18 نوفمبر، 2024 5:28 م
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (139): الشعب الياباني لديه هوس بالشاي والزهور والطبيعة

قصة الحضارة (139): الشعب الياباني لديه هوس بالشاي والزهور والطبيعة

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن هوس الشعب الياباني بالشاي والزهور والطبيعة في الحضارة اليابانية القديمة، وكيف كان يعقد احتفالات الشاي، ويقدس الزهور ويتفنن في التمتع بجمال الطبيعة. وذلك في الحلقة التاسعة والثلاثين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الشاي..

ون أهمية مشروب الشاي بالنسبة للشعب الياباني يحكي الكتاب: “لكن الشاي كان أكثر قدسية عند العلْية من “الساكي”. فهذا النبات العجيب الذي نتغلب به على ما يفقده الماء من طعمه بعد الغلي، جاء إلى اليابان قادماً من الصين سنة 805، لكنه إذ ذاك لم يصب نجاحاً، ثم جاءها مرة أخرى سنة 1191 حيث استقر بها وأقام، فقد اجتنبه الناس أول الأمر باعتباره سماً لا ينبغي أن يقربوه؛ ولكن لما تبين للرجل من طائفة “السيافين” أن قليلاً من أقداح الشاي سرعان ما يرد إلى رأسه اتزانه بعد ما أصابه من دوار بسبب الإفراط في شراب “الساكي” ليلة البارحة، أخذ أهل اليابان يتبينون فائدة الشاي.

ولقد أضاف ارتفاع ثمنه إلى سحره سحراً جديداً، فكان الناس يتهادون به ثمين الهدايا، بأن يتبادلوا الآنية الخزفية المليئة به؛ حتى لقد كان يُقَدَّمُ للمقاتلين جزاء ما أبلوا في أفعالهم الحربية الباسلة، فكان الذي يجود من هؤلاء بحيث يظفر بمنحة من الشاي، يجمع حوله الأصدقاء ليشاركوه هذا الشراب الملكي”.

احتفالات الشاي..

وعن الاحتفال بهذا المشروب الساحر يواصل الكتاب: “ولقد جعل اليابانيون من شرب الشاي احتفالاً رشيقاً معقد الأوضاع، إذ وضع “ركيو” لذلك ست قواعد لا يجوز الخروج عليها، فارتفع شرب الشاي بفضل هذه القواعد الست إلى منزلة الطقوس الدينية، فمن قواعد “ركيو” هذا أن الدعوة التي توجه إلى الأضياف ليدخلوا قاعة الشاي، يجب أن تكون بالتصفيق بخشبتين معينتين؛ كما يجب أن يظل إناء الوضوء مليئاً بالماء الصافي، وإذا ما أحس ضيف من الأضياف بخطأ أو بنقص في أثاث المكان، وجب عليه أن يغادر من فوره دون أن يحدث بذلك ضجة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

ولا يجوز أن يغوص الحاضرون في حديث تافه، بل يجب عليهم ألا يطرقوا بالحديث إلا أموراً عالية جادة؛ ولا يجوز لأحد أن يفوه بكلمة واحدة مما يدل على غرور أو رياء، ثم لا يصح أن يستغرق الأمر أكثر من أربع ساعات”.

“شا- نو- يو”..

ويفصل الكتاب عن الاحتفاء الشديد بالشاي: “ولم يكن يستعمل إبريق للشاي في مثل هذه المحافل التي يطلق عليها “شا- نو- يو” ومعناها ماء ساخن للشاي؛ بل كان يوضع مسحوق الشاي في فنجان ممتاز في نوعه، ثم يصب فيه الماء الساخن، ثم يدور الفنجان بين الأضياف واحداً بعد واحد، كل منهم يمسح حافته مسحاً رقيقاً بمنشفة صغيرة، حتى إذا ما شرب آخر الشاربين آخر جرعة من الفنجان، أدير الفنجان بين الحاضرين من جديد ليفحصوه من الوجهة الفنية، وعلى هذا النحو كان احتفال الشاي حافزاً للخزافين على إنتاج أقداح وآنية بالغة الجمال، كما كان هذا الاحتفال عاملاً على صياغة آداب اليابانيين في صورتها الهادئة الفاتنة التي يراعى فيها تبادل الاحترام”

الزهور..

وعن تقديس الزهور في الحضارة اليابانية القديمة: “كذلك أصبحت الزهور موضع قدسية في اليابان؛ فكانت موضع تقدير من “ركيو” هذا الذي صاغ طقوس محافل الشاي، فكانت الزهور عنده تلقى من العناية ما تلقاه أقداح الشاي، ولما سمع أن “هيديوشي” آت لزيارته ليرى مجموعته المشهورة من زهور الأقحوان، أتى “ركيو” على كل الزهور في بستانه إلا واحدة، لعل هذه الواحدة تسطع في عيني هذا “السياف” المخيف سطوعاً يدرك منه أنها فذة في عالم الزهور.

وأخذ فن تنسيق الزهور يتقدم خطوة بعد خطوة مع “سرعة الشاي” في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حتى إذا ما جاء القرن السابع عشر، أصبح موضعاً للاهتمام في حد ذاته.

طائفة “أساتذة الزهور”..

وعن نشأة معلمين متخصصين في مجال الزهور: “ونشأت طائفة “أساتذة الزهور” تعلم الرجال والنساء. كيف ينبتون الزهور في البستان وكيف ينسقونها في دورهم، فكان هؤلاء الأساتذة يقولون إنه لا يكفي أن تعجب بالزهور نفسها، بل يجب أن تدرب نفسك على رؤية الجمال في ورقة الزهور وفي غصنها وفي عودها كما ترى الجمال في الزهرة نفسها، وأن تدرب نفسك على رؤية الجمال في زهرة واحدة كما تراه في ألف زهرة، وأن ترص الزهر رصاً لا يقوم على أساس اللون وحده، بل كذلك مع أساس طريقة ضمها في طاقات وصفها. وهكذا أصبح الشاي والزهور والشعر والرقص من لوازم الأنوثة بين بنات العلية في اليابان”.

عبادة الزهور..

يذهب الكتاب إلي حد وصف اليابانيين بعبدة الزهور: “الزهور عند اليابانيين بمثابة الدين، فهم يعبدونها عبادة تشيع فيها روح التضحية بالقرابين، ويلتقي فيها أفراد الشعب جميعاً؛ وهم يرقبون في كل فصل من فصول العام ما يلائمه من زهور؛ فإذا ما أزهرت شجرة الكريز مدى أسبوع أو أسبوعين في أوائل شهر إبريل، يخيل إليك أن أهل اليابان جميعاً قد تركوا أعمالهم ليحدجوا فيها بأبصارهم؛ بل إنهم ليحجون إلى الأماكن التي تزخر بهذه المعجزة ويكمل فيها إزهار هذا الضرب من الشجر فهم لا يزرعون شجرة الكريز لثمارها، بل لأزهارها وزهرتها رمز للمحارب المخلص الذي يستعد للموت في سبيل وطنه في اللحظة التي تصل فيها حياته أوج شبابها.

وقد يحدث أن يطلب المجرمون المساقون إلى الإعدام زهرة من زهرات الكريز وهم في طريقهم إلى الموت، وتروي لنا “السيدة تشيو” في قصيدة لها مشهورة، أن فتاة قصدت بئراً تستخرج منه الماء، فلما وجدت الدلو والحبل ملتفاً عليهما أغصان النبات اللبلابي، قصدت مكاناً آخر تحصل منه على الماء، مؤثرة ذلك على قطع أسلاك النبات، ويقول “تسورايوكي” “إنه ليستحيل عليك أن تفهم قلب الإنسان، لكن الزهور في قريتي ما تزال كسابق عهدها تنفث عبقها، هذه العبارة الساذجة هي من أعظم الشعر الياباني، لأنها تعبر عن خصيصة عميقة لجنس بشري بأسره، تعبر عنها تعبيراً كاملاً يتعذر أن تحذف منه شيئاً، كما تعبر عن نتيجة صادقة من نتائج الفلسفة، إنك لن تجد بين أمم العالم أمة أحبت الطبيعة بمثل ما أحبها اليابانيون ولن تجد الناس في أي جزء من أجزاء الأرض غير اليابان يتقلبون راضين تقلبات الطبيعة كما تتبدى في الأرض والسماء والبحر”.

حب الطبيعة..

وعن ولع اليابانيون بالطبيعة يكمل الكتاب: “ولن تجد بلداً آخر غير اليابان عني فيه الناس بزراعة البساتين، أو بتغذية النبات إبان نموه، أو خصوه برعايتهم في دورهم، إن اليابان لم تنتظر حتى يجيئها “روسو” أو “وردزورث” لينبئها أن الجبال شوامخ أو أن البحيرات قد يكون لها روعة الجمال، فتكاد لا تجد في اليابان منزلاً بغير أصيص للزهور، كما توشك ألا تجد قصيدة واحدة في الأدب الياباني تخلو من وصف مشاهد الطبيعة في ثنايا سطورها.

فكما أن “أوسكار وايلد” كان من رأيه أن إنجلترا لا ينبغي لها أن تحارب فرنسا لأن الفرنسيين يكتبون نثراً بلغ في فنه حد الكمال، فكذلك نقول أن أمريكا يجب أن تنشد السلام إلى آخر جهدها مع أمة تتعطش للجمال في عاطفة جارفة تكاد تبلغ في حدتها قوة نهمها إزاء السلطان.

إن فن غرس الحدائق قد جاءها من الصين جنباً إلى جنب مع البوذية والشاي؛ لكن هاهنا ترى اليابانيين مرة أخرى يحولون بقوة إبداعهم ما قد تشربوه من غيرهم عن طريق المحاكاة، فتراهم يستملحون جمال الشيء إذا خلا من الاتساق. ويستجملون الأشكال المبتكرة التي لم يقتلها التكرار، فتجيء للرائي بمثابة المفاجأة، وهم يقصرون الأشجار والشجيرات بأن يحصروا جذورها في أُصُص، وتدفعهم في ذلك فكاهة شيطانية وصبٌّ عارم إلى أن يروضوا تلك الأشجار بحيث يصوغونها في أشكال يجوز لنا، إذا ما رأيناها تكوّن سور البستان أن نقول عنها إنها تمثل أشجار اليابان التي عصفت بها عواصف تلك البلاد فلوت أفنانها، وتراهم يبحثون في فوهات براكينهم وفي أوعر شطئانهم لعلهم واجدون صخوراً امتزجت بالمعادن بفعل النيران الداخلية، أو صاغها حجّارون صابرون في أشكال غريبة ملتوية الأجزاء، وهم يحتفرون البحيرات الصغيرة، ويشقون النهيرات الفوارة بمائها، ويصلون ضفافها بجسور تبدو للرائي كأنما جاءت نمواً طبيعياً في أشجار الغابات، وهم يدقون خلال هذه التكوينات المختلفة كلها مماش ينقشونها نقشاً دقيقاً، فتؤدي بك تارة إلى جديد يفجؤك، وطوراً إلى ركن هادي بليل الهواء.”

البيوت..

ويصف الكتاب بيوت اليابانيين: “وحيث تسعفهم فسحة الأرض وكثرة المال تراهم أميل إلى أن يجعلوا بيوتهم جزءاً من حدائقهم، منهم إلى أن يجعلوا حدائقهم جزءاً من بيوتهم، ومنازلهم هزيلة البنيان لكنها جميلة؛ فلئن جعلت الزلازل الأبنية العالية خطراً داهماً، فقد عرف النجار وقاطع الخشب كيف يربط ألواح الخشب وشرائحه وعمده فيجعل منها مسكناً تبلغ بساطته حد التقشف. لكن يبلغ جماله حد الكمال، بحيث تراه في فن عمارته نسيج وحده، إنك لا ترى في مثل هذا المسكن ستائر أو أرائك أو أسرة أو مناضد أو مقاعد، ولا ترى دلائل بارزة تدل على ثروة الساكن ورفاهيته، لا ترى متحفاً للصور ولا التماثيل ولا التحف؛ لكنك ترى في ركن من الحديقة غصناً مزهراً، وعلى الحائط صورة من الحرير أو الورق، أو ترى قطعة من الخط الزخرفي، وتجد على الأرض المغطاة بالحصير وسادة وضع أمامها كرسي مما تسند عليه الكتب للقراءة، وعلى أحد جانبيها خزانة كتب وعلى جانبها الآخر مسندة.

وهم يخفون الحشايا والأغطية في خزانة خشبية، ليخرجوها وينشروها على الأرض إذا حان وقت النوم، ففي مثل هذه الأحياء المتواضعة، أو في كوخ الفلاح الهزيل كانت تسكن الأسرة اليابانية، وتبقى على الحياة وعلى المدنية في “الجزر المقدسة” خلال ما تعاور البلاد من زعازع الحروب والثورات ومن فساد سياسي وكفاح في سبيل الدين”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة