23 أبريل، 2024 8:36 م
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (128):  فرض التصنيع الغربي الفوضي والعبودية والفقر المدقع في الصين

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: قراءة- سماح عادل

يستأنف الكتاب الحكي عن انتشار قوة الصناعة، وسيادة النزعة الغربية، وانتشار رؤوس الأموال الأجنبية والتصنيع الغربي بشكل سريع مما نتج عنه حدوث عبودية في المجتمع الصيني وفوضي وفقر مدقع. وذلك في الحلقة المائة والثامنة والعشرين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

بداية عهد جديد..

يحكي الكتاب عن تدمير حضارة الصين القديمة واقتلاع جذورها: “كان كل شيء في الماضي يتغير ماعدا الشرق، أما الآن فليس شيء في الشرق لا يتغير، وأضحت أشد الأمم استمساكا بالقديم أكثرها تطرفاً بعد الروسيا، وأخذت تدمر عامدة عادات ونظماً كانت تعدها من قبل حرماً آمناً غير قابل للتعديل. فليس الأمر الآن مقصوراً على القضاء على أسرة حاكمة كما حدث في عام 1644م بل هو اقتلاع جذور حضارة قديمة.

وقد جرت العادة أن يكون آخر التغيير وأقله في القرية، لأن اعتدال القرية وبطء سيرها لا يشجعان على التجديد، والجيل الجديد نفسه لا بد له أن يزرع أولاً ثم يحصد ما زرعه فيما بعد. وأما الآن فإن سبعة آلاف ميل من الخطوط الحديدية تخترق الريف الصيني، وما تزال تربط القرى الشرقية بالمدن الساحلية وتحمل كل جديد من سلع الغرب إلى الملايين من بيوت الزراع، رغم ما أصابها من الدمار في خلال الفوضى وسوء الإدارة اللذين داما عشرات السنين، ورغم ما تحملته من الأعباء الباهظة بسبب حاجات الحرب ومطالبها الملحة.

ففي هذه القرى يرى السائح كثيراً من الواردات الأجنبية مثل الكيروسين، ومصابيح الكيروسين، وعيدان الثقاب، ولفافات التبغ، بل يرى فيها القمح الأمريكي نفسه. ولعل القارئ يظن أن وجود هذه البضائع والسلع في داخل البلاد أمر عادي غير جدير بالذكر؛ والحق أن صين -> الثورة والتجديد -> بداية عهد جديد

نقلها إليها من أصعب الأمور لأن البلاد لا تزال جد فقيرة في وسائل النقل، حتى أن نقل البضائع بين الأقاليم الداخلية والمقاطعات الساحلية يتطلب من النفقات أكثر مما يتطلبه نقلها إلى ثغور الصين من أستراليا أو الولايات المتحدة. ولقد تبين لأهل البلاد أن نمو الحضارة من الناحية الاقتصادية موقوف على سهولة سبل النقل ووسائل الاتصال. من أجل ذلك أنشئت طرق برية يبلغ طولها نحو عشرين ألف ميل تسير عليها ستة آلاف مركبة حافلة سيراً غير منتظم مملوءة على الدوام بالركاب. فإذا ما ارتبطت هذه القرى التي يخطئها الحصر بالسيارات السريعة فإن ذلك يحدث في الصين أعظم تغيير شهدته في تاريخها الطويل وهو القضاء حتى على القحط الذي طالما هددها وأفنى الكثيرين من أهلها.”

انتصار الأساليب الغربية..

وعن التغريب الذي أصاب المدن يكمل الكتاب: “هذا في القرى أما في الحواضر فإن انتصار الأساليب الغربية يسير بخطى أسرع وأيسر، فالحرف اليدوية أخذت في الزوال بتأثير منافسة السلع الرخيصة السهلة النقل المستوردة من خارج البلاد. وقد تعطل لهذا السبب آلاف من الصناع، ولكن المصانع الآلية التي أنشئت على طول السواحل بمعونة رؤوس الأموال الأجنبية والوطنية تبتلعهم ابتلاعاً سريعاً، وقد سكت صوت الأنوال اليدوية في المدن وإن كانت ما تزال تدور في الريف.

وغمر القطن والمنسوجات القطنية أسواق البلاد، وشيدت مصانع النسيج لتجعل من فقراء الصين عبيداً مسخرين للآلات، وأقيمت في هانجتشاو أفران لصهر المعادن لا تقل ضخامة وروعة عن مثيلاتها في البلاد الغربية، ووضعت مشروعات هائلة لإنشاء مخابز ومصانع لحفظ الطعام ولصنع الأسمنت والورق والصابون والشمع وتكرير السكر، وهي تعمل رويداً رويداً على تحويل العامل الصيني اليدوي إلى صانع ومشرف على الآلات. لكن الصناعات الجديدة يعوق نموها السريع تردد أصحاب رؤوس الأموال في أن يستثمروها في بلاد لا تنقطع فيها الثورات، ويلاقون فيها صعاباً جمة من جراء نقص وسائل النقل وكثرة نفقاتها وقلة المواد في داخل

البلاد، ومن جراء تمسك الصينيين بتلك العادات الجميلة عادة الولاء للأسرة قبل الولاء لكل ما عداها من الجماعات، والتي تجعل كل مكتب من مكاتب الموظفين وكل مصنع معششاً للأقارب والعاجزين عن أداء عمل من الأعمال.

والتجارة يعوقها فضلاً عن هذا ما يفرض عليها من الضرائب في داخل البلاد ومن الرسوم الجمركية والرشاوي وضروب الاغتصاب، وإن كانت مع ذلك تنمو أسرع من نمو الصناعة وتضطلع بدور خطير في تحول الصين الاقتصادي . ”

موت الحرف القديمة..

وعن اختفاء الحرف القديمة يتابع الكتاب: “وقد قضت الصناعات الجديدة على نقابات أرباب الحرف القديمة وأحدثت كثيراً من الاضطراب والفوضى بين العمال وأرباب الأعمال. ذلك أن هذه النقابات كانت تعيش بفضل ما تبذله من الجهود لتحديد أجور العمال وأثمان البضائع بالتوفيق بين الملاك والمنتجين الذين لم يكن لمنتجاتهم ما ينافسها في التجارة المحلية. فلما أن اتسع نطاق التجارة بزيادة وسائل النقل، وجاءت البضائع من البلاد البعيدة تنافس في جميع المدن بضائع النقابات المصنوعة باليد، تبين لها أن ليس في استطاعتها أن تشرف على الأسعار أو تحدد الأجور من غير أن تخضع في ذلك إلى أوامر المتنافسين الأجانب وإلى رؤوس الأموال الأجنبية.

ومن أجل هذا تفككت النقابات وتقسمت إلى غرف تجارية من جهة وإلى اتحادات للعمال من جهة أخرى. فالغرف تعنى بالنظام والولاء لأصحاب الأعمال وبالحرية الاقتصادية، والعمال يعنون بأجورهم المنخفضة التي تكاد تميتهم جوعاً. وقد كثر الإضراب والمقاطعة ولكن هذين قد أفلحا في إرغام أرباب الأعمال من الأجانب على التسليم للحكومة الصينية ببعض الامتيازات أكثر مما أفلحا في رفع أجور العمال.

وقد قررت مصلحة الشؤون الاجتماعية التابعة لبلدية شنغهاي الصينية متوسط الأجر الأسبوعي لعمال مصانع النسيج بين 1.73، 2.76 دولار للرجل، وما بين 1.10، 1.78 دولار للمرأة. وكان متوسط الأجور الأسبوعية للرجال في المطاحن والمصانع 1.96 دولار وفي مصانع الأسمنت 1.72 دولار، وفي مصانع الزجاج 1.84، وفي مصانع الكبريت 2.11؛ وكان متوسط أجر العمال المهرة في المصانع الكهربائية 3.10 وفي مصانع الآلات 3.24 وبين عمال المطابع 4.55”.

اتحادات العمال..

وعن اتحادات العمال يواصل الكتاب: “وما من شك في أن الزيادة الكبيرة في أجور عمال المطابع إنما ترجع إلى حسن تنظيمهم والى الصعوبة التي يعانيها أصحاب المطابع في استبدال غيرهم بهم إذا توقفوا عن العمل فجأة. وتألفت أولى اتحادات العمال في عام 1919م وزاد عددها وقوتها حتى طلبت في أيام برودين أن تتولى هي حكم الصين؛ ولكن جيانجكاي – شك كبح جماحها من غير رحمة بعد نزاعه مع الروسيا؛ وقد سنت لمقاومتها في هذه الأيام قوانين غاية في الصرامة، ولكن عددها مع ذلك آخذ في الازدياد بسرعة لأنها الملجأ الوحيد للعمال من عنت النظام الصناعي الذي لم يعمل حتى الآن أكثر من أن يبدأ بوضع التشريع الخاص بالعمال، ولم يبدأ قط في تنفيذه.

وإن ما يعانيه صعاليك المدن في هذه الأيام من فقر مدقع وكدح يدوم اثنتي عشرة ساعة في اليوم بأجور لا تكاد تمسك الروح بالجسم، يهددهم الموت جوعا إذا لم يجدوا عملاً في يوم من الأيام، إن ما يعانيه هؤلاء الصعاليك في هذه الأيام لأسوأ مما كان يعانيه فقراء القرى في الأيام الخالية حيث لم يكن يسمح للفقراء أن يروا الأغنياء، وحيث كانوا يرضون بما قسم لهم منذ الأزل. ”

جماح القوي الصناعية الجديدة..

وعن مساويء  القوي الصناعية الجديدة يفصل الكتاب: “ولعله كان من المستطاع تجنب هذه الشرور لو أن تبدل الأحوال في شرق الصين لم يتم بغير ما تم به من السرعة ولم يبلغ ما بلغه من الكمال. إذن لكان في مقدور كبار الموظفين الصينيين، وإن فقدوا ما كان لهم من حيوية وتلوثت أيديهم بالرشوة، أن يكبحوا جماح القوى الصناعية الجديدة حتى تتأهب الصين لقبولها من غير أن تقع في براثن الفوضى والعبودية؛ وإذن لنشأت من نمو الصناعة عاماً بعد عام طبقة جديدة من السكان لعلها كانت تستطيع أن تخطو بسلام إلى ميدان السلطة السياسية، كما خطا الصناع إليها في إنجلترا وحلوا محل كبار ملاّك الأراضي الزراعية.

ولكن الحكومة الجديدة ألفت نفسها بلا جيش، ولا زعماء مجربين، ولا مال؛ ووجد الكومنتانج، أي حزب الشعب الذي أنشئ لتحرير الأمة، أن بد له أن يقف موقف العاجز وهو يرى الأمة تخضع لرؤوس الأموال الأجنبية والوطنية. وكان هذا الحزب قد ولد في مهاد الديمقراطية ونشأ في أحضان الشيوعية، ثم أضحى جل اعتماده على مصارف شنغهاي المالية، فترك الديمقراطية وانحاز إلى الدكتاتورية وحاول أن يقضي على اتحاد الصناع .

ذلك الحزب يعتمد على الجيش، ولا بد للجيش من مال، والمال لا يأتي إلا من القروض؛ وإلى أن يكون للجيش من القوة ما يمكنه من إخضاع الصين فإن الحكومة ستظل عاجزة عن فرض الضرائب على الصين، وإلى أن تستطيع الحكومة فرض الضرائب على الصين ستظل تتلقى النصح والإرشاد من حيث تتلقى المال. على إنها مع هذا كله قد أنجزت الشيء الكثير، فقد أعادت إلى الصين إشرافها التام على التعريفة الجمركية وعلى صناعاتها  داخل نطاق قوة المال العالمية  وأنشأت ودربت وجهزت جيشاً قد يستخدم في يوم من الأيام لقتال غير الصينيين.

ووسعت رقعة الأقاليم التي تعترف بسلطة الحكومة، وقللت في هذه الرقعة من قوة قطاع الطرق الذين كانوا يجثمون على أنفاس الأمة ويكادون يقضون على حياتها الاقتصادية. وهي تسير في هذا سيراً بطيئاً لأن إشعال نار الثورة مستطاع في يوم وليلة ولكن إقامة حكومة ثابتة يحتاج إلى جيل.”

تفكك الصين..

وعن كيفية حدوث تفكك الصين يستأنف الكتاب: “وليس تفكك الصين وانفصام عرى وحدتها إلا مظهراً مما في النفس الصينية من انقسام ونتيجة لازمة له. إن أقوى ما في الصين من مشاعر في هذه الأيام هو شعور الكراهية للأجانب، وأقوى التيارات التي تجتاح الصين هو تيار محاكاة الأجانب. والصين تعرف أن الغرب لا يستحق أن تتملقه وتحاكيه؛ ولكن الصين يضطرها روح الأيام ودوافعها القوية إلى تملق الغرب ومحاكاته لأن الأمم في هذا العصر لابد لها أن تختار بين التصنيع والاسترقاق ولا ثالث لهما. ومن أجل هذا نرى الصينيين في المدن الشرقية يهجرون الحقول إلى المصانع، والثياب الفضفاضة إلى السراويل الضيقة، ونغمات الماضي البسيطة الشجية إلى موسيقى الغرب المعقدة، ويتخلون عن ذوقهم الجميل في الثياب والأثاث والفن، ويزينون جدرانهم بالصور الأوربية.

ويشيدون دور الحكومة ومكاتب الأعمال على أقبح الطرز الأمريكية. وقد تخلت نساء الصين عن عادة ضغط أقدامهن من الأمام إلى الخلف وأخذن يضغطنها من اليمين إلى اليسار على آخر طراز غربي، وأخذ فلاسفتها يتخلون عن مبادئ كنفوشيوس المعتدلة القنوعة الظريفة ويهرعون إلى مبادئ موسكو ولندن وبرلين وباريس ونيويورك الشرسة الخصيمة، ويتلقونها بنفس الحماسة التي كان الأوربيون يتلقون بها مبادئ النهضة في أواخر العصر الوسيط.

لقد ثلّ عرش كنفوشيوس وكان في الطريقة التي ثل بها شيء من سمات عصر النهضة وعصر الاستنارة ولقد كان نبذاً لأرسطو الصين والآلهة التي عبدها الشعب من أقدم الأزمنة. وأتى على الدولة حين من الدهر اضطهدت فيه البوذية وطوائف الرهبان في الأديرة، ذلك أن ثوار الصين كانوا كثوار فرنسا ملاحدة لا يخفون عن الناس إلحادهم، ويجهرون بعدائهم للدين، ولا يعبدون غير      العقل. ولعل الكنفوشية كانت تترك الناس أحراراً في عقائدهم الدينية لأنها تفترض أن الآلهة ستبقى ما بقي الفقر.

أما الثورة فكانت تظن أن في وسعها أن تقضى على الفقر ولذلك لم تر حاجة إلى الآلهة؛ وكانت الكنفوشية ترى أن الزراعة والأسرة هما نظام الحياة العملية والاجتماعية الطبيعية ولذلك شادت صرحاً للأخلاق يهدف إلى حفظ النظام وإشاعة القناعة في نطاق دائرة البيت والحقل، أما الثورة فوجهتها الصناعة وهي في حاجة إلى أخلاق جديدة تتفق مع الحياة الفردية في الحواضر. وقد بقيت الكنفوشية لأن الوصول إلى المناصب السياسية والمهن العلمية كان يتطلب معرفة مبادئها والآخذ بها، أما الآن فنظام الامتحانات قد انقضى عهده وحلت العلوم الطبيعية في المدارس محل الفلسفة الأخلاقية والسياسية، وأضحى الرجل لا يصاغ للحكم بل يصاغ للصناعة.

وكانت الكنفوشية محافظة تكبح بحذر الشيوخ مُثُل الشباب العليا؛ أما الثورة فروحها من أنفاس الشباب ولا تقبل أن يفرض عليها شيء من هذه القيود، وهي تسخر من الشيوخ إذا رفعوا عقيرتهم محذرين: “إن الذين يظنون أن الجسور القديمة عديمة النفع ويحطمونها تحطيماً سيصيبهم الدمار ويغرقهم تيار المياه الجارف” “.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب