خاص: قراءة- سماح عادل
انتقل الكتاب إلي الحكي عن حاكم قوي في تاريخ حضارة اليابان، “أيياسو” الذي اهتم بالسلام والرخاء، وبالفن والثقافة والأدب. وذلك في الحلقة الرابعة والثلاثين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
أيياسو ..
يستأنف الكتاب الحديث عن حكام اليابان الشهيرين: “مات “هيديوشي” فأعلن “أيياسو” أنه حين حلف اليمين له، لم يشهد على يمينه قطرات من دمه يستقطرها من أصابعه أو من فمه، كما يقضي بذلك تشريع “ساموراي” أي حملة السيف بل استقطر دمه ساعة حلف اليمين من خدش وراء أذنه ومن ثم كان يمينه غير ملزم بالوفاء، والتقى بجماعة من قادته كانوا ينافسونه السلطان، التقى بهم عند سكيجاهارا، فعصف بهم عصفاً في موقعة انتثر على أرضها أربعون ألفاً من القتلى؛ وأبقى على “هيديوري” حتى بلغ سن الرشد فأصبح بذلك خطراً عليه، وعندئذ أوحى له بالتسليم صيانة لحياته.
ولما قَرَّعوه على موقفه ذاك، حاصر قلعة أوساكا الجبارة حيث كان هيديوري محصناً، واستولى عليها في الوقت الذي كان الفتى فيه يزهق روح نفسه، ومكّن لنفسه من السلطان كاملاً بأن قتل أبناء “هيديوري” جميعاً الشرعيين منهم وغير الشرعيين، وبعدئذ نظم “أيياسو” الأمن في مهارة وقسوة كما نظم القتال، وحكم اليابان حكماً بلغ من صلاحيته أن رضيت اليابان بأن تحكم بأبنائه وعلى مبادئه مدى ثمانية أجيال.”
العهد العقلي..
ويفصل الكتاب عن ذلك الحاكم: “كان رجلاً له أفكاره الخاصة، وكان يتخذ لنفسه من قواعد الأخلاق ما تقتضيه ظروف الساعة؛ فلما جاءته سيدة من أكرم السيدات تشكو إليه أن أحد رجاله قد قتل زوجها لكي يظفر بها، أمر “أيياسو” ذلك الرجل أن يخرج أمعاء نفسه بيده، وبعدئذ اتخذ من السيدة خليلة له، وهو شبيه بسقراط في جعل الحكمة الفضيلة التي لا فضيلة سواها، ورسم الطرق المؤدية إليها في ذلك الكتاب العجيب الذي أسماه “التراث” أو العهد العقلي الذي خلَّفه لأسرته عند موته:
“الحياة شبيهة برحلة طويلة يحمل فيها الراحل حملاً ثقيلاً، فاجعل خطاك وئيدة ثابتة، حتى لا تتعثر، واقنع نفسك بأن النقص والتعب هما نسيج الحياة الطبيعي عند من تفنى حياته، ولن يكون في حياتك ما يمد لك في سبيل السخط أو اليأس فإذا ما نَزَتْ في قلبك نزوات الطموح، فتذكر أيام الشقاء البالغ حده الأقصى، التي اجتزتها في ماضي حياتك؛ فالصبر هو أس السكينة والطمأنينة إلى الأبد؛ انظر إلى السخط نظرتك إلى عدوك؛ فإذا اقتصر علمك على كيف تَهزِم، ولم تعلم كيف تنهزم، فالويل لك، ويا سوء سبيلك في الحياة الدنيا؛ فاكشف عن الخطأ في نفسك قبل أن تكشف عنه في سواك””.
إقامة السلام..
وعن ميل ذلك الحاكم إلي السلام : “أما وقد ظفر لنفسه بالسلطان بقوة السلاح، فقد قرر أن اليابان لم تعد بها حاجة إلى مواصلة الحروب، وكَرَّسَ نفسه للنهوض بما يقيم السلام من وسائل وفضائل، ولكي يباعد بين “الساموراي” (أي حملة السيف) وبين عاداتهم العسكرية، شجعهم على دراسة الأدب والفلسفة والخلق الفني، وهكذا ازدهرت الثقافة في اليابان في ظل حكمه الذي نشره في ربوع البلاد؛ وتدهورت الروح العسكرية، وقد كتب يقول: “إن الشعب هو أساس الإمبراطورية”.
واستثار في قلوب خلفه الرحمة والرأفة “بالأرمل والأرملة واليتيم ومن لا أنيس له” لكنه لم يتصف بالميول الديمقراطية، حتى لقد ذهب إلى أن أفدح الجرائم جميعاً هو العصيان، “فالزميل” الذي يخرج على صفوف الزملاء من طبقته، لابد من الفتك به فور ساعته، ولا مندوحة من قتل أسرة الثائر بأسرها”.
النظام الإقطاعي..
وعن النظام الإقطاعي: “ومن رأيه أن النظام الإقطاعي هو أفضل نظام يمكن وضعه لبني الإنسان كما هم في حقيقة طبائعهم، لأنه يهيئ اتزاناً معقولاً بين السلطة المركزية والسلطة المحلية، كما يقيم نظاماً طبيعياً وراثياً تتسق به الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وهو كذلك يضمن استمرار المجتمع دون أن يتعرض لسلطان الحاكم المستبد، ولا بد لنا من الاعتراف هنا بأن “أيياسو” قد نظم في بلاده أكمل صورة عرفها الإنسان لحكومة تقوم على نظام الإقطاع.
وهو ككل سياسي آخر قد فكر في الدين على أنه أداة للنظام الاجتماعي قبل أن يكون أي شيء آخر، وأحزنه أن يرى أن اختلاف الناس في عقائدهم الدينية قد قضى على نصف هذا الخير الاجتماعي بما أحدثته العقائد المتعادية من فوضى؛ وقد كانت العقيدة التقليدية للشعب الياباني وهي خليط مضطرب من الشنتوية والبوذية، كانت هذه العقيدة التقليدية من وجهة نظره السياسية الخالصة، رباطاً بالغ القيمة يربط الجنس الياباني في وحدة روحية ونظام خلقي وولاء وطني”.
المسيحية..
وعن موقفه من الديانة المسيحية: “وهو على الرغم من أنه نظر إلى المسيحية بادئ ذي بدء بعين التسامح وبأفق عقلي فسيح كاللذين عرفا عن “أكبر” في الهند وأبى أن يفرض عليها ما كان يفرضه عليها “هيديوشي” من أوامر يعلن بها غضبه منها، إلا أنه عاد فضاق بها صدراً لتعصبها، ولاتهامها القاسي للديانة القومية بأنها وثنية، وما أحدثته بتعصبها الجامح من شحناء لم تقتصر على أن تكون بين المعتنقين المسيحية وبقية أفراد الأمة، بل امتدت فدبت بين معتنقي الديانة الجديدة أنفسهم.
ثم ثار في صدره السخط آخر الأمر لما عرف أن المبشرين بالمسيحية كانوا أحياناً يُستخدمون طلائع للفاتحين وأنهم كانوا في أجزاء متناثرة من أرض الوطن يتآمرون على الدولة اليابانية فأمر سنة 1614 بتحريم العبادة المسيحية أو التبشير بتعاليمها في اليابان، وطالب المعتنقين لهذه الديانة من الأهالي إما أن يغادروا البلاد وإما أن يرتدوا عن عقيدتهم الجديدة، واستطاع قساوسة كثيرون أن ينجوا بأنفسهم من طائلة هذا القانون، وألقي القبض على طائفة منهم، ولكن لم يُعدم أحد منهم في حياة “أيياسو”.
فلما قضى نحبه، صبَّ سادة الحكومة غضبهم على المسيحيين، وأعقب ذلك موجةٌ وحشية من الاضطهاد الديني، كان من أثرها أن أمحت المسيحية من بلاد اليابان محواً تاماً تقريباً، ولما كان عام 1638 تجمعت البقية الباقية من المسيحيين، وبلغ عددها سبعة وثلاثين ألفاً، في شبه جزيرة “شيمابارا” وحصنتها ووقفت وقفة أخيرة دفاعاً عن حرية العبادة؛ فأرسل لها “أبيمتسو”- حفيد أيياسو- قوة كبيرة مسلحة لإخضاعها؛ وبعد حصار دام ثلاثة أشهر سقطت الحامية في أيدي اليابانيين، وذبح المعتصمون بها ذبحاً في الشوارع، لم يبق منهم على قيد الحياة إلا مائة وخمسة أشخاص”.
موت أيياسو..
وعن موت هذا الحاكم الشهير: “مات “أيياسو” في نفس العام الذي مات فيه شكسبير؛ وخلَّف هذا الحاكم العسكري القوى سلطانه إلى ابنه “هيديناميا” مصحوباً بنصح بسيط وهو: “ارْعَ أبناء الشعب، وحاول أن تكون فاضلاً، ولا تهمل أبداً في حماية البلاد”؛ وكذلك قدم النصح إلى الأشراف الذين وقفوا إلى جانب سريره ساعة احتضاره، فكان نصحاً على أحسن ما تجرى به التقاليد كما عُرفت عند “كونفوشيوس” و “منشيوس” إذا قال لهم: “لقد بلغ ابني الآن سن الرشد، ولست أشعر بأي قلق على مستقبل الدولة، ولكن إذا ما اقترف خلفي خطأ فادحاً في إدارة حكومته، فتولوا أنتم زمام الأمور بأيديكم، فليست البلاد مِلْكاً لرجل واحد، لكنها وطن للأمة بأسرها، وإذا ما أضاع حفدتي سلطانهم بسبب أخطائهم، فلن آسف على ضياعه منهم” “.
علي نفس الخطي..
وسار أبناءه علي نفس خطاه: “لكن حفدته ملكوا زمام أنفسهم على نحو أحسن جداً مما كان ينتظر عادة من ملوك عصرهم أن يفعلوا خلال أمد طويل من الزمن؛ أما “هيديتارا” فقد كان رجلاً متوسط القدرة لا يصدر عنه الأذى؛ ثم جاء “أييمتسو” مثلاً لصورة أقوى من صور أفراد هذه الأسرة، فاستطاع بشدته أن يحبط حركة نهضت لإعادة النفوذ الحقيقي إلى الأباطرة الذين كانوا لم يزالوا يملكون ولكنهم لم يكونوا يحكمون؛ وأغدق “تسونايوشي” إغداقاً في رعايته لرجال الأدب، ورعايته للمدرستين المتنافستين العظيمتين في عالم التصوير. وهما “كانو” و “توسا” اللتان زَيَّنتا عصر “جنروكو” (1688-1703).
وجاء “يوشيموني” فجندّ نفسه للغاية التي ما انفكت الإنسانية تهدف لها حيناً بعد حين، وهي محو الفقر، وكان ذلك في نفس الوقت الذي كانت ميزانية حكومته تعاني فيه عجزاً جاوز المألوف؛ فاستقرض من طبقة التجار قرضاً طائلاً، وهاجم إسراف الأغنياء، وخفض نفقات حكومته خفضاً نزع به نحو جانب الزهد الرواقي، الذي ذهب به إلى حد إخراجه سيدات القصر الخمسين اللائي كن أجمل السيدات، واكتفى في ثيابه بلبس القطن، وفي نومه بحصير مما يرقد عليه الفلاحون، وفي طعامه بأبسط ألوان الطعام؛ ووضع صندوقاً أمام قصر المحكمة العليا ليضع فيه الشاكون شكاواهم، ودعا الناس إلى نقد السياسة الحكومية أو موظفي الحكومة على أي نحو شاءوا.
فلما قدم رجل يدعي “ياماشيتا” عريضة اتهام لاذع يهاجم بها الحكومة من أساسها، أمر “يوشيموني” بالاتهام فَقُرِأ على مسمع من الملأ، وكافأ كاتبها على صراحته بأجزل العطاء. ولقد قرظ “لافكاديوهيرن” حكمه في ذلك العهد فقال: “إن عصر “توكوجاوا” كان أسعد العصور التي شهدتها الأمة في حياتها الطويلة”.
ويميل التاريخ إلى الأخذ بهذا الرأي نفسه، ولو على سبيل الترجيح، لأن التاريخ لن يبلغ في علمه بالماضي مبلغ اليقين؛ فكيف يستطيع الإنسان إذا نظر إلى اليابان اليوم، أن يتصور أن هذه الجزر التي تضطرب أعصابها اليوم اضطراباً كانت منذ قرن واحد مضى، يسكنها شعب فقير لكنه قانع، ويتمتع بعصر طويل من السلام في ظل حكومة تقوم عليها طبقة عسكرية، ويتجه بمجهوده- في عزلته الهادئة- نحو أسمى غايات الأدب والفن ؟!”.