خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن الأسرة وكيف أن سلطة الأب مطلقة فيها، ومنزلة المرأة قد انخفضت لدرجة الطاعة المطلقة، ومناهضة الحب كأساس للزواج . وذلك في الحلقة الأربعين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الأسرة وسلطة الرجل المطلقة..
انتقل الكتاب ليحكي عن الأسرة في الحضارة اليابانية القديمة: “الأسرة هي المصدر الحقيقي للنظام الاجتماعي، ولئن كان هذا صحيحاً بالنسبة للغرب، فهو أصح بالنسبة للشرق، وجمع السلطة كلها في يد الأب في اليابان كما هي الحال في سائر أنحاء الشرق لا يدل على انحطاط في درجة الرقي الاجتماعي، بل يدل على إيثارهم للحكومة الأسرية على الحكومة السياسية؛ فليس للفرد من الأهمية في الشرق بمقدار ما له من الأهمية في الغرب، وذلك لأن الدولة في الشرق كانت أضعف منها في الغرب. ولذا تطلبت الدولة أن يكون إلى جانبها أسرة قوية النظام شديدة الطاعة لتقوم مقام السلطة المركزية التي تشمل بسلطانها شتى نواحي الحياة كبيرها وصغيرها على السواء.
وقد فهمت الحرية في الشرق بالنسبة للأسرة لا بالنسبة للفرد، ذلك لأنه لما كانت الأسرة هي وحدة الإنتاج في عالم الاقتصاد كما كانت وحدة النظام الاجتماعي، كان النجاح أو الفشل، بل الحياة أو الموت، لا يخص الفرد الواحد بل يصيب الأسرة كلها؛ فكانت سلطة الوالد استبدادية، لكنها رغم استبدادها كانت تشوبها الرأفة التي لا يعقبها شيء من الضرر، وذلك بكونها تبدت للناس أمراً طبيعياً وضرورياً وإنسانياً؛ فقد كان من حقه أن يطرد من الأسرة زوج ابنته أو زوجة ابنه بينما يحتفظ بحفيدته في صحبته؛ بل كان من حقه أن يقتل ابنه أو ابنته إذا اتهم أحدهما بالدعارة أو غيرها من الجرائم الخطيرة.
وأن يبيع أبناءه أو بناته في سوق النخاسة أو سوق الدعارة وفي مستطاعه أن يطلق زوجته بكلمة واحدة.
فإذا ما كان الرجل من عامة الشعب، كان الأغلب أن يقتصر على زوجة واحدة، أما إذا كان من أبناء الطبقة العليا فقد كان من حقه أن يحيط نفسه بالخليلات؛ ولم يكن أحد ليهتم بما يقترفه من خيانة زوجية آناً بعد آن؛ ولما دخلت المسيحية بلاد اليابان، شكا الكتاب من أهل البلاد مما أحدثته من اضطراب في هدوء الحياة العائلية، بتعاليمها التي تجعل اتخاذ الخليلات واقتراف الزنا من الخطايا”.
منزلة المرأة..
وعن مكانة المرأة في تلك الحضارة القديمة: “وكانت منزلة المرأة في اليابان كما هي الحال في الصين أعلى في مراحل المدنية الأولى منها في المراحل المتأخرة، فترى ست نساء بين حكام البلاد إبان العهد الإمبراطوري، ولعبت المرأة في كيوتو دوراً هاماً، بل لعبت الدور الأول في حياة الأمة الاجتماعية والأدبية؛ وفي ذلك العهد الذهبي للثقافة اليابانية، سبق الزوجات أزواجهن في عالم الزنا، بحيث كن يبعن العفة بقول جميل يقال.
وتصف لنا “السيدة سي شوناجون” شاباً على وشك أن يرسل رسالة غرامية لخليلته، فقطعها ليغازل فتاة عابرة؛ ثم تضيف تلك الكاتبة المحبوبة البارعة في أدب المقالة، قولها: “ولست أدري إن كان الرسول الذي حمل رسالة هذا المحب معطرة بقطرات الندى انتثرت من الزهور العبقة، قد تردد في تقديمها إلى الحبيبة، إذ وجدها هي بدورها تستضيف عشيقاً”.
ثم انتشرت نظرية أهل الصين في إخضاع المرأة للرجل، حين انتشر النظام الإقطاعي الحربي، وحين تناوب البلاد تهاون وشدّة جعلا يتعاقبان على نحو طبيعي يسجله التاريخ؛ فأصبح المجتمع يسوده الذكور، وأذعن النساء “للطاعات الثلاث” الوالد والزوج والابن”؛ وأوشك الناس ألا يضيعوا جهدهم في تعليم النساء، اللهم إلا تعليمهن آداب الأوضاع الاجتماعية؛ وطولب النساء بالأمانة الزوجية يتهددهن في ذلك عقاب الإعدام”.
استلاب حقوق المرأة..
وعن انهيار مكانة المرأة يتابع الكتاب: “فإذا وجد الـزوج زوجته متلبسـة بجريمة الزنا، كان من حقـه أن يقتلهـا مـع عشيقها فوراً؛ وقد أضاف “أيياسو” بدقته إلى هذا الحق شرطاً، فقال إن الزوج إذا قتل المرأة في مثل هذه الحال وأخلى سبيل الرجل، حق عليه هو نفسه عقاب الموت؛ وقد نصح الفيلسوف “إكن” للزوج أن يطلق زوجته إذا ما أسرفت في حديثها من حيث ارتفاع الصوت، أو طول الكلام.
أما إذا حدث أن كان الزوج منحل الخلق وحشي الطبع، فينبغي للزوجة في رأي “إكِن” أن تضاعف له الرحمة والدعة؛ وفي ظل هذا التدريب الشديد المتصل، أصبحت المرأة اليابانية أنشط الزوجات وأخلصهن وأكثرهن طاعة؛ وإن الرحالة الذين أخذهم العجب لهذا النظام الذي أنتج مثل هذه النتائج الحميدة، ليتساءلون إن كان من الحكمة أن ندخله في بلاد الغرب”.
إنجاب الأطفال..
وعن التقليل من إنجاب الأطفال لدي اليابانيين يكمل الكتاب: “ولم تكن كثرة النسل تجد تشجيعاً في اليابان “السامورية” على خلاف ما نراه في أقدم عادات المجتمع الشرقي وأكثرها قدسية؛ وذلك لأنه لما تكاثر السكان أحست الجزر الصغيرة أنها قد ازدحمت بأهليها، وأصبح من عوامل السمعة الحسنة للرجل من طائفة “السيافين” ألا يتزوج قبل سن الثلاثين، وألا ينجب من الأطفال أكثر من اثنين؛ ومع ذلك فقد كان ينتظر من كل رجل أن يتزوج وأن ينسل الأبناء، فإذا تبين العقم في زوجته، كان من حقه طلاقها؛ وإن نسلت له بنات ولا أبناء، نصحوه بأن يتبنى ولداً حتى لا يضيع اسمه وتتبدد أملاكه، لأن البنات ليس من حقهن أن يرثن شيئاً.
وكان الأطفال يربون على أساس الفضائل الصينية، وفي جو من الأدب الذي يبث إخلاص البنوة، لأن انتظام الدولة وأمنها كانا يعتمدان على هذه الطاعة التي تُبعث في الأبناء والتي تكون معيناً للنظام في الأسرة”.
وقد أمرت “الإمبراطورة كـوكن” فـي القرن الثامن كل أسرة يابانية أن تحصـل لنفسها على نسخة من متن الطاعة المفروضة على الأبناء للآباء”؛ وكان يطلب إلى كل تلميذ في مدارس الأقاليم أو في الجامعات أن يتقن دراسة هذا الكتاب إتقاناً تاماً؛ ولو استثنيت طائفة السيافين الذين كانت واجبات الطاعة عندهم مفروضة أولاً لسادتهم؛ إذا استثنيت هؤلاء، وجدت طاعة الأبناء لآبائهم هي الفضيلة الأساسية العليا عند اليابانيين؛ بل إن علاقة الياباني بالإمبراطور، كانت علاقة الحب والطاعة من ولد إلى والده؛ ولبثت هذه هي الفضيلة الرئيسية في التشريع الخلقي كله تقريباً عند عامة الناس في اليابان، حتى جاءهم الغرب بأفكاره الثورية التي تنادي بحرية الأفراد؛ وكان يستحيل على الجزر اليابانية أن تتحول إلى المسيحية، بسبب ما ورد في الإنجيل من أمر للرجل بأن يترك أباه وأمه ليلصق بزوجته”.
فضيلة العفة..
وعن فضيلة العفة لدي اليابانيين يحكي الكتاب: “لم تكن الفضائل الأخرى فيما عدا الطاعة والولاء لتحتل بينهم مثل المكانة التي تحتلها في أوربا المعاصرة؛ فالعفة كانت فضيلة مرغوباً فيها، حتى لقد قتل بعض نساء الطبقة العليا أنفسهن حين تعرضت بكارتهن للخطر، لكن كبوة واحدة لم يكن معناها عندهم القضاء على المرأة قضاء كاملاً.
وأشهر القصص اليابانية، وهي قصة “جنجي مونوجاناري” هي عبارة عن ملحمة تروي قصة غواية في الطبقة العليا؛ وأشهر مقالات في الأدب الياباني، وهي المجموعة في كتاب “صور على الوسادة” لكاتبته “السيدة سي شوناجون” تراها في بعض المواضع كأنما أريد بها أن تكون رسالة في الأوضاع الصحيحة التي ينبغي مراعاتها عند اقتراف الخطيئة”.
البغاء..
وعن البغاء الذي شرعه الذكور لإشباع لذاتهم: “فقد نظر القوم إلى شهوات الجسد نظرتهم إلى أمر طبيعي كما ينظرون إلى الجوع والظمأ؛ فترى آلاف الرجال وكثير منهم أزواج محترمون يحتشدون ليلاً في “يوشي وارا”، أي حي الزهر في طوكيو. ففي ذلك الحي منازل خرجت على النظام، يسكنها خمسة عشر ألف امرأة رخص لهن بيع أجسادهن، تراهن في الليل جالسات وراء “شيش” نوافذهن، فاخرات الثياب بيضاوات بما وضعته على أجسادهن من مساحيق، مستعدات للغناء والرقص لمن ليس له امرأة.
وأعلى هؤلاء ثقافة هن فتيات “الجيشا” الذي يدل اسمهن هذا على أنهن بارعات في فنهن فكلمة جيشا مكونة من مقطعين: “جي” ومعناها بارع في الأداء الفني، و”شا” ومعناها شخص وهن شبيهات بطائفة “الغواني” في اليونان، في أنهن قد أثرن في الأدب كما أثرن في عالم الحب، ومزجن فوضاهن الخلقية بالشعر، لكن حدث أن أمر الحاكم العسكري “أيناري” (1787-1836) عام 1791 بتحريم الاستحمام الذي يخلط الجنسين معاً، لأنه أحياناً يؤدي إلى الخروج على قواعد الأخلاق”.
منع البغاء..
وعن اعتبار البغاء جريمة يواصل الكتاب: “ثم أصدر أمراً شديداً سنة 1822 يقاوم به فتيات “الجيشا”، وقد وصف الواحدة منهن بأنها “مغنية تلبس فاخر الثياب، وتعرض نفسها مأجورة لتسلية رواد المطاعم، بالرقص والغناء في ظاهر الأمر، لكنها في الحقيقة تمارس شيئاً يختلف عن هذين كل الاختلاف؛ ومنذ ذلك التاريخ عُدّ هؤلاء النساء بين “المذنبات” بحيث كن في عهد “كيمفر” يملأن حوانيت الشاي في القرى، كما يملأن الفنادق أينما وجدتها على طول الطريق.
ومع ذلك فقد لبثت الحفلات والعائلات تدعو فتيات “الجيشا” ليقمن بالتسلية في الاجتماعات؛ وفتحت مدارس تتلقى فيها فتيات “الجيشا” الناشئات على أيدي “الجيشا” القديمات مختلف أوضاع الفن؛ وكان يحدث أحياناً أن يجتمع المعلمات والمتعلمات معاً في حفلات الشاي، ليقمن بعرض الجانب المحتشم من ألوان ما يعرفونه من فنون؛ والآباء الذين يتعذر عليهم أحياناً أن يعولوا بناتهم، كانوا يوافقون بمحض اختيارهم على تدريب بناتهم في فنون “الجيشا” لعل ذلك يكون مورد كسب لهن؛ وما أكثر القصص اليابانية التي تروي عن بنات أسلمن أنفسهن لهذه الحرفة إنقاذاً لأسراتهن من أنياب الجوع”.
الحب..
وعن الحب يحكي الكتاب: “هذه العادات مهما بلغت من غرابة نفزع لها فزعاً لا تختلف في جوهرها عن عادات الغرب ونظمه الاجتماعية، اللهم إلا في الصراحة والتهذيب ولطف الأداء؛ وإنه ليقال لنا على سبيل التأكيد أن الأغلبية الكبرى من فتيات اليابان، لم تزل عفيفة كعذراوات الغرب سواء بسواء؛ فعلى الرغم من هذه النظم الصريحة، ترى اليابانيين يحيون حياة لا بأس بها من حيث النظام والاحتشام؛ وعلى الرغم من أنهم كثيراً ما كانوا يأبون الجري مع دوافع الحب في عقد الزواج الدائم مدى الحياة، فقد كان في وسعهم أن يظهروا أرق العواطف نحو ما يميلون إليه من أشياء.
فما أكثر الأمثلة التي نصادفها في حوادث التاريخ، وفي الوقائع الخيالية التي وردت في الأدب الياباني، التي تدل على أن الشبان والشابات قد قتلوا أنفسهم آملين أن يتمتعوا في الآخرة الأبدية بالاتصال الذي حرّمه عليهم آباؤهم على هذه الأرض؛ وليس الحب هو الموضوع الرئيسي في الشعر الياباني؛ لكنك مع ذلك تسمع نغماته هنا وهناك بسيطة مخلصة عميقة على نحو لا يضارعها فيه أدب آخر:
آه، تحولت الأمواج البيض على مدى البصر،
مما أراه طافياً على بحر “أيسي”
زهراتٍ
أجمعها طاقةً
أقدمها هدية لحبيبّتي
ثم اسمع “تسورايوكي” العظيم يحكي قصة حبه المرفوض في أربعة أسطر، مزج فيها الطبيعة بشعوره مزجاً يميز الأدب الياباني:
أتقول ألا شيء وشيك الزوال
مثل زهرة الكريز؟…. لكني أذكر لحظة
ذبلت فيها زهرة الحياة بكلمة واحدة
ولم تعد تتحرك من الريح هَبّةٌ.