خاص: قراءة- سماح عادل
يحكي الكتاب عن فن الخزف الصيني القديم وكيف تفوق فيه الصينيون وأصبح علامة مميزة علي احترافهم وإتقانهم، وكيف تهدم بعد سنوات طويلة بفعل فتنة كبرى. وذلك في الحلقة المائة وخمسة عشرة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الخزف الصيني..
يحكي الكتاب عن فن الخزف: “إذا أخذنا نتحدث عن الفن الذي تمتاز به الصين عن سائر الأمم، والذي لا يجادل أحد في أنها هي حاملة لوائه في العالم كله، وجدنا في أنفسنا نزعة قوية إلى اعتبار الخزف صناعة من الصناعات. ولما كانت كلمة “الصيني” إذا وردت على لساننا ارتبطت في عقولنا بالمطبخ وأدواته. فإننا إذا ذكرنا الفاخورة تمثلنا من فورنا المكان الذي يصنع فيه “الصيني”، وظننا هذا المكان مصنعاً ككل المصانع لا تثير منتجاته في النفس روابط عليا سامية. أما الصينيون فقد كانت صناعة الخزف عندهم فناً من الفنون الكبرى، تبتهج له نفوسهم العملية المولعة مع ذلك بالجمال، يجمع بين النفع وبهاء المنظر.
فلقد أمدهم هذا الفن بآنية يستخدمونها في شرابهم القومي الشهير شراب الشاي جميلة في ملمسها ومنظرها، وازدانت منازلهم بأشكال بلغت كلها من الجمال حدا تستطيع معه أفقر الأسر أن تعيش في صحبة نوع من أنواع الكمال، لقد كان فن الخزف هو فن النحت عند الصينيين.
ولفظ الفخار يطلق أولاً على الصناعة التي تحيل الطين بعد حرقه إلى أدوات صالحة للاستعمال المنزلي، ويطلق كذلك على الفن الذي يجمل هذه الأدوات، وعلى الأدوات التي تنتجها هذه الصناعة؛ والخزف هو الفخار المزجج أي أنه هو الطين الممزوج بالمعادن والذي إذا عرض للنار ساح واستحال إلى مادة نصف شفافة شبيهة بالزجاج . وقد صنع الصينيون الخزف من مادتين الكولين- وهو طين أبيض نقي مكون من فتات الفلسبار والحجر الأعبل الجرانيت، ومن البي- تن- دزي وهو كوارتز أبيض قابل للانصهار، هو الذي يكسب الأواني الخزفية ما فيها من الشفافية. وتسحق هذه المواد كلها وتخلط بالماء فتتكون منها عجينة تشكل باليد أو على عجلة، ثم تعرض لدرجة حرارة مرتفعة تصهر العجينة وتحيلها إلى مادة زجاجية براقة صلبة.
وكان يحدث في بعض الأحيان ألا يقنع الخزاف بهذا النوع الأبيض البسيط، فكان يغطي “العجينة” أي الإناء قبل حرقه بطبقة من مسحوق الزجاج، ثم يحرق في أتون. وكان في بعض الأحيان يضع هذه الطبقة الزجاجية على العجينة بعد حرقها قليلاً ثم يعيد حرق الإناء بعدئذ. وكانت الطبقة الزجاجية تلون في أغلب الأحيان، ولكن العجينة كثيراً ما كانت تنقش وتلون قبل أن تضاف اليها المادة الزجاجية الشفافة أو تلون الطبقة الزجاجية بعد حرقها ثم تثبت عليها بحرقها مرة ثانية. أما الميناء فقد كانت تصنع من الزجاج الملون يدق ويسحق ثم يحول إلى مادة سائلة يضعها الرسام على الآنية بفرشاته الرفيعة.
وكان من الصينيين اخصائيون قضوا حياتهم في التدريب على عملهم؛ تخصص بعضهم في رسم المناظر الطبيعية، وغيرهم في رسم القديسين والحكماء المنقطعين للتأمل والتفكير بين الجبال، او الذين يمتطون ظهور حيوانات غريبة فوق امواج البحار” .
قدم العصر الحجري..
وعن بداية الصناعة يضيف: “وصناعة الفخار عند الصينيين قديمة العهد قدم العصر الحجري، فقد عثر الأستاذ اندرسن على أواني من الفخار في هونان وكانسو “لا يمكن أن تكون أحدث عهداً من عام 3000 ق. م”. وأن ما تتصف به تلك المزهريات من جمال فائق في الشكل وفي الصقل ليدل دلالة قاطعة على أن هذه الصناعة قد أصبحت فناً من الفنون الجميلة قبل ذلك العهد بزمن طويل. وبعض القطع التي عثر عليها شبيهة بفخار أنو، وتوحى بأن الحضارة الصينية مأخوذة عن حضارة البلاد الواقعة في غربها. وهناك قطع من الأواني الفخارية الجنازية كشفت في هونان وتعزى إلى عهد اضمحلال أسرة شانج ولكنها أحد كثيراً من بقايا العصر الحجري الحديث السالفة الذكر.
ولم يعثر المنقبون بعد عذر هذه الأسرة على بقايا من الفخار ذات فنية قبل أيام أسرة هان، ففي عهد هذه الأسرة عثروا على فخار وعثروا فوق ذلك على أول إناء من الزجاج عرف في الشرق الأقصى، وكان انتشار عادة شرب الشاي في عهد أباطرة تانج باعثاً قوياً على تقدم فن الخزف. وقد كشفت العبقرية، أو المصادفة المحضة، حوالي القرن التاسع أن من المستطاع صنع إناء مزجج لا من سطحه الخارجي فحسب كالآنية المصنوعة في عهد أسرة هان وفي حضارات غير حضارة الصين قبل ذلك العهد، بل زجاجي كله من أوله إلى آخره أي من خزف حقيقي.
وقد كتب أحد الرحالة المسلمين المدعو سليمان إلى بني وطنه يقول: “أن في الصين طيناً رقيقاً جميلاً يصنعون منه أواني شفافة كالزجاج يُرى من جدرانها ما في داخلها من الماء”. وقد كشفت أعمال التنقيب الحديثة في موضع إحدى المدن القديمة عند سر من رأى على نهر دجلة قطعاً من الخزف من صنع الصين. وظهر الخزف بعدئذ في السجلات خارج بلاد الصين حوالي عام 1171 م حين أهدى صلاح الدين إلى سلطان دمشق إحدى وأربعين قطعة من الخزف.
ليس ثمة شاهد على أن صناعة الخزف قد بدأت في أوربا عام 1470 ، فقد ذكر في ذلك العام على أنه فن جميل أخذه البنادقة عن العرب في أثناء الحروب الصليبية”.
ذروة الازدهار..
ويتابع عن الازدهار لهذا الفن: “وكان عهد أسرة سونج هو العهد الذي بلغ فيه فن الخزف الصيني ذروة مجده. وخبراء هذا الفن يعزون إلى هذا العهد أقدم ما لدينا من الآنية الصينية وأحسنها، بل ان صناع الخزف في عهد أسرة منج، وهم الذين جاءوا بعد هذا العصر ونبغ فيه بعضهم نبوغ فنانيه، حتى هؤلاء كانوا إذا ذكروا خزف أسرة سونج ذكروه بالإجلال والإكبار، وكان جامعوا العاديات الصينية يحتفظون بما يعثرون عليه من خزف هذه الأسرة ويعدونه من الكنوز التي لا تقوم بمال. وأنشئت في القرن السادس الميلادي مصانع عظيمة في جنج ده- جن حيث توجد الرواسب الغنية من المعادن التي تستخدم في صنع الفخار وتلوينه واعترف البلاد الامبراطوري بهذه المصانع رسمياً، وبدأت تغمر الصين بفيض من الصحاف الخزفية والأقداح والجفان والمزهريات والطاسات والأباريق والقنينات والجرار والصناديق ورقع الشطرنج والماثلات والخرائط.
وحتى مشاجب القبعات كانت تصنع من الخزف المطلى بالميناء والمرصع بالذهب؛ وظهرت في ذلك الوقت لأول مرة القطع ذات اللون الاخضر اليشبي المعروفة بالسلادون والتي أصبحت محاكاتها أهم مايصبو إليه الفخراني في الوقت الحاضر، كما أصبح اقتناؤها أهم ما يصبو إليه جامع التحف.
وقد أرسل سلطان مصر في 1487 نماذج منها إلى لورنزو ده مديشي، وكان الفرس والأتراك يقدرونها لا لنعومة ملمسها وشدة بريقها فحسب، بل لأنها فوق هذا تكشف عن وجود السم، فقد كانوا يعتقدون أن تلك الآنية يتغير لونها اذا وضعت فيها مواد مسمومة. وترى أسر الخبيرين المولعين بهذا الفن يتوارثون هذه القطع جيلا بعد جيل؛ ويحتفظون بها احتفاظ الناس بأثمن الكنوز”.
ثلاثمائة عام..
وعن استمرار هذا الفن يكمل الكتاب: “ولقد ظل الصناع في عهد أسرة منج نحو ثلاثمائة عام يبذلون أقصى ما يستطيعون من جهود ليحتفظوا بفن الخزف في المستوى الرفيع الذي بلغه في عهد أسرة سونج، وليس في مقدورنا أن نقول أنهم عجزوا عن بلوغ هذه الغاية. وكان في جنج ده- جن خمسمائة أتون لحرق الخزف، وكان البلاط الامبراطوري وحده يستخدم 96000 قطعة خزفية لتزيين حدائق القصور وموائدها وحجراتها. وظهرت في أيام هذه الأسرة أول قطع جيدة من الميناء التي حرقت ألوانها بعد تزجيجها. وأتقن صنع اللون الأصفر الواحد؛ والخزف الأزرق والأبيض الذي يشبه في رقته قشر البيض، إلى أقصى حدود الاتقان ومايزال القدح الأزرق والأبيض المطعم بالفضة والمسمى باسم الامبراطور واندلي اوشن دزونج يعد من آيات فن الخزف في العالم كله إلى هذه الأيام”.
هاوشي- جي..
وعن واحد من أبرز الخزافين: “وكان هاوشي- جي من أبرع صناع الخزف وأعظمهم خبرة في أيام واندلي. وكان في مقدوره أن يصنع اقداحاً للنبيذ لايزيد وزن الواحد منها على جزء من ثمانية وأربعين جزءاً من الأوقية، ويروى أحد المؤرخين الصينيين أن هاوشي- جي زار في يوم من الأيام بيت موظف كبير، واستأذنه في أن يفحص عن وعاء من الخزف ذي ثلاث أرجل يمتلكه هذا الكبير ويعد من أثمن ما صنع في عهد أسرة سونج.
وأخذ هاو يلمس الاناء بيديه برقة ولطف، وهو ينقل ما عليه من الرسوم سرا على قطعة من الورق مخبأة في كمه. ثم عاد لزيارة هذا الموظف بعد ستة أشهر من زيارته الأولى، وقال له: “إنك يا صاحب السعادة تمتلك مبخرة ذات ثلاث أرجل من الدنج- ياو الأبيض، وها هي ذي مبخرة مثلها امتلكها أنا”. وأخذ نانج الموظف الكبير يوازن بين هذه المبخرة ومبخرته، ولكنه لم يستطيع أن يتبين فرقاً ما بينهما. وبلغ من تشابههما أن قاعدة مبخرة الفنان وغطاءها قد واءما مبخرته كل المواءمة. وأقرها وهو يبتسم ان مبخرته تقليد لمبخرة العظيم، ثم باعها نانج بستين قطعة من الفضة، وباعها هذا بعدئذ بألف وخمسمائة”.
الاتقان..
وعن الوصول الي مرحلة الاتقان في هذه الصناعة: “وقد بلغت صناعة الخطوط الفاصلة بين الميناء أقصى حد من الإتقان في عهد أسرة منج. ولم يكن منشأ هذا الفن في بلاد الصين بل جاء إليها من بلاد الشرق الأدنى في أيام الدولة البيزنطية، وكان الصينيون يسمون مصنوعات هذا الفن في بعض الأحيان جوى جودياو، أي آنية بلاد الشياطين. وهذا الفن يتكون من قطع شرائح من النحاس أو الفضة أو الذهب، وتثبيتها على حدها فوق خطوط شكل رسم من قبل على جسم معدني، ثم ملء ما بين هذه الفوارق من فراغ بميناء من اللون المطلوب الملائم لها، ثم تعريض الإناء بعدئذ للنار عدة مرات ودلك السطح الصلب بقطعة من حجر الخفاف وصقله بقطعة من فحم الخشب، ثم تزليق أطراف الحواجز المعدنية الظاهرة.
وأقدم ما عرف من منتجات هذا الفن في الصين مرايا استوردتها نارا في اليابان في منتصف القرن الثامن عشر. وأقدم الأواني المحددة التاريخ ترجع إلى أواخر العهد المغولي أو إلى أيام أسرة يوان، وأحسنها كلها ما صنع في أيام الامبراطور جنج دي من أباطرة المنشو العظماء في القرن الثامن عشر الميلادي.
ودمرت المصانع التي كانت قائمة في عهد اسرة جنج ده- جين في اثناء الحروب التي قضت على اسرة منج، ولم تعد إلى سابق عهدها إلا بعد أن جلس على العرش امبراطور من أعظم أباطرة الصين استنارة وهو الامبراطور كانج- شي، وكان ملكا أصيلاً جمع كل صفات الملوك كما جمعها معاصره لويس الرابع عشر.
وقد أمر هذا الملك بإعادة بناء مصانع جنج ده- جين، وسرعان ما أوقدت النار في ثلاثة آلاف أخذت تعمل عملها المتواصل، فأخرجت خزفاً جميلاً ظريفاً بلغ من الكثرة درجة لم تر الصين ولا غيرها من البلاد مثيلاً لها من قبل. وكان صناع كانج شيء يظنون أن آنيتهم أقل جودة مما صنع في عهد أسرة منج، ولكن الخبيرين بأصول الفن في هذه الأيام لا يوافقونهم على رأيهم، بل يرون أن الأشكال القديمة قد قلدت تقليداً بلغ أقصى درجات الكمال، وأن أشكالاً جديدة كثيرة العدد مختلفة الأنواع قد ابتكرت وارتقت رقيا عظيماً”.
عهد أباطرة المنشو..
وعن تنوع الصناعة: “وكان في مقدور الفنانين في عهد أباطرة المنشو أن يغطوا عجينة الخزف بطبقة زجاجية تختلف عنها في سرعة انصهارها، فأخرجوا بذلك أواني ذات سطح مسنن؛ ثم كان في مقدورهم أن ينفخوا فقاعات من اللون على السطح الزجاجي فأخرجوا بذلك الصحاف الرفيعة المغطاة بدوائر صغيرة من الألوان. وأتقنوا كذلك فن التلوين بلون واحد وأخرجوا ظلالاً من اللون الأحمر الخوخي، والمرجاني، والياقوتي، والقرمزي، ودم الثور الأحمر القاتم والوردي؛ وأخرجوا من اللون الأخضر الخياري، والتفاحي، والطاووسي، والنباتي، والسلادون، الأخضر الحائل ومن اللون الأزرق “المزران”، والسماوي، والبنفسجي الفاتح والفيروزجي؛ ومن اللونين الأصفر والأبيض ضروباً ملساء مخملية كل ما يستطيع الإنسان أن يصفها به أنها النعومة ذاتها تُرى رأى العين. وابتدعوا أنماطاً مزخرفة يطلق عليها جامعو التحف الفرنسيون الأسر الوردية؛ والخضراء، والسوداء، والصفراء .
وقد اتقنوا ذلك الفن الشاق فن تعدد الالوان بتعريض الإناء في التنور إلى تيارات متعاقبة من الهواء الصافي والمحمل بالسناج الأول يُدخل فيه الأكسجين، والثاني يمتصه منه بحيث يتحول الطلاء الزجاجي الأخضر إلى لهب متعدد الألوان. وكانوا يرسمون على بعض آنيتهم صور كبار الموظفين في أثواب فضفاضة ذات ذيول طويلة، فابتدعوا بذلك طراز الآنية المعروفة “بالمندرين” طراز كبار الموظفين. وكانوا يرسمون أزهار البرقوق باللون الأبيض فوق أرضية زرقاء أو سوداء في قليل من الأحيان، وهم الذين ابتدعوا ما للمزهريات التي في صورة العوسج من رقة ورشاقة.”
آخر عهود الازدهار..
وعن اخر فترة في ازدهار الصناعة: “وكان آخر ما مر به الخزف الصيني من عهود المجد في عهد تشين لونج الرخى الطويل. ولم يقل الإنتاج في ذلك العهد عما كان عليه في العهود التي تقدمته، كما ان مهارة الصناع الممتازين لم تفقد شيئاً من عظمتها وتفوقها وإن لم تحظ بعض الأشكال الجديدة بما كانت تحظى به مبتكرات عهد كانج شي من نجاح. وقد بلغت الأسرة الوردية في هذا العهد أعلى درجات الكمال. فقد انتشرت فيه نصف أزهار الطبيعة وفاقتها فوق أبهى الطبقات الزجاجية، كما كان ذوو الثراء المترفون يستخدمون الخزف الثمين الذي لا يزيد سمكه على سمك قشرة البيض غطاء لأضواء المصابيح.
ثم شبت نار فتنة تاي- بنج ودامت خمسة عشر عاماً جرت فيها الدماء أنهاراً، ودمرت فيها خمس عشرة ولاية من الولايات الصينية، وهدمت ستمائة مدينة، وأهلكت عشرين مليوناً من الرجال والنساء وأقفرت أسرة المنشو إقفاراً اضطرها إلى أن تحبس معونتها عن مصانع الخزف، فأغلقت هذه المصانع أبوابها؛ وتشتت صناعها في أنحاء العالم المضطرب.
ولم يفق فن الخزف الصيني حتى الآن ما صابه من الدمار في أثناء هذه الفتنة الصماء ولعله لن يفيق منها أبداً. ذلك أن عوامل أخرى قد ضاعفت من آثار الحرب المخربة ومن امتناع الرعاية الامبراطورية؛ منها أن نمو تجارة الصادرات قد أغرى الفنانين بأن يخرجوا قطعاً خزفية توائم ذوق المشترين الأوربيين”.