فقد أعز أصدقائه، وانقلب راهباً ووجد في أضرحة “إيسي” ما كانت تنشده نفسه المتصوفة من عزاء، فراح يقرض الشعر في عزيزه الفقيد، لكنه لم يكتب قصيدة مثل “أدونيس” أو حتى “ليسيداس” وهما قصيدتان من الشعر الإنجليزي بل اكتفى بهذه الأسطر البسيطة:
ما هذا الذي
يسكن هاهنا
لست أدري
لكن قلبي مليء بنشوة الرضى
والدموع تنهمر من عيني
لما فقدت “السيدة كاجا نوشيو” زوجها لم تكتب فيه سوى هذه السطور:
إن كل ما يبدو من أشياء
ليست سوى
حلم يطوف بحالم
إني لأنام…. وإني لأستيقظ….
فما أفسح السرير بغير زوج في جواري
وبعدئذ فقدت ابنها، فأضافت إلى القصيدة بيتين آخرين:
كم طاف اليوم
هذا الباسل الذي يقتنص اليعاسيب.
لعبة أرستقراطية..
وعن تطور أهمية دور الشعر: “وبات نظم المقطوعات الشعرية (ويسمونها تانكات) لعبة أرستقراطية شاعت في الدوائر الإمبراطورية في “نارا” و “كيوتو” حتى ليستطيع الناظم أن يشتري عفة المرأة بواحد وثلاثين مقطعاً من الشعر يجيد صياغتها، كما كانت عفة المرأة تباع في الهند القديمة بفيل؛ وكان من المألوف أن يحيي الإمبراطور ضيوفه بكلمات يعطيها لهم مما يصلح لصياغة الشعر، ونرى في أدب ذلك العصر إشارات ترد هنا وهناك، تدل على أن جماعة من الناس يتطارحون الشعر أو ينشدونه وهم سائرون في الطريق.
وكان الإمبراطور في أوج العصر الهيوي ينظم مباريات في الشعر يشترك فيها ما يقرب من ألف وخمسمائة شاعر يتنافسون أمام محكمين من العلماء، ليحكموا أيهم أفحل في صياغة الموجزات الشعرية، بل أنشئ في سنة 951 مكتب خاص للشعر، يشرف على تنظيم هذه المباريات، والقصائد الرابحة في كل مباراة تحفظ في دار المحفوظات.
وجاء القرن السادس عشر، فأحس الشعر الياباني عندئذ أنه يسرف في طول القصائد، وصمم على تقصير “التانْكاتْ” وكانت “التانكا” في الأصل تكملة يضيفها شخص إلى قصيدة بدأها شخص آخر، فأصبحت بعد التقصير ما يسمونه “هوكو”، أي “العبارة الواحدة” تتألف من ثلاثة أسطر تتكون أولها من خمسة مقاطع، وثانيها من سبعة، وثالثها من خمسة، أي أن مجموعة المقاطع تكون سبعة عشر مقطعاً.
الهوكو..
وعن نوع معين من الشعر: “وكان نظم القصائد من نوع “الهوكو” هو البدْع الشائع في عصر “جنروكو” (1688-1704)، ثم بات البدْع عندهم شغفاً بلغ حد الهوس، ذلك لأن الشعب الياباني شبيه بالشعب الأمريكي في شدة حساسيته العاطفية العقلية التي تسبب سرعة التقلب في الأنماط الفكرية، وكنت ترى الرجال والنساء، والتجار والجند، والصناع والفلاحين، يهملون شؤون الحياة اليومية ليشتغلوا بصياغة شعرية موجزة من نوع “الهوكو” يصوغونها في لحظة حين يُطلب إليهم ذلك.
ولما كان اليابانيون مولعين بالمقامرة فقد راحوا يراهنون بمبالغ جسيمة من المال في مباريات تقام لنظم قصائد “الهوكو” حتى لقد خَصَّصَ بعض المغامرين في ميدان الأعمال أنفسهم لإقامة أمثال هذه المباريات يجعلونها مرتزقاً لهم، فكانوا يحشدون كل يوم آلاف الناس المعجبين بهذا الضرب من التنافس، ولذلك اضطرت الحكومة آخر الأمر أن تقاوم هذه الحلبات الشعرية، وأن تمنع هذا الفن المأجور الجديد.
وأنبغ من أجاد الشعر من نوع الهوكو هو “ماتسوراباشو” الذي كان مولده في رأي يوني نوجشي “أعظم حادثة في تاريخ اليابان”، وكان “باشو” هذا سيافاً ناشئاً، مات مولاه وأستاذه، فكان لموته أعمق الأثر في نفسه بحيث اعتزل حياة القصر، وزهد في لذائذ الجسد جميعاً، وراح يضرب في فجاج الأرض على غير هدى، متفكراً، معلماً، وعبر عن فلسفته الهادئة في نتف من شعر الطبيعة الذي ينزل من ذوَاقة الأدب في اليابان منزلة رفيعة، لأنه يضرب أروع الأمثلة للكلام كيف يوحي بالمعاني رغم إيجازه الشديد، ومن قوله:
البركة القديمة
وصوت الضفدعة وهي تثب في الماء
ومن قوله أيضاً:
ساق من حشيش حَطَّ عليه
اليعسوب محاولاً أن يضيئه.