خاص: قراءة- سماح عادل
انتقل الكتاب إلي الحكي عن حضارة اليابان، وكيف استطاعت اليابان أن تتأثر بالحضارة الصينية في جميع المظاهر خاصة الثقافة. عندما توافرت لها أسباب الترف. وذلك في الحلقة الواحدة والثلاثين بعد المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
العصر الإمبراطوري..
يتناول الكتاب العصر الإمبراطوري في الحضارة اليابانية: “منذ ذلك الوقت فصاعداً، جعل الإمبراطور يتمتع بألقاب ضخمة، فكان يسمى أحياناً “تنشي” أو “شمس السماء” على أن اسمه كان غالباً “تنو” أي “الملك السماوي” ونادراً ما كان يطلق عليه “ميكادو” أي “الباب المجيد”؛ وكان من امتيازه أن يطلق عليه اسم جديد بعد موته، يعرف في التاريخ باسم خاص يختلف كل الاختلاف عن الاسم الذي أطلق إبان الحياة؛ ولكي يضمن اتصال النسل الإمبراطوري، كان للإمبراطور الحق في أي عدد شاء من الزوجات أو الرفيقات؛ ولم يكن حتماً أن يهبط الملك إلى أكبر الأبناء، بل تؤول ولاية العرش من بعده إلى من كان في رأيه هو، أو في رأي أبطال العصر أقرب أبنائه إلى أن يكون أقواهم، أو أضعفهم على العرش فيختار أقواهم إن كان الذي يختار هو الملك، ويختار أضعفهم إن كان الذي يختار هم أعلام العصر ذوو المصالح الشخصية.
وكان الأباطرة في بواكير العصر الكيوتي يميلون إلى الورع، حتى لقد تنازل بعضهم عن العرش ليجعلوا من أنفسهم رهباناً بوذيين، وحرَّم أحدهم السِّماكة على أنها إساءة إلى بوذا؛ لكنك تجد بينهم “يوزي” يشذ عن هذا المجرى، ويتعب الناس بنشاطه، فجاء مثلاً يوضح كيف تكون الأخطار التي يستهدف لها الملك إذا نشط؛ فكان يأمر الناس أن يصعدوا الأشجار ثم يرميهم بقوسه ونشابه، ويمسك بالعذارى في الطرقات، ويوثق قيدهن بأوتار قيثارة ويقذف بهن في البرك، وكان مما يمتع جلالته أن يركب جائساً خلال العاصمة فيلهب الناس بسوطه ليدفعهم إلى العمل، لكن رعيته خلعته عن العرش آخر الأمر بثورة أعلنت فيها العصيان السياسي الذي هو بمثابة الخروج على حدود التقوى وهو شيء نادر الوقوع في تاريخ اليابان”.
العصر الذهبي..
ويواصل عن العصر الذهبي لتلك الحضارة: “وحدث سنة 794 أن انتقلت مراكز الحكومة من “نارا” إلى “ناجاوكا” ثم لم تلبث بعدئذ أن انتقلت إلى كيوتو (أي عاصمة السلام) فظلت هي العاصمة خلال الأربعة قرون (794-1192) التي يجمع معظم المؤرخين على أنها كانت في اليابان عصرها الذهبي، فلما أن كانت سنة 1190 بلغ سكان كيوتو نصف المليون، وهو ما لم تبلغه أية مدينة أوروبية في ذلك العصر ما عدا القسطنطينية وقرطبة، وقد خصص جزء من المدينة لأكواخ الناس وحظائر لماشيتهم، والظاهر أن قد نعم هؤلاء الناس بعيشهم رغم فقرهم المدقع؛ ثم خصص آخر- جعلوه معزولاً بما تقتضيه الحكمة لحدائق العلية والأسرة الإمبراطورية وقصورهم.
وكان يطلق على حاشية الإمبراطور بحق “سكان ما فوق السحب” لأن تقدم الحضارة وارتفاع الأساليب الفنية كان من نتائجها في اليابان كما هي الحال في غيرها ازدياد الفوارق الاجتماعية؛ وبهذا زالت المساواة التقريبية التي كانت تسود الناس في باكورة الأيام، وحل محلها تفاوت لا مندوحة عن وقوعه إذا ما قُسمِّت الثروة المتزايدة بين الناس على قدراتهم المختلفة وشخصياتهم وامتيازاتهم المتباينة.
ونشأت أسرات كبيرة، مثل الـ “فويجيوارا” والـ “تايْرا” والـ “ميناموتو” والـ “سوجاوارا”، وهي أسرات كانت تقيم الأباطرة وتخلعهم، ويحارب بعضها بعضاً على النحو العنيف الذي شهدته أيام النهضة الإيطالية؛ ولقد قرَّب “سوجاوارا متشيزاني” نفسه من قلوب اليابانيين لرعايته للأدب، وهو الآن معبود لديهم بوصفه إلهاً للآداب، وتعطل المدارس تكريماً له في الخامس والعشرين من كل شهر؛ وكذلك امتاز الشاب “ميناموتو سانيتومو” بإنشائه في الصباح السابق لاغتياله هذه المقطوعة الشعرية الساذجة، التي تمثل الأسلوب الياباني في أنصع صوره:
إذا لم أعد إليك ثانياً
يا شجرة البرقوق التي تجاور داري
فلا تنسي أنت موعد الربيع
وازدهري ما وسعك الازدهار .
ثقافة الصين..
وعن تأثر الحضارة اليابانية بثقافة الصين: “ولبثت اليابان في عهد “دايجو” المتنوّر (898-930)- وهو أعظم الأباطرة الذين أقامتهم على الحكم قبيلة فوجيوارا، لبثت في عهده تتشرب بل بدأت تنافس مع ثقافة الصين وأسباب ترفها، التي كانت عندئذ في أعلى ذرى ازدهارها في عهد “تانج”؛ ولما كانت اليابان قد استمدت عقيدتها الدينية من “المملكة الوسطى” فقد طفقت تستمد من المعين نفسه لباسها وألعابها وطهيها وكتابتها وشعرها وأساليب حكومتها وموسيقاها وفنونها وبساتينها وعمارتها.
بل خُطِّطت عاصمتاها الجميلتان “نارا” و “كيوتو” على غرار “شانجان”؛ فقد استوردت اليابان ثقافة الصين منذ ألف عام، كما تستورد ثقافة أوربا وأمريكا في عصرنا هذا، وهي في هذا تتعجل أولاً ثم تتمهل لتنتقي وتختار ثانياً؛ لكنها تحتفظ بروحها الخاصة وشخصيتها الخاصة غيرة عليهما، ولا تدخر في وسعها جهداً في سبيل مداومة الأساليب الجديدة إلى الأغراض القومية القديمة. ”
عهد “الأنجي”..
وعن ذروة العصر الذهبي يكمل الكتاب: “ودخلت اليابان في عهدها “الأنجي” (901-922) الذي يعتبر ذروة العصر الذهبي مدفوعة إلـى ذلك الصـعود بحافز مـن جارتها العظيمة، وبوقاية حكومية مستتبـة؛ فتراكـمت الثروة وأتجه إنفاقها نحو أسباب حياة مترفة رقيقة تشيع فيها الثقافة بحيث لا يكاد يضارعها في ذلك مثيل حتى جاءت عصور أسرة مديتشي و”صالونات” “التنوير الفرنسي” .
وأصبحت “كيوتو” بمثابة باريس وفرساي في فرنسا، رقيقة قي شعرها وثيابها، رشيقة في أخلاقها وفنونها، تضع للأمة كلها معايير المعرفة والذوق، وانفتحت “الشهية” عند الناس على اختلاف صورها وإلى آخر حدودها وآمادها، فابتكر الطهاة صنوفاً جديدة من شهيّ الطعام، وكدسوا الآكال تكديساً ليُشبعوا أصحاب النهم وأرباب الذوق في الطعام على حد سواء، وغُض الطرف عن جرائم الزنا على أساس أنها من أتفه خطايا الإنسان.
وتزمَّل كل سيد أو سيدة بالحرير ونفيس الثياب، وكنت ترى مختلف الألوان متناسقة على كل كم تلبسها ذراع، وازدانت حياة المعابد والقصور بالموسيقى والرقص كما أشاع الرقص والموسيقى روح الرشاقة في بيوت العِلْية التي كانت تحاط بروائع المناظر الطبيعية من الخارج، وتزدان صقلاً من الداخل بما فيها من آيات البرونز واللؤلؤ والعاج والذهب والخشب الذي حفر حفراً بلغ الغاية القصوى من دقة الحفر؛ لقد ازدهر الأدب إذ ذاك وانحلَّت الأخلاق.
أمثال هذه العصور التي تتلألأ بجوانب الرقة، يغلب ألا تدوم طويلاً، لأنها ترتكز ارتكازاً مقلقلاً على ثروة متراكمة يمكن في أية لحظة أن تذروها عوامل تذبذب التجارة، وقلق الطبقات المستغَلَّة وتقلبات الحروب؛ وقد أدى إسراف القصر آخر الأمر إلى إفلاس الدولة وارتفعت الثقافة بحيث رجحت كفتها بالقياس إلى القدرة العلمية، فانتهى ذلك إلى ملء المناصب الإدارية بمتشاعرين عاجزين، وأخذ الفساد يتكاثر تحت أنوفهم المعطَّرة دون أن يستوقف انتباههم، ثم أصبحت المناصب آخر الأمر تباع لمن يدفع في شرائها أغلى ثمن.
انهيار..
وعن افول هذا العصر الذهبي يضيف الكتاب: “وازدادت الجـرائم بين الفـقراء بقـدر ما ازدادت أسباب التـرف بين الأغنيـاء، وانبث وبـاء اللصوص والقراصنة في الطرقات والبحار، فكانوا ينقضون على كل فريسة تقع في أيديهم، لا فرق عندهم بين الإمبراطور والشعب، ويسطون على جباة الضرائب فيسلبونهم ما كانوا يحملونه إلى القصر من أموال، ونظمت عصابات من اللصوص في الأقاليم، بل وفي العاصمة نفسها، وكان يتاح لأخطر مجرم في اليابان أن يعيش في رفاهية علنية؛ لأنه كان من القوة بحيث يتعذر على أولى الأمر أن يقبضوا عليه أو يسيئوا إليه، وأهمل الناس عاداتهم وفضائلهم الحربية، وتراخوا في نظامهم العسكري والأهبة للدفاع، بحيث باتت الحكومة مفتوحة الصدر لكل ضربة يسددها إليها من شاء من القراصنة القساة.
وراحت الأسر الكبيرة تجيَّش لنفسها جيوشها، فبدأت بذلك عهداً من حروب أهلية، ولبثت تناضل بعضها بعضاً نضالاً تسوده الفوضى، كل منها يحاول أن يظفر لنفسه بحق تعيين الإمبراطور، وأما الإمبراطور نفسه فكان يزداد كل يوم ضعفاً على ضعف، في الوقت الذي كان رؤساء القبائل فيه يوشكون أن يعودوا إلى سابق عهدهم من حيث استقلال كل منهم بسلطته؛ وهكذا أخذ التاريخ مرة أخرى يتذبذب على نحو ما كان يتذبذب قديماً، بين حكومة قوية مركزية من ناحية، ونظام إقطاعي لا مركزي من ناحية أخرى”.