21 سبتمبر، 2024 12:36 م
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (114): هام الصينيون بحب الطبيعة وقدسوا قسوتها

قصة الحضارة (114): هام الصينيون بحب الطبيعة وقدسوا قسوتها

خاص: قراءة- سماح عادل

يفصل الكتاب عن خصائص التصوير الصيني القديم وكيف أنه رفض الواقعية، كما حكمته التقاليد الدينية، وأنه بلغ لدرجة من البراعة والإتقان حتي أنهم انشئوا مدرسة تصوير للطبيعة فاقت في الجمال التصوير لدي أمم أخري. وذلك في الحلقة المائة وأربعة عشرة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
خصائص فن التصوير الصيني..
انتقل الكتاب للحديث عن خصائص فن التصوير الصيني: “ترى ما هي الخصائص التي تميز فن التصوير الصيني فتجعله يختلف كل الاختلاف عما أنتجته أية مدرسة أخرى من مدارس التصوير في التاريخ كله عدا تلاميذه في اليابان؟ إن أول ما نذكره من هذه الخصائص أن الصور الصينية ترسم على ملفات أو شاشات كبيرة، ولكن هذه مسألة تتعلق بالشكل الخارجي، وأهم منها وأعمق وأكثر صلة بالصفات الذاتية احتقار الصينيين للمنظور والظلال. فلما أن قبل مصوران أوربيان دعوة وجهها إليهم الإمبراطور كانج شي ليزينوا له قصوره رفض الإمبراطور ما عرضوه عليه من زينات لأنهم رسموا العمد البعيدة في صورهم أقصر من القريبة.
وقال لهم الصينيون في هذا أن لا شيء يمكن أن يكون أكذب وأبعد عن الطبيعة من تمثيل المسافات حيث لا توجد مسافات مطلقاً.
ولم تستطع إحدى الفئتين أن تفهم آراء أخرى ومبادئها لأن الأوربيين اعتادوا أن ينظروا إلى المنظر وهم في مستواه، على حين أن الفنانين الصينيين قد اعتادوا أن ينظروا إليه من أعلاه. كذلك كان يخيل إلى الصينيين أن الظلال لا محل لها في نمط من أنماط الفن لا يهدف في زعمهم إلى محاكاة الحقيقة بل يهدف إلى إدخال السرور على النفس، وتمثيل الأمزجة، والإيحاء بالأفكار عن طريق الأشكال التامة الكاملة.
وكان الشكل كل شيء في هذه الصور، ولم تكن السبيل إلى إجادته غزارة اللون أو بهجته، بل كانت في انسجامه ودقة خطوطه. وكانت الألوان محرمة تحريماً باتاً في الرسوم الأولى، وظلت نادرة في رسوم أساتذة الفن؛ فقد كان هؤلاء يكتفون بالمداد والفرشاة؛ ذلك أن اللون لم يكن في رأيهم ذا صلة ما بالشكل، بل كان الشكل على حد قول شياه – هُو الانسجام”.
الانسجام..
وعن الانسجام في فن التصوير يواصل الكتاب: “وأول معاني الانسجام عند الصينيين هو أن يكون الرسم الصيني السجل المرئي لحركة منسجمة أو رقصة تمثلها اليد ومعناه كذلك أن الشكل البديع يكشف عن “انسجام الروح” وعن جوهر الحقيقة وحركتها الهادئة. ومظهر الانسجام في آخر الأمر هو الخط غير مستخدم في بيان حدود الأشياء ومحيطها الخارجي، بل مستخدم في بناء الأشكال التي تعبر عن النفس بطريق الإيحاء أو الرمز. وتكاد دقة الخطوط وجمالها أن يكونا وحدهما في فن التصوير الصيني السبب الوحيد في براعة التنفيذ المستقلة عن قوة الإدراك والشعور والخيال.
ومن أجل هذا كان من واجب المصور أن يلاحظ ما يريد تصويره بصبر وعناية، وإن يكون ذا شعور قوي مرهف، وأن يضبط أحاسيسه أدق الضبط وأحكمه، وأن يتبين غرضه واضحاً، ثم ينقل بعد هذا على الحرير ما تمثله في خياله، نقلا لا يترك فيه مجالاً للإصلاح أو التعديل، وذلك بعدد قليل من الضربات المتواصلة السهلة. وقد وصل فن التصوير بالخطوط ذروة مجده في الصين واليابان، كما اقترب فن التلوين من ذروة مجده في البندقية وفي الأراضي الوطيئة”.
رفض الواقعية..
وعن رفض فن التصوير الصيني للواقعية يتابع الكتاب: “ولم يُعن فن التصوير الصيني بالواقعية في يوم من الأيام، بل كان يهدف إلى الإيحاء أكثر مما يهدف إلى الوصف. أما “الحقيقة” فقد تركها للعلم ووهب نفسه للجمال. ولقد كان هذا النوع من التصوير فرعاً لم ينبت في غير بلاد الصين، ثم ترعرع وازدهر بعض الازدهار تحت سماء صافية، فأصبح كافياً لأن يستهوي نفوس أعظم أساتذة الفن ويملك عليهم تفكيرهم، وأن يكون تناولهم لرقعة التصوير الفارغة وتقسيمها تقسيماً يتناسب مع ما يريدون تصويره، أن يكون هذا وذاك محكاً تختبر به قدرتهم ومهارتهم. ومن الموضوعات التي كانت تعرض على طالبي الالتحاق بمجمع هواي دزونج للتصوير موضوع يوضح لنا مقدار توكيد الصينيين للإيحاء غير المباشر وعنايتهم به لا بالتصوير الصريح.
ذلك أن المتسابقين كان يعرض عليهم أن يشرحوا بالرسم بيتاً من أبيات الشعر هو: “وعاد حافر جواده مثقلاً بعبير ما وطئه من الأزهار”. وكان المتسابق الذي أحرز قصب السبق في هذا المضمار فناناً رسم صورة فارس ومن حول كعوب جواده سرب من الفرش.
ولما كان الشكل كل شيء فإن من الممكن أن يكون الموضوع أي شيء. وقلما كان الرجال مركز الصورة أو جوهرها وإذا ما ظهروا فيها كانوا في كل الأحوال تقريباً شيوخاً وكانوا كلهم متقاربين في الشبه. وقلما كان المصور الصيني ينظر إلى العالم بعيني الشاب وإن لم يكن قط واضح التشاؤم في تصويره. ولقد رسم المصورون صوراً لبعض الأفراد ولكنها كلها صور لم تبلغ ما بلغه غيرها من الجودة والإتقان”.
الطيور والأزهار..
وعن ولع بعض المصورين بالطيور والأزهار يضيف الكتاب: “ذلك أن الفنان الصيني لم يكن يعنى بالأفراد، وما من شك في أنه كان يحب الأزهار والحيوانات أكثر مما يحب الرجال، ولذلك أطلق لنفسه العنان في تصويرها؛ فترى هواي – دزونج وهو الذي كانت تأتمر بأمره إمبراطورية متسعة الأرجاء يهب نصف حياته لتصوير الطيور والأزهار. وكانت الأزهار والحيوانات كالأزورد والتنين تتخذ رموزاً غير مقصودة لذاتها في بعض الأحيان؛ لكنها في الأغلب الأعم كانت ترسم لأن سر الحياة وسحرها يتمثلان فيها كاملين كما يتمثلان في الإنسان نفسه.
وكان الحصان محبباً للفنانين الصينيين بنوع خاص، ومن أجل هذا ترى فنانين كباراً مثل هان كان لا يكادون يعملون شيئاً غير رسم شكل في أثر شكل لهذا المخلوق الذي هو جسم حي للتخطيط الفني”.
التقاليد الدينية..
وعن تقييد التقاليد الدينية لفن التصوير يوضح الكتاب: “ولسنا ننكر أن التصوير في الصين قد لاقى الأمرّين من جراء التقاليد الدينية أولاً ومن القيود التي وضعها العلماء بعدئذ، وأن تقليد الأساتذة القدامى والنسج على منوالهم كانا من العوامل المعوقة في تدريب طلاب الفن، وأن الفنان كان في كثير من الأحوال يقيد بعدد من المسائل لا يسمح له أن يلجأ إلى غيرها في تشكيل مادته.
وفي وسع القارئ أن يدرك قوة العرف والتقاليد من قول أحد كبار النقاد الفنيين في عهد آل سونج: “لقد كنت في أيام شبابي أثني على الأستاذ الذي أحب صوره؛ فلما أن نضج عقلي أصبحت اثني على نفسي لأني أحببت ما اختاره الأساتذة لي لكي أحبه”، وإنا ليدهشنا ما بقى في هذا الفن من حيوية بالرغم من قيود العرف والقواعد التي وضعت له. وفي وسعنا أن نقول في هؤلاء ما قاله هيوم عن كتاب عهد الاستنارة وهم الذين علا شأنهم رغم الرقابة المفروضة عليهم: “إن القيود التي عانى الفنانون ما عانوه منها قد أرغمتهم هي نفسها على أن يكونوا عظماء ممتازين”.
وما من شك في أن الذي أنقذ المصورين الصينيين من وهدة الركود هو إخلاصهم في إحساسهم بالطبيعة. وقد استمدوا هذا الإحساس من مبادئ الدوية، وقوتها في نفوسهم البوذية إذ علمتهم أن الإنسان والطبيعة شيء واحد في مجرى الحياة وتغيرها ووحدتها. وكما أن الشعراء قد وجدوا في الطبيعة ملجأ يهرعون إليه من صخب المدن وكفاحها، وكما أن الفلاسفة كانوا يبحثون فيها عن نماذج للأخلاق وهادياً للحياة، كذلك كان المصورون يطيلون التأمل بجوار المجاري المائية المنعزلة ويوغلون في شعاب الجبال الشجراء، لأنهم يشعرون أن الروح الأعلى الذي لا يعرفون له اسماً قد عبر عن نفسه في هذه الأشياء الصامتة الخالدة تعبيراً أوضح مما عبر عنها في حياة الناس وأفكارهم المضطربة الهائجة”.
الطبيعة القاسية..
وعن تقديس الصينيين للطبيعة القاسية: “ولقد اتخذ الصينيون الطبيعة الشديدة القسوة عليهم، والتي تنفث الموت ببردها وفيضان أنهارها، اتخذوها إلههم الأعلى، ورضوا بذلك في قوة وطمأنينة، ولم يقبلوا أن يقدموا لها القرابين الدينية، بل رضوا بأن تكون فوق هذا معبود فلسفتهم وأدبهم وفنهم.
وحسبنا شاهداً على قدم عهد الثقافة الصينية وعمقها أن الصينيين قد هاموا بحب الطبيعة قبل أن يهيم بها كلود لورين، وروسو، وورد سورث، وشاتو بريان بألف عام كاملة، وأنهم أنشئوا مدرسة من مصوري المناظر الطبيعية أضحت صورها في جميع بلاد الشرق الأقصى أسمى ما عبرت به الإنسانية عن مشاعرها”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة