خاص: قراءة- سماح عادل
يستأنف الكتاب الحكي عن الفلسفة والفكر في الحضارة اليابانية القديمة، وعن ميل تلك الفلسفة نحو تعظيم المعرفة والاعتراف بأهميتها، ونحو تقديس الطبيعة. وذلك في الحلقة الثالثة والأربعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
“كايبارا إكن”..
وعن فيلسوف محسوب علي الأدباء في الحضارة اليابانية يواصل الكتاب الحديث: “وأروع من يستوقف النظر من هؤلاء الكونفوشيوسيين اليابانيين القدامى رجل لا يسلكونه عادة في عداد الفلاسفة، لأن مثل “جيته” ومثل “إمرسن” كانت له القدرة على صياغة حكمته في عبارة رشيقة، فأحس الأدب غيرة عليه، وطالب به عضواً في جماعة الأدباء، وذلك هو “كايبارا إكِنْ” الذي كان ابن طبيب مثل أرسطو، ثم خرج عن دائرة الطب إلى فلسفة تجريبية تتصف بالدقة والحذر.
فعلى الرغم من مشاركته في الحياة العامة بسيرة مليئة بالعمل، بما في ذلك كثير من المناصب شغلها، فقد وجد من وقته فراغاً يستعين به على أن يكون أعظم علماء عصره؛ وبلغت كتبه عدداً يربى على المائة، فكتبت له الشهرة في أرجاء اليابان جميعاً؛ وذلك لأنه لم يكتب كتبه تلك باللغة الصينية كما كانت عادة زملائه الفلاسفة بل كتبها باليابانية السهلة التي يستطيع كل من عرف القراءة أن يفهمها.
وعلى الرغم من علمه وشهرته، فقد كان له إلى جانب الغرور الذي تراه عند كل كاتب تواضعٌ كالذي تراه عند كل حكيم، ويروي الرواة أن مسافراً على سفينة كانت تشق طريقها بحذاء الساحل الياباني، تعهد لزملائه في السفر أن يحاضرهم في الأخلاق الكونفوشيوسية؛ فأنصت له الجميع بادئ ذي بدء بما عرف عن اليابانيين من حب استطلاع وشغف بالزيادة من العلم؛ ولكن ما كاد يمضي المتكلم في حديثه قليلاً، حتى وجد السامعون أن كلامه يبعث الملل إذ لم يكن للرجل أنف حساسٌ يهديه إلى التمييز بين الحقيقة الحية والحقيقة الميتة، فانصرفوا عنه بعد وقت وجيز، ولم يبق منهم إلا سامع واحد، راح هذا السامع الواحد يتتبع البحث بتركيز عجيب في انتباهه، حتى سأله المحاضر حين فرغ من محاضرته، ما اسمه، فأجابه بصوت هادئ إن اسمه “كايبارا إكن”؛ فخجل الخطيب إذ علم أنه لبث ساعة أو يزيد، يحاول أن يلقن الكونفوشيوسية لرجل هو ألمع أعلام المذهب الكونفوشيوسي في عصره”.
خالية من اللاهوت..
ويكمل الكتاب عن فلسفته: “كانت فلسفة “إكن” خالية من اللاهوت خلو فلسفة “ك أونج” منه إذ حصر نفسه في حدود هذه الدنيا مادام لا سبيل إلى معرفة سواها؛” إن حمقى الناس يؤدون صلواتهم لآلهة مشكوك في وجودها، طلباً لسعادة أنفسهم في الوقت الذي تراهم فيه يقترفون الموبقات”؛ وحاول أن تكون فلسفته عاملاً على توحيد خبرة الحياة وحكمة العقل، وتوحيد الشهوات والخلق المستقيم، فقد كان من رأيه أن الأمر الأهم الذي يدعو قبل غيره إلى التفكير؛ هو كيف نجعل من الشخصية الإنسانية وحدة متكاملة، فذلك أجدى علينا من التفكير في كيفية توحيد المعرفة، وتراه يتحدث بلسان يدهشك أن تلمح فيه نغمة الزمن الذي نعيش فيه الآن.
“ليس الغرض من التعلم هو مجرد التوسع في المعرفة، بل الغرض هو تكوين الشخصية؛ غاية التعلم أن نخلق من أنفسنا رجالاً صادقين قبل أن نكون رجالاً عالمين…. إن دراسة الأخلاق التي كانت تُعَدُّ عماد التعليم في مدارس العهد القديم تكاد لا تجد مكاناً في مدارسنا اليوم، لكثرة ما يطلب إلى التلاميذ دراسته من مواد؛ لم يعد الناس يرون في صالحهم أن ينفقوا مجهودهم في الإصغاء إلى تعاليم الأعلين من رجال الحكمة القدماء، ونتج عن ذلك أن ضحينا على المذبح الذي يسمونه “حق الفرد” بعلاقات الود بين السيد وخادمه، والرئيس ومرؤوسيه، والكبير والصغير. السبب الحقيقي الذي حدا بالناس ألا يقدروا تعاليم الحكماء هو أن العلماء يحاولون أن يتظاهروا بعلمهم فذلك عندهم أولى من أن يعيشوا على غرار ما جاء في تعاليم الحكماء””.
حكمة للشباب..
ويتوجه للشباب بحكمته: “ويظهر أن شباب عصره قد توجه إليه باللوم على جموده، لأننا نراه يلقي في وجوههم درساً لا بد لكل جيل قوي من الناس أن يعود إلى دراسته:
“قد تظنون يا أبنائي أن كلمات رجل كهل تدعو إلى السأم، ومع ذلك فإذا ما لقنكم أبوكم درساً، فلا تزوروّا عنه، بل أصغوا إلى ما يقول؛ قد تظنون أن تقاليد أسرتكم أمر سخيف، ومع ذلك فلا تحطموها، لأنها تجسيد لحكمة آبائكم””.
رجعي مع النساء..
وعن موقفه من المرأة يحكي الكتاب: “ولعله كان يستحق اللوم على أهم كتبه وعنوانه “أونا ديكاكو” ومعناه “الحكمة العظمى للنساء” لأن هذا الكتاب كان له تأثير رجعي قوي على مركز المرأة في اليابان، لكنه لم يكن واعظاً متجهماً يحاول أن يتلمس الخطيئة في كل ما يجلب المتعة، فقد أدرك أن من مهام المربي أن يعلمنا كيف نستمتع بالبيئة التي نعيش فيها، كما يعلمنا أن نفهم تلك البيئة وأن نتحكم فيها إذا استطعنا:
“لا تدعوا يوماً واحداً يفر من أيديكم بغير متعة. لا تسمحوا لحماقة الآخرين أن تنال من أنفسكم تعذيباً. تذكروا أن الدنيا لم تخل من الحمق منذ أول خلقها. فلا ينبغي إذن أن نغّم أنفسنا، أو أن نضيع أسباب متعتنا، حتى إن حدث لأبنائنا وأشقائنا وأقربائنا أن يكونوا أثرين فيتجاهلوا خير مجهوداتنا في سبيل إسعادهم. إن “ساكي”، نوع من الخمر، هو هبة السماء الرائعة، فهي توسع القلب إذا ما شربناها بمقادير قليلة، وهي كذلك تنعش الروح إذا ما ناله الهم، وتفرق الهموم وتصلح الصحة، وبذلك تعين الإنسان وأصدقاءه أيضاً على التمتع بأسباب اللذة، غير أن من يسرف في شرابها يفقد احترامه، وينزلق لسانه بالثرثرة، وينطق بكلمات مسيئة كأنه مجنون.
اشربوا “الساكي” بالمقدار الكافي لإنعاش نفوسكم ثم لا زيادة، وبذلك يمكنكم أن تتمتعوا برؤية الزهر وهو يتفتح من أكمامه، إن من الحمق أن تسرف في الشراب فتفسد على نفسك هذه الهبة العظيمة التي وهبتها لك السماء”.
السعادة في الطبيعة..
وعن رأيه في الطبيعة: “ولقد وجد كما وجد غيره من سائر الفلاسفة أن الطبيعة هي آخر موئل يلوذ به ليلتمس سعادته:
“لو أننا جعلنا قلوبنا معين النعيم، وأعيننا وآذاننا أبوابه، ثم اجتنبنا سافل الشهوات إذن لتكاثر نعيمنا، لأننا عندئذ نصبح سادة الجبال والماء والقمر والزهور؛ ولا يكون بنا حاجة إلى سؤال أحد يهبنا هذه الأشياء؛ كلا ولا بنا أن ندفع سناً (مليماً) واحداً لنظفر بها، لأن هذه الأشياء لا يملكها إنسان بعينه، إن أولئك الذين يستطيعون أن يستمتعوا بجمال السماء من فوقهم، وجمال الأرض من تحتهم، ليس بهم حاجة إلى أن يغبطوا الأغنياء على رفاهية عيشتهم، لأنهم عندئذ يكونون أغنى من أغنى الناس؛ إن مشاهد الطبيعة في تغير دائم، فلست تجد صباحين أو مساءين على أتم تشابه.
ففي لحظة ما قد يحس الإنسان كأن جمال الدنيا بأسره قد انمحى؛ لكن ما هو إلا أن يأخذ الثلج في السقوط، وينهض الإنسان من نومه في الصباح التالي، ليجد القرية والجبال قد تحولت إلى فضة، وتدب الحياة في الأشجار التي كانت عارية، إذ يعود إليها بأزهارها. إن الشتاء يشبه نعاس الليل، الذي يجدد لنا القوة والنشاط.
إنني أحب الزهر، فأنهض من نومي مبكراً
وأحب القمر، فآوي إلى مخدعي متأخراً.
إن الناس يجيئون ويروحون كأنهم مجاري الماء العابرة
أما القمر فباق على طول العصور.
تأثير الكونفوشيوسية..
وعن أهمية الفلسفة الكونفوشيوسية يستنأف الكتاب: “لقد كان تأثير الكونفوشيوسية على التفكير الفلسفي في اليابان أشد منه في الصين نفسها، لأنه قضى هناك على كل مقاومة من فريق الثائرين من جهة، كما قضى على المثاليين المتصوفين من جهة أخرى؛ إن مدرسة “شوشي” التي كان من رجالها “سيجوا” و”رازان” و”إكن”، التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى “شوهسي” لأنها اتبعت طريقته في تفسير الكتب الصينية التي تحتوي على المتون، تفسيراً توخى فيه التزام الأصل وعدم الحرية في التصرف، ولقد نهضت مدرسة أخرى ظلت تقاومها حيناً، هي مدرسة “أويومي” التي كان على رأسها “وانج يانج منج” الذي عرفه “نيبون” باسم “أويومي”. ففلاسفة اليابان الذين كانوا ينتمون إلى مدرسة “أويومي” اقتفوا أثر “وانج” في استدلال الصواب والخطأ الأخلاقيين من ضمير الفرد، أكثر مما عمدوا في ذلك إلى تقاليد المجتمع وتعاليم الحكماء الأقدمين”.