19 نوفمبر، 2024 1:22 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (122): الإمبراطور الصيني ابن السماء وكانت تتم مراقبة أفعاله

قصة الحضارة (122): الإمبراطور الصيني ابن السماء وكانت تتم مراقبة أفعاله

خاص: قراءة- سماح عادل

يحكي الكتاب عن نظام الحكم الصيني، وكيف أنه غلب عليه الحكم الذاتي، وحافظ علي تماسك الدولة ميل الفرد الصيني إلي الانتماء إلي الجماعة والالتزام بقواعدها. وذلك في الحلقة المائة والثاني والعشرين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

الحكومة الصينية..

ينتقل الكتاب للحكي عن نظام الحكم في الحضارة الصينية: “أكثر ما يروعنا في هذه الحضارة هو نظام حكومتها. وإذا كانت الدولة المثالية هي التي تجمع بين الديمقراطية والأرستقراطية فإن الصينيين قد أنشأوا هذه الدولة منذ ألف عام أو تزيد؛ وإذا كانت خير الحكومات هي أقلها حكما، فقد كانت حكومة الصين خير حكومات العالم على الإطلاق. ولم يشهد التاريخ قط حكومة كان لها رعايا أكثر من رعايا الحكومة الصينية أو كانت في حكمها أطول عهدا وأقل سيطرة من تلك الحكومة.

ولسنا نقصد بهذا أن الفردية أو الحرية الفردية كان لها شأن عظيم في بلاد الصين؛ ذلك أن فكرة الفردية كانت ضعيفة في تلك البلاد وأن الفرد كان مغمورا في الجماعات التي ينتمي إليها. فقد كان أولا عضوا من أعضاء أسرة، ووحدة عابرة في موكب الحياة بين أسلافه وأخلافه؛ وكانت القوانين والعادات تحمله تبعة أعمال غيره من أفراد أسرته كما يحملون هم تبعة أعماله؛ وكان فضلا عن هذا ينتمي عادة على جمعية سرية، وإذا كان من سكان الحواضر فانه ينتمي إلى نقابة من نقابات الحرف.

وهذه كلها أمور تحد من حقه في أن يفعل ما يشاء. وكان يحيط به فضلا عن هذا طائفة من العادات القديمة ويهدده رأي عام قوي بالطرد من البلاد إذا خرج على أخلاق الجماعة أو تقاليدها خروجا خطيرا. وكانت قوة هذه النظم الشعبية التي نشأت بطبيعتها من حاجات الناس وتعاونهم الاختياري هي التي مكنت الصين من أن تحتفظ بنظامها واستقرارها رغم ما يشوب القانون والدولة من لين وضعف”.

حكم ذاتي..

ويصف الكتاب نظام حكمهم بأنه حكم ذاتي: “ولكن الصينيين ظلوا أحرارا من الناحيتين السياسية والاقتصادية في داخل هذا الإطار من نظم الحكم الذاتي التي أقاموها بأنفسهم لأنفسهم.

لقد كانت المسافات الشاسعة التي تفصل كل مدينة عن الأخرى وتفصل المدن كلها عن عاصمة الإمبراطورية، والجبال الشامخة والصحاري الواسعة والمجاري التي تتعذر فيها الملاحة أو لا تقوم عليها القناطر، وانعدام وسائل النقل والاتصال السريع وصعوبة تموين جيش كبير يكفي لفرض سلطان الحكومات المركزية على شعب تبلغ عدته أربعمائة مليون من الأنفس كانت هذه كلها عوامل تضطر الدولة لأن تترك لكل إقليم من أقاليمها استقلالا ذاتيا يكاد أن يكون كاملا من كل الوجوه.

وكانت وحدة الإدارة المحلية هي القرية يحكمها حكما متراخيا رؤساء العشائر بإشراف “زعيم” منهم ترشحه الحكومة. وكانت كل طائفة من القرى مجتمعة حول بلدة كبيرة تؤلف “بينا” أي مقاطعة بلغت عدتها في الصين نحو ألف وثلاثمائة. ويتألف من كل بينين أو أكثر تحكمهما معا مدينة “فو”، ومن كل فوين أو ثلاثة “داو” أي دائرة، ومن كل داوين أو أكثر “شنج” أي إقليم. وكانت الإمبراطورية في عهد المنشو تتألف من ثمانية عشر من هذه الأقاليم. وكانت الدولة تعين من قبلها موظفا في كل بين يدير شئونه، ويجبى ضرائبه، ويفصل في قضاياه، وتعين موظفا آخر في كل فو وآخر في كل داو؛ كما تعين قاضيا، وخازنا لبيت المال، وحاكما، ونائبا للإمبراطور أحيانا في كل إقليم.

ولكن هؤلاء الموظفين كانوا يقنعون أحيانا بجباية الضرائب والفروض الأخرى والفصل في المنازعات التي يعجز المحكمون عن تسويتها بالحسنى، ويتركون حفظ النظام لسلطان العادة وللأسرة والعشيرة والنقابة الطائفية. وكان كل إقليم ولاية شبه مستقلة لا تتدخل الحكومة الإمبراطورية في أعمالها، ولا تفرض عليها شرائعها طالما كانت تدفع حصتها من الضرائب وتحافظ على الأمن والنظام في داخل حدودها. وكان انعدام وسائل الاتصال السهلة مما جعل الحكومة المركزية فكرة معنوية أكثر منها حقيقة واقعية. ومما جعل عواطف الأهلين الوطنية تنصرف في دوائرهم وأقاليمهم، ولا تتسع إلا في القليل النادر حتى تشمل الإمبراطورية بوجه عام”.

ضعف القانون..

وعن ضعف القانون يواصل الكتاب: “وفي هذا البناء غير المحكم كان القانون ضعيفا، بغيضا، متباينا. وكان الناس يفضلون أن تحكمهم عاداتهم وتقاليدهم، وأن يسووا نزاعهم بالتراضي خارج دور القضاء. وكانوا يعبرون عن آرائهم في التقاضي بمثل هذه الحكم والأمثال القصيرة القوية: “قاض برغوثا يعضك” و”اكسب قضيتك تخسر مالك”. وكانت تمر سنين على كثير من المدن التي تبلغ عدة أهلها آلافاً مؤلفة لا ترفع فيها قضية واحدة إلى المحاكم وكانت قوانين البلاد قد جمعت في عهد أباطرة تانج ولكنها كلها اقتصرت تقريبا على الجرائم ولم تبذل محاولات جدية لوضع قانون مدني.

وكانت المحاكمات بسيطة سهلة لأن المحامي لم يكن يسمح له بمناقشة الخصم داخل المحكمة، وإن كان في استطاعة كتاب مرخصين من الدولة أن يعدوا في بعض الأحيان تقارير بالنيابة عن المتقاضين ويتلوها على القاضي. ولم يكن هناك نظام للمحلفين، ولم يكن في نصوص القوانين ما يحمي الفرد من أن يقبض عليه موظفو الدولة على حين غفلة ويعتقلوه. وكانت تؤخذ بصمات أصابع المتهمين، ويلجأ أحيانا إلى تعذيبهم لكي يقروا بجرائمهم، ولم يكن هذا التعذيب الجسمي ليزيد إلا قليلا على ما يتبع الآن لهذا الغرض عينه في أكثر المدن رقيا.

وكان العقاب صارما، وإن لم يكن أشّد وحشية مما كان في معظم بلاد القارة الآسيوية؛ وكان أوله قص الشعر ويليه الضرب ثم النفي من البلاد ثم الإعدام. وإذا كان المتهم ذا فضائل غير معهودة أو كان من طبقة راقية سمح له أن ينتحر. وكانت العقوبات تخفف أحيانا تخفيفا كريما، وكان حكم الإعدام لا يصدر في الأوقات العادية إلا من الإمبراطور نفسه.

وكان الناس جميعا من الناحية النظرية سواسية أمام القانون، شأنهم في هذا كشأننا نحن في هذه الأيام. ولكن هذه القوانين لم تمنع السطو في الطرق العامة أو الارتشاء في وظائف الدولة ودور القضاء، غير أنها كان لها قسط متواضع في معاونة الأسرة والعادات الموروثة في أن تهب الصين درجة من النظام الاجتماعي والأمن والاطمئنان الشخصي لم تضارعها فيها أمة أخرى قبل القرن العشرين”.

ابن السماء..

وعن مكانة الإمبراطور في الحضارة الصينية يوضح الكتاب: “وكان الإمبراطور يشرف على هذه الملايين الكثيرة من فوق عرشه المزعزع. وكان يحكم من الوجهة النظرية بحقه المقدس فقد كان هو “ابن السماء” وممثل الكائن الأعلى في هذه الأرض. وبفضل سلطانه الإلهي هذا كانت له السيطرة على الفصول وكان يأمر الناس أن يوفقوا بين أعمالهم وبين النظام السماوي المسيطر على العالم، وكانت كلمته هي القانون وأحكامه هي القضاء الذي لا مرد له.

وكان المدبر لشؤون الدولة ورئيس ديانتها، يعين جميع موظفيها ويمتحن المتسابقين لأعلى مناصبها ويختار من يخلفه على العرش. لكن سلطانه كان يحده من الوجهة العملية القانون والعادات المرعية، فكان ينتظر منه أن يحكم من غير أن يخرج على النظم التي انحدرت من الماضي المقدس. وكان معرضا في أي وقت لأن يعزَّر على يد رجل ذي مقام كبير يسمى بالرقيب وكان في واقع الأمر محوطاً بحلقة قوية من المستشارين والمبعوثين من مصلحته أن يعمل بمشورتهم، وإذا ظلم أو فسد حكمه خسر بحكم العادات المرعية وباتفاق أهل الدولة “تفويض السماء”، وأمكن خلعه بالقوة من غير أن يعد ذلك خروجا على الدين أو الأخلاق”.

الرقيب..

وعن وجود رقيب علي الإمبراطور يتابع الكتاب: “وكان الرقيب رئيس مجلس مهمته التفتيش على جميع الموظفين في أثناء قيامهم بواجباتهم، ولم يكن الإمبراطور نفسه بمنجاة من إشرافه. وقد حدث مرارا في تاريخ الصين أن عزر الرقيب الإمبراطور نفسه. من ذلك أن الرقيب سونج أشار على الإمبراطور جياه تشنج (1196-1821)، بالاحترام اللائق بمقامه العظيم طبعا، أن يراعى جانب الاعتدال في صلاته بالممثلين وبتعاطي المسكرات.

فما كان من جياه تشنج إلا أن استدعى سونج للمثول أمامه، وسأله وهو غاضب أي عقاب يليق أن يوقع على من كان موظفا وقحا مثله، فأجابه سونج: “الموت بتقطيع جسمه إرباً”. ولما أمره الإمبراطور باختيار عقاب أخف من هذا أجابه بقوله “إذن فليقطع رأسي” فطلب إليه مرة أخرى أن يختار عقابا أخف فاختار أن يقتل خنقا. وأعجب الإمبراطور بشجاعته وخشي وجوده بالقرب منه فعينه حاكما على إقليم إيلي”.

الحكومة المركزية..

وعن الحكومة المركزية يضيف الكتاب: “وأضحت الحكومة المركزية على مر الزمن أداة إدارية شديدة التعقيد. وكان أقرب الهيئات إلى العرش المجلس الأعلى، ويتكون من أربعة “وزراء كبار” يرأسهم في العادة أمير من أمراء الأسرة المالكة. وكان يجتمع بحكم العادة في كل يوم في ساعات الصباح المبكرة لينظر في شؤون الدولة السياسية. وكان يعلو عنه في المنزلة، ولكن يقل عنه في السلطان، هيئة أخرى من المستشارين يسمون “بالديوان الداخلي”. وكان يشرف على الأعمال الإدارية “ستة مجالس” للشؤون المدنية، والدخل، والاحتفالات، والحرب، والعقوبات، والأشغال العامة؛ وكان ثمة إدارة للمستعمرات تصرف شؤون الأقاليم النائية مثل منغوليا، وسنكيانج والتبت.

ولكنها لم تكن لها إدارة للشؤون الخارجية لأن الصين لم تكن تعترف بأن في العالم دولة مساوية لها، ومن أجل ذلك لم تنشئ في بلادها للاتصال بها غير ما وضعته من النظم لاستقبال البعوث التي تحمل لها الخراج.

وكان أكبر أسباب ضعف الحكومة قلة مواردها وضعف وسائل الدفاع عن أراضيها ورفضها كل اتصال بالعالم الخارجي يعود عليها بالنفع. لقد فرضت الضرائب على أراضيها، واحتكرت بيع الملح، وعطلت نماء التجارة بما فرضته بعد عام 1821 من عوائد على انتقال البضائع على طرق البلاد الرئيسية، ولكن فقر السكان، وما كانت تعانيه من الصعاب في جباية الضرائب والمكوس، وما يتصف به الجباة من الخيانة، كل هذا قد ترك خزانة الدولة عاجزة عن الوفاء بحاجات القوى البحرية والبرية التي كان في وسعها لولا هذا العجز أن تنقذ البلاد من مذلة الغزو والهزيمة.

ولعل أهم أسباب هزائمها هو فساد موظفي حكومتها؛ وذلك أن ما كان يتصف به موظفوها من جدارة وأمانة قد ضعف في خلال القرن التاسع عشر فأضحت البلاد تعوزها الزعامة الرشيدة في الوقت الذي كانت فيه نصف ثروة العالم ونصف قواه يتجمعان لسل استقلالها وانتهاب مواردها والقضاء على أنظمتها”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة