خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن تأثر المفكرين والفلاسفة في الحضارة اليابانية القديمة بافلسفة الصينية القديمة وخاصة فكر “كونفشيوس”، ثم الاعتزاز بالأساطير اليابانية. وذلك في الحلقة الثانية والأربعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
المدرسة الكلاسيكية للفكر الياباني..
ينتقل الكتاب إلي الحكي عن البحث العلمي: “ولما تقدم البحث العلمي في اليابان، بحيث صار في مقدور العلماء أن يتصلوا بكونفوشيوس في أصوله إلا في شروح الشارحين استطاع رجال من أمثال “إيتو جنسي” و “أوجيوسوراي” أن يؤسسوا المدرسة الكلاسيكية للفكر الياباني، التي أصرّت على أن تتخطى الشارحين جميعاً، فتصل بـ “ك أونج” العظيم اتصالاً مباشراً، ولم تكن أسرة “إيتو جنسي” لتتفق معه في تقديره لكونفوشيوس ووصمته بأنه يسبح من دراساته في عالم نظري مجرد، وتنبأت له بأنه سيموت فقيراً وأنبأته:
“بأن البحث العلمي من خصائص أهل الصين، أما في اليابان فليس البحث العلمي بذي غناء، لأنك حتى إن برعت فيه، فلن تجد من تبيع له بضاعتك، وخير لك ألف مرة أن تكون طبيباً وتكسب المال” لكن الطالب الناشئ أصغى إلى قول أسرته دون أن يستمع له، ونسي منزلة أسرته وثراءها، وطرح كل طموح مادي جانباً، وتنازل عن بيته وأملاكه إلى أخيه الأصغر، والتمس مكاناً معزولاً يعيش فيه ليتابع دراساته بغير اضطراب، وكان وسيماً حتى لقد ظنه الناس أحياناً أميراً، لكنه ارتدى ثوب فلاح وتوارى عن أعين الناس.
“أيتو جنسي”..
وعن فيلسوف هام يحكي الكتاب: “يقول مؤرخ ياباني:
إن “جنسي” كان فقيراً معدماً، بلغ من الفقر حداً أعجزه في نهاية العام أن يصنع كعك الأرز الذي يصنعه الناس في بداية العام الجديد؛ لكنه كان ثابت الجنان إزاء فقره هذا؛ ولقد جاءته زوجته وجثت تحت ركبتيها أمامه وقالت: “سأودي واجبات الدار مهما تكن الظروف، لكن ثمة شيئاً لا يحتمل، ذلك أن ولدنا “جنسو” لا يفهم معنى ما نحن فيه من فقر، وهو يغبط أبناء الجار على ما يأكلونه من كعك الأرز، وإنني أؤنبه على ذلك، لكن قلبي ينفطر له حتى ليكاد ينشق نصفين “لكن جنسي مضى منكباً على كتبه دون أن يجيبها بكلمة، ثم خلع خاتمه العقيق وناولها إياه، كأنما يقول لها: بيعي هذا واشتري بضعة كعكات من الأرز”.
أنشأ “جنسي” في كيوتو مدرسة خاصة، وأخذ يحاضر هناك مدى أربعين عاماً، وأهم ما قام به أنه درب عدداً يقرب من ثلاثة آلاف طالب في الفلسفة وكان يتحدث آناً بعد آن في الميتافيزيقيا، ويصف الكون بأنه كائن عضوي حي، تتغلب فيه الحياة على الموت دائماً، لكنه كان مثل كونفوشيوس يتحيز تحيزاً شديداً لما هو نافع على هذه الأرض.
“إن ما لا ينفع في حكم الدولة، أو في تيسير العلاقات بين أفراد الإنسان، لا غناء فيه. لابد للتعلم أن يكون مصحوباً بالفاعلية والحياة؛ ولا ينبغي أن يقتصر على مجرد النظريات الميتة أو التأمل. إن من يعرف الطريق يلتمسها في حياته اليومية. إنك إذا حاولت أن تلتمس الطريق بعيداً عن العلاقات الإنسانية، فأنت بمثابة من يحاول أن يمسك الريح. إن الطريق المألوفة ممتازة بحسنها، ولن نجد في العالم ما يفوقها حسناً”.
“إيتو توجاي”..
ويواصل الكتاب عن ابنه: “وبعد موت “جنسي” مضى ولده “إيتو توجاي” في مواصلة مدرسته وعمله؛ وكان “توجاي” يهزأ بالشهرة ويقول: “هل يسعك أن تسمي من يُنسى اسمه بمجرد موته إلا بأحد اسمين، فإما حيوان وإما رماد؟ ولكن ألا يخطئ الإنسان إذا ما اشتدت رغبته في تأليف الكتب وإنشاء العبارات لكي يلقى اسمه إعجاباً ولا ينساه الناس؟” وهو نفسه كتب مائتين واثنين وأربعين كتاباً، ومع ذلك عاش حياة متواضعة تملؤها الحكمة؛ ويشكو النقاد من أن هذه الكتب كانت كلها قوية فيما أسماه “موليير” بالفضائل التي تجلب النعاس ولكن تلاميذ “توجاي” يقولون إنه كتب مائتين واثنين وأربعين كتاباً دون أن يقول كلمة واحدة عن أي فيلسوف آخر، ولما مات وضعوا على قبره هذا “الشاهد” الذي نغبطه عليه:
إنه لم يتحدث في أخطاء الآخرين.
ولم يهتم بشيء إلا بالكتب
وكانت حياته خلواً من الحوادث.
“أوجيوسوراي”..
ويضيف الكتاب عن فيلسوف عظيم: “على أن أعظم رجل من أتباع كونفوشيوس المتأخرين، هو “أوجيوسوراي” فعلى حد قوله هو “منذ عهد جمو أول أباطرة اليابان لم يظهر من يوازيني إلا نفر قليل” وهو على نقيض “توجاي” في أنه كان يحب النقاش، وكان يعبر عن رأيه بقوة عن الفلاسفة الأحياء منهم والأموات؛ فلما سأله سائل شاب: “ماذا تحب غير القراءة؟” أجاب “ليس أحبِّ إليّ من أكل الفول المحروق ونقد عظماء اليابان” ويقول “ناميكاوا تنجين”: “إن سوراي رجل جد عظيم، لكنه يظن أنه يعلم كل ما يمكن علمه، وهذه عادة سيئة”، وكان في مستطاع “أوجيو” أن يكون متواضعاً إذا ما أراد ذلك، ومن رأيه أن اليابانيين جميعاً ويذكر نفسه بينهم صراحة قوم همج، وليس يعرف المدنية غير أهل الصين، وأنه “إذا كان هناك شيء لا بد من قوله، فقد قاله بالفعل الملوك القدامى أو كونفوشيوس”.
وثارت في وجهه فئة “السيافين” وفئة العلماء، لكن الحاكم العسكري المصلح “يوشيموني” أعجبته فيه شجاعته ودافع عنه ضد السوقة العقلية، وقد أقام “سوراي” منبره في “ييدو” وراح يضحك ويسخر من “جنسي” الذي كان قد أعلن أن الإنسان خير بطبعه، وقال: “سوراي” إن الإنسان على نقيض ما ظنه “جنسي” شرير بطبعه، يختطف كل ما تقع عليه يداه، ولا يجعل منه مواطناً مقبولاً إلا الأخلاق والقوانين الموضوعتين، والتربية التي لا تلين في معاملته:
“تثور في الإنسان شهواته بمجرد ولادته، فإذا عجزنا عن تحقيق تلك الشهوات في أنفسنا، وهي شهوات لا حد لها ينشأ النزاع، فإذا ما نشأ نزاع أعقبته الفوضى، ولما كان الملوك القدامى يكرهون الفوضى، فقد وضعوا أسس اللياقة والاستقامة في السلوك، واستطاعوا بهما أن يلجموا شهوات الناس. فليست الأخلاق سوى الوسائل الضرورية لضبط رعايا الإمبراطورية فهي لم تنشأ مع الفطرة ولا مع نزوات القلب الإنساني، لكنها من تدبير طائفة معينة من الحكماء امتازت بذكائها، ثم خلعت عليها الدولة مسحة السلطان”.
هبوط الفكر الياباني..
وعن انحدار الفكر الياباني يتابع الكتاب: “وكأنما أرادت الأيام أن تثبت تشاؤم “سوراي”، فهبط الفكر الياباني في القرن الذي تلاه، هبط حتى عن الحد المتواضع الذي كان قد ارتفع إليه بفضل محاكاته لكونفوشيوس، وضاع في حرب أراقت المداد بين وثنيي الصين ومؤمني اليابان، وفي هذه الحرب التي شنها الأقدمون على المحدثين، كتب النصر للمحدثين، لأنهم جعلوا الأسلاف موضع إعجابهم، فتفوقوا في ذلك على أعدائهم وكانت الطائفة التي تناصر الصين من العلماء “واسمها كانجا كوشا” تسمى بلادهم اليابان وهي وطنها قطراً همجياً، واحتجت بأن الحكمة كل الحكمة مقرها في الصين، وقنعت بترجمة الأدب والفلسفة الصينيين والتعليق عليهما.
أما العلماء الذين يناصرون اليابان، واسم جماعتهم واجا كوشا، فقد هاجموا هذا الموقف من معارضيهم لأنه موقف يؤدي إلى إشاعة الجهل ونبذ الروح الوطنية، ودعوا أمتهم أن تستدبر الصين، وأن تجدد قواها بالأخذ عن تراثها هي من شعر وتاريخ، وهاجم “مايوشي” أهل الصين قائلاً إنهم قوم أشرار بفطرتهم، ومجد اليابانيين لأنهم خيرون بطبعهم، وعزا فقر اليابان القديمة في الأدب والفلسفة إلى أن اليابانيين لم يكونوا بحاجة إلى إرشاد في الفضيلة ولا في العقل .”
أساطير اليابان..
وعن أساطير اليابان القديمة وتدوينها: “وحدث لطبيب شاب اسمه “موتو أوري نوريناجا” أن زار “مايوشي” فتأثر به إلى حد جعله ينفق أربعة وثلاثين عاماً في كتابة أربعة وأربعين مجلداً، يشرح فيها الـ “جوجيكي” ومعناها “مدونات الحوادث القديمة”، وهي المستودع الأصيل لأساطير اليابان، وخصوصاً أساطير “شنتو”، فجاء هذا الشرح وعنوانه “كوجيكي دن”، هجمة عنيفة على كل ما هو صيني في اليابان أو خارج اليابان، واستمسك استمساكاً شديداً بالصحة الحرفية لما ترويه القصص البدائية عن الأصل الإلهي الذي نشأت عنه الجزر اليابانية، والأباطرة والشعب.
وشجع هذا الكتاب طبقة المثقفين في اليابان، رغم أنف الأوصياء على العرش عندئذ من أفراد أسرة توكو جاوا، شجعهم على الرجوع إلى لغة بلادهم وطرائق العيش فيها وتقاليدها، ومعنى ذلك كله أن يعيدوا عقيدة “شنتو” بدلاً من البوذية، وأن يردوا للأباطرة سيادتهم على طبقة الحكام العسكريين، فقد كتب “موتو أوري” يقول: “كانت اليابان هي التي ولدت إلهة الشمس “أماتيراسو”، وتدل هذه الحقيقة على سيادتها على سائر الأقطار جميعاً”، واستأنف تلميذه “هيراتا”، بعد موت موتو أوري، سبيل الحاجة في الموضوع فقال:
“إنه لمما يدعو إلى الأسف الشديد، أن يسود كل هذا الجهل بالشواهد التي تدل على المذهبين الأساسيين، وهما أن اليابان بلد الآلهة، وأهلها سلالة الآلهة فبين الشعب الياباني وبين الصينيين والهنود والروس والهولنديين والساميين والكمبوديين وسائر أمم العالم، خلاف في النوع، ولا يقتصر الأمر على اختلاف في الدرجة، فلم يكن مجرد الغرور بالنفس هو الذي جعل أهل هذه البلاد يسمونها أرض الآلهة؛ فالآلهة الذين خلقوا كل بلاد الدنيا ينتمون جميعاً بغير استثناء إلى العصر الإلهي، وجميعهم ولدوا في اليابان.
فاليابان هي موطنهم الأول، والعالم كله يعترف بصدق هذا النبأ، فالكوريون هم أول من أتيح له أن يعرف هذه الحقيقة ثم انتشرت منهم تدريجياً حتى عمَّت المعمورة بأسرها، وآمن بها الناس أجمعون. فلئن كانت البلاد الأخرى قد نشأت طبعاً بفعل قوة الآلهة الخالقة، إلا أنها لم تكن وليدة “إيزاناجي” و”إيزانامي”، ولا كانت المنشأ الذي ولدت فيه إلهة الشمس، وهذا هو علة انحطاطهم عنا”.
حركة “سونوجواي”..
ويتابع الكتاب: “هؤلاء هم الناس، وتلك هي الآراء، التي كونت حركة “سونوجواي” ومرماها أن “تسمو بالإمبراطور، وأن تطرد الأجانب الهمج”؛ فمكنت هذه الحركة إبان القرن التاسع عشر للشعر الياباني أن يطيح بسلطة الحكام العسكريين؛ وأن يعيد السلطان والسيادة “للبيت الإلهي”، ثم أخذت هذا الحركة تلعب دوراً نشيطاً في القرن العشرين، إذ أخذت تغذي تلك الوطنية المستقلة التي لن تطمئن وترضى إلا إذا بسط “ابن السماء سلطانه على ملايين الناس في بلاد الشرق التي تعود، إلى بعثها، متكاثرة بخصوبة نسلها”.