خاص: قراءة- سماح عادل
انتقل الكتاب للحديث عن الزراعة في الحضارة الصينية القديمة وكيف كانت طرقها وانواع المحاصيل وأحوال الفلاحين المعيشية. وذلك في الحلقة المائة وسبعة عشرة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الزراعة في الصين..
يحكي الكتاب عن الزراعة في ظل الحضارة الصينية القديمة: “لقد كان خصب التربة هو الدعامة التي يقوم عليها آخر الأمر كل ما حوته تلك اللغة من آداب، وكل ما اشتمل عليه التفكير الصيني من دقة وعمق، وكل ما انطوت عليه الحياة الصينية من نعيم وترف. لقد كانت هذه الدعامة هي جهود الصينيين أنفسهم، لأن التربة الخصبة لا تخلق خلقاً بل تنشأ إنشاء. وما من شك في أن سكان الصين الأولين قد ظلوا قروناً طوالاً يكافحون الأدغال والغابات، والوحوش والحشرات، والجفاف والفيضان، وأملاح التربة والصقيع، حتى استطاعوا في آخر الأمر أن يحولوا تلك البراري الشاسعة الموحشة إلى حقول خصبة مثمرة، وكان لابد لهم أن يعودوا حيناً بعد حين إلى خوض هذه المعارك لكي يحتفظوا بما نالوا من نصر، فإذا ما استمروا يقطعون أشجار الغابات مائة عام مثلاً استحالت الأرض صحراء مجدبة، وإذا أهملوا تقطيعها بضع سنين استحالت حراجاً وغابات كثيفة.
ولقد كان هذا الكفاح كفاحاً مريراُ ينطوي على أخطار جسيمة، وكان يزيد من مرارته أن البلاد كانت معرضة لهجمات البرابرة واستيلائهم على محصولات الأرض المستصلحة، ومن أجل هذا كان الزراع يتقون هذه الإغارة بأن يعيشوا في جماعات صغيرة لا في منازل متفرقة متباعدة، وكانوا ينشئون حول قراهم أسواراً ويخرجون لزرع الأرض مجتمعين، وكثيراً ما كانوا يقضون الليل ساهرين يحرسون الحقول “.
المحاريث..
ويفصل الكتاب عن طرق الزراعة: “وكانت طرق الزراعة عندهم ساذجة وإن كانت لا تختلف كثيراً عن طرق الزراعة في هذه الأيام. وكانوا في بعض الأحيان يفلحون الأرض بالمحاريث، وقد اتخذوها أولاً من الأخشاب ثم من الحجارة واتخذوها بعدئذ من الحديد، ولكنهم كانوا في أكثر الأحيان يقلبون ما يمتلكون من قطع الأرض الصغيرة بالفأس يكدحون بها صابرين. وكانوا يستعينون على إخصاب التربة بكل ما يجدونه من المخصبات الطبيعية ولا يستنكفون أن يجمعوا لهذا الغرض فضلات الكلاب والآدميين.
ولقد احتفروا من أقدم الأزمنة قنوات يجرون فيها مياه أنهارهم المثيرة إلى مزارع الأرز أو حقول الذرة، فشقوا ترعاً عميقة يبلغ طولها عدة أميال في الصخور الصماء ليصلوا بها إلى مجرى مائي بعيد أو يحولوا مجراه حتى يصل إلى سهل جاف، واستطاع الصينيون دون الاستعانة بالدورة الزراعية أو المخصبات الصناعية، ومن غير حيوانات الجر في كثير من الأحيان أن يزرعوا نصف أرضهم على الأقل زرعتين أو ثلاث زرعات في العام، وأن يستخرجوا منها من أنواع الغذاء أكثر مما استخرجه أي شعب آخر في التاريخ”.
الحبوب..
وعن أنواع الحبوب يكمل الكتاب: “وكانت أهم الحبوب التي زرعوها هي الأرز والذرة ويليها في الأهمية القمح والشعير. وكانوا يتخذون من الأرز غداء وخمراً، ولكن الفلاح لم يدمن هذا الشراب في يوم من الأيام. أما شرابه المحبب إليه ومحصوله الذي يلي الأرز في أهميته فهو الشاي. وكان استعماله في مبدأ الأمر مقصوراً على التداوي ثم زاد انتشاراً حتى صار في عهد أسرة تانج من المحصولات التي تصدر إلى خارج البلاد، والتي يتغنى بها الشعراء في أشعارهم. ولم يحل القرن الخامس عشر حتى كانت جميع بلاد الشرق الأقصى مغرمة بشرب الشاي تتغنى بمديحه، وحتى أخذ المولعون به يعملون لاستنبات أنواع جديدة منه ويعقدون مجالس الشراب للحكم على خير ما يقدم منها للحاضرين.
وكان من محصولاتهم الأخرى الخضر اللذيذة والمغذية كفول الصويا، والتوابل المقوية كالثوم والبصل، وعشرات المئات من أنواع الفاكهة؛ وكانت اللحوم أقل المنتجات الريفية شأناً؛ وكانت الثيران والجاموس تستخدم أحياناً في حرث الأرض، أما تربية الماشية للانتفاع بلحومها فكانت مقصورة على الخنازير والدجاج، وكانت طائفة كبيرة من السكان تتخذ غذاءها من سمك البحر والمجاري المائية العذبة.
وكان أهم ما تتغذى به الطبقات الفقيرة هو الأرز الجاف والمكرونة والشعرية وقليل من الخضر والسمك. أما الطبقات الوسطى فكانت تضيف إلى هذا لحم الخنازير والدجاج وتضيف إليه الغنية لحم البط، وكانت أرقى المآدب التي تقام في بيكين تحتوي على مائة صنف من أصناف البط. وكان لبن البقر نادراً وكذلك كان البيض قليلاً وقلما كان يؤكل طازجاً. غير أن فول الصويا كان يمد الأهلين باللبن الصالح والجبن”.
الطهي..
وعن فن الطهي يتابع الكتاب: “وقد تطور فن الطهي في الصين حتى أصبح من الفنون الجميلة، وكان يستخدم فيه كل منتجات الأرض والماء وطيور الهواء، فكانت الحشائش والأعشاب البحرية تقتلع من الأرض وأعشاش الطير، تنتهب لتعمل منها أنواع الحساء اللذيذ، وكانت أطعمة لذيذة تتخذ من زعانف كلب البحر وأمعاء السمك والجراد والجنادب وصغار الديدان ودود القز ولحم الخيل والبغال والجرذان وثعابين الماء والقطط والكلاب. وكان الصينيون يحبون لذيذ المأكل ولم يكن من غير المألوف أن تشتمل مائدة الرجل الغني على أربعين صنفاً وأن يظل القوم حول موائد الطعام ثلاث ساعات أو أربعاً يأكلون فيها ويشربون.
أما الرجل الفقير فلم يكن يصرف هذا الوقت كله في طعامه الذي كان يتناول منه وجبتين في اليوم”.
الفقر..
وعن الفقر يحكي الكتاب: “ولم يكن الفلاح رغم كدحه المتواصل بمنجاة من الجوع طيلة أيام حياته إذا استثنينا بعض الحالات في مختلف الأقاليم والأوقات. وكان في وسع الأقوياء الماهرين منهم أن يستحوذوا على ضياع واسعة وأن يركزوا ثروة البلاد في أيد قليلة. وكان يحدث في بعض الأحيان، كما حدث في أيام الإمبراطور شي هوانج – دي، أن يعاد توزيع الأرض على السكان، غير أن ما بين الناس من فروق طبيعية سرعان ما كان يؤدي إلى تركيز الثروة مرة أخرى.
وكان معظم الزراع من ملاك الأراضي، ولكن متوسط ما كان يملكه الفرد أخذ يتضاءل في كل قرن عن الذي قبله نظراً لتزايد عدد السكان أسرع من ازدياد مساحة الأرض الصالحة للزراعة. فكانت نتيجة هذا هي الفقر الذي لا مثيل له إلا في أفقر أقاليم الهند! فقد كان دخل الأسرة المتوسطة لا يزيد على 83 ريالاً أمريكياً، وكان كثيرون من الأفراد يعيشون بما يعادل 1 علي 50 من الريال في اليوم كما كان الملايين منهم يموتون من الجوع في كل عام. وقد ظلت الصين عشرين قرناً كاملاً تعاني القحط بمعدل مرة في كل عام، ويرجع بعض السبب في هذا إلى أن الفلاح كان يُستغل أسوأ الاستغلال ولا ينال من الطعام إلا ما يمسك الرمق، ويرجع بعضه إلى ازدياد المواليد أسرع من تحسين الإنتاج الزراعي واتساع مساحة الأرض المنزرعة.
كما يرجع بعضه الآخر إلى سوء سبل الاتصال والنقل إلى حد يجعل السكان في بعض الأقاليم يهلكون من الجوع بينما الطعام في البعض الآخر يزيد على حاجة الأهلين. وآخر ما نذكره من هذه الأسباب أن الفيضان كان في بعض الأحيان يتلف ما يتركه المالك والجابي للزراع، فكثيراً ما كان نهر هوانج – هو، الذي يسميه الناس “حزن الصين”، يغير مجراه ويغرق ألفاً من القرى ويترك ألفاً أخرى صادية. وكان الفلاحون يصبرون على هذه الكوارث ويتجرعون غصصها، ومن أمثالهم المأثورة: “كل ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة الفانية هو قبعة وحفنة من الأرز”.
العمل..
وعن كيفية العمل في الزراعة يضيف الكتاب: “وكانوا يكدحون ولكنهم لا يسرعون في عملهم، فلم تكن ثمة آلة معقدة تدفعهم إلى العمل سراعاً أو تنهك أعصابهم بضجيجها وخطرها وسرعتها. ولم يكن لهم أيام راحة في آخر الأسبوع ولا أيام آحاد، ولكن كانت لهم أيام إجازات وأعياد كعيد رأس السنة وعيد الفوانيس تتيح للعامل فرصة يستريح فيه من عناء كدحه ويخفف فيها بالمسرحيات والأساطير ما في سائر فصول السنة من اكتئاب. فإذا ما ولى الشتاء بزمهريره ووجهه الكالح ولانت تربة الأرض بما سقط عليها من مطر الربيع بعد أن ذاب ما تراكم عليها من ثلج الشتاء، خرج الفلاحون مرة أخرى ليزرعوا حقولهم الضيقة، ويغنوا في مرح وحب أغاني الأمل التي انحدرت إليهم من ماضيهم السحيق”.