خاص: قراءة- سماح عادل
انتقل الكتاب إلى الحكي عن الفنون في الصين القديمة، وكيف كانت روعة الصناع الصينيين في مجالات النسيج والخزف والحلي. وذلك في الحلقة المائة والسادسة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
منزلة الفن في الصين..
انتقل الكتاب للحكي عن الفنون الصينية في الحضارة القديمة: “طلب الحكمة والهيام بالجمال هما قطب العقل الصيني، وفي استطاعتنا أن نعرف بلاد الصين بأنها بلاد الفلسفة والخزف، وإن لم يكن هذا التعريف جامعاً مانعاً. وكما أن طلب الحكمة لم يكن معناه في بلاد الصين الجري وراء أخيلة ميتافيزيقية لا علاقة لها بالحياة، بل كان فلسفة إيجابية تهدف إلى ترقية الفرد والنظام الاجتماعي، فكذلك لم يكن عشق الجمال إحساسا به كامنا في النفس أو هواية خاوية للأشكال الفنية التي لا صلة لها بالشئون الإنسانية، بل كان تزاوجا أرضيا وثيقا بين الجمال والمنفعة، وتصميما عمليا لتزيين موضوعات الحياة اليومية وأدواتها.
ومن أجل ذلك ظلت الصين، إلى الوقت الذي أخذت فيه تخضع مثلها العليا لتأثير الغرب، تأبى أن تعترف بوجود فرق ما بين الفنان والصانع أو بين هذا وبين العامل العادي. ولقد كانت الصناعات كلها إلا القليل منها من عمل الأيدي البشرية، وكان كل ما تعمله الأيدي منها حِرفاً متقنة وكانت الصناعة كما كان الفن تعبيراً عن شخصية الصانع بالشيء المصنوع، ولذلك بزت الصين كل ما عداها من البلاد في الذوق الفني وفي كثرة ما لديها من الأدوات الجميلة التي تستخدمها في حياتها اليومية، وإن لم تمد أهلها عن طريق الصناعات الكبيرة بالسلع التي تنعم بها كثرة الناس في البلاد الغريبة”.
الجمال في الحياة اليومية..
وعن استخدام الصيني للجمال يكمل الكتاب: “فقد كان الصيني المتوسط الثراء يتطلب أن يكون كل ما يحيط به، من الحروف التي يكتب بها إلى الصحاف التي يأكل فيها، مما يشجع حاسة الجمال، وأن يدل بشكله وصنعه على الحضارة الناضجة الذي هو رمز لها وقطعة منها.
وبلغت هذه الحركة التي ترمي إلى تجميل الجسم والمعبد والمسكن غايتها في عهد أسرة سونج. لقد كانت هذه الحركة عنصرا من عناصر الحياة في عصر أسرة تانج، وكان من شأنها أن تستمر وتنتشر في عهد الأسر التي أعقبتها، ولكن عهد النظام والرخاء الطويل الذي عم البلاد تلك الأسرة قد أمد الفنون كلها بحاجتها من الغذاء، وخلع على الحياة الصينية جمالا وزينة لم تستمتع بمثلهما من قبل”.
صناعة النسيج والمعادن..
وعن صناعة النسيج والمعادن يواصل: “ولقد بلغ الصناع الصينيون في صناعة النسيج والمعادن في عهد أسرة سونج وما بعدها درجة من الإتقان والكمال لم يفقهم فيها أحد قبلهم، وبزوا جميع منافسيهم في كافة أنحاء العالم في اليشب وغيره من الأحجار الصلبة، ولم يتفوق عليهم في نحت الخشب والنقش على العاج إلا من أخذوا عنهم هذه الصناعة من اليابانيين. لقد كان أثاث المنازل يصنع على أشكال متعددة مختلفة، فذة في صورتها ولكنها غير مريحة لصاحبها وكان صناع الأثاث، الذين تكفيهم صفحة من الأرز يوما كاملا، يخرجون منه تحفة فنية صغيرة إثر تحفة.
وكان الفنان ذو اليد الصناع الذي يخرج هذه الروائع الفنية الدقيقة يزين بها داره ويتخذها بديلا من الأثاث الغالي الثمن ومن أسباب المتعة المنزلية، وكانت تبعث في نفس مالكها بهجة لا يدركها في بلاد الغرب إلا الخبراء الأخصائيون”.
الحلي والطلاء..
وعن روعة الحلي والطلاء يضيف الكتاب: “أما الحلي فلم تكن موفورة العدد ولكنها كانت بديعة القطع، وكان الرجال والنساء يبردون وجوههم بمراوح مزخرفة من الريش والخيزران، أو الورق أو الحرير الملوّن، بل إن المتسولين أنفسهم لم تكن تنقصهم المراوح الجميلة وهم يمارسون حرفتهم التليدة.
ونشأ فن الطلاء باللك في الصين، وبلغ ذروة الكمال في اليابان. واللك في بلاد الشرق الأقصى نتاج طبيعي لشجرة أصلها من أشجار الصين، ولكنها الآن تزرع بكثرة في بلاد اليابان، ويؤخذ عصيرها من جذعها وغصونها، ثم يصفى ويغلى ليزول منه ما لا حاجة لهم من السوائل، ويطلي به الخشب الرقيق كما يطلى به المعدن والخزف في بعض الأحيان، ثم يجفف بتعريضه للرطوبة. ويتكوَّن الطلاء من طبقات تتراوح بين عشرين وثلاثين طبقة يبذل في تجفيف كل واحدة منها وصقلها جهد عظيم وعناية بالغة، وتختلف كل طبقة عن غيرها في لونها وسمكها. وينقش الصينيون بعدئذ هذه الطبقات بعد تمامها بآلة حادة على شكل بحيث يصل كل حز إلى الطبقة ذات اللون الذي يتطلبه الشكل المطلوب.
وقد نما هذا الفن على مهل وبدأ في صورة كتابة على شرائح من الخيزران؛ وكانت مادة اللك تستخدم في عهد أسرة جو لتزيين الأواني والسروج والعربات وما إليها. ثم استخدم في القرن الثاني بعد الميلاد لطلاء الأبنية والآلات الموسيقية وفي عهد أسرة تانج صدرت الصين كثيرا من الأدوات المطلية باللك إلى اليابان. ولما تولت الملك أسرة تانج كانت كل فروع صناعة اللك قد ازدهرت وتحددت أشكالها، وكانت ترسل منتجاتها بحرا إلى الثغور النائية كثغور الهند وبلاد العرب.
ولما ولى الملكُ أباطرة أسرة منج خطا الفن خطوة أخرى في طريق الكمال، وبلغ في بعض نواحيه ذروته. فلما جلس على العرش الإمبراطوران المستنيران كانج- شى، وتشين لونج من أباطرة المانشو صدرت الأوامر الإمبراطورية بتشييد المصانع والإنفاق عليها من مال الدولة، فأخرجت من روائع الفن أمثال عرش تشين لونج والستر الذي أهداه كانج- شى إلى ليوبولد الأول إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية.
واحتفظ هذا الفن بتلك الدرجة الرفيعة حتى القرن التاسع عشر، فكانت الحروب التي أوقد نارها التجار الأوربيون، وما للمستوردين والعملاء الأوربيين من أذواق منحطة كانت هذه وتلك سبباً في حبس معونة الأباطرة عنه فتدهور مستواه وانحطت رسومه، وانقطعت زعامته إلى اليابان”.
اليشب..
وعن صناعة اليشب يروي الكتاب: “أما صناعة اليشب فهي قديمة قدم التاريخ الصيني نفسه، وشاهد ذلك أن آثارها وجدت في أقدم القبور. وتعزو أقدم السجلات أول استخدامه “حجر سمع” إلى عام 2500 ق.م. وذلك أن حجر اليشب كان يقطع على صورة سمكة أو نحوها تعلق في إسار؛ فإذا ما أجيد قطع الحجر وتعليقه خرجت منه أنغام موسيقية واضحة جميلة تدوم مدهشاً في طوله. والاسم الإنجليزي لهذا الحجر Jade مشتق من اللفظ الأسبانيIjada المأخوذة عن اللفظ اللاتيني Ilia) عن طريق اللفظ الفرنسي Jade ومعناه الحقو. ولما فتح الأسبان أمريكا وجد الفاتحون أهل المكسيك الأقدمين يأتون بهذا الحجر مسحوقا ومعجونا بالماء ليعالجوا به كثيرا من الأمراض الباطنية، فلما عادوا إلى أوربا حملوا معهم هذا العلاج هو والذهب الأمريكي إلى بلادهم.
أما الاسم الصيني لهذا الحجر فهو أليق به من الاسم الأوربي وأكثر مطابقة للمعقول. فلفظ جون الذي يطلق عليه معناه لين كالندا، ويتركب حجر اليشب من معدني الجاديث والتفريت، والأول يتكون من سليكات الألومنيوم والصوديوم ويتكون الثاني من الكالسيوم والمغنيزيوم. وكلا المعدنين صلب قاس يحتاج تهشيم البوصة المكعبة منه إلى ضغط خمسين طنا في بعض الأحيان. وتكسر القطع الكبيرة منه عادة بتعريضها إلى الحرارة الشديدة ثم إلى الماء البارد على التعاقب.
وفي وسع الإنسان أن يدرك حذق الفنان الصيني من قدرته على إظهار ألوان براقة خضراء وسمراء وسوداء بيضاء من هذا الحجر العديم اللون بطبيعته، ومن صبره الطويل ومثابرته، حتى يخرج منه أشكالا مختلفة لا عداد لها، حتى لا يكاد الإنسان يجد بين مجموعات اليشب التي في العالم كله قطعتين متماثلتين، اللهم إلا أزرار الملابس. وكان أول ما عثر عليه من مصنوعات يشبية في عهد أسرة شانج في صورة ضفدعة تستخدم قربانا مقدسا، وصنعت منه أدوات غاية في الجمال في أيام كنفوشيوس.
وبينما كان الناس في غير الصين يتخذون من اليشب فؤوساً، ومدى وأواني، فإن الصينيين كانوا يعظمون الحجر تعظيما حملهم على ألا يستخدموه إلا في التحف الفنية الجميلة، إذا استثنينا بعض القطع النادرة القليلة العدد. وكان عندهم أثمن من الفضة والذهب والحلي على اختلاف أنواعها. وكانوا يقدرون بعض مصنوعات اليشب الصغيرة كخواتم الإبهام التي يتحلى بها كبار الحكام الصينيين بما يقرب من خمسة آلاف ريال، ويقدرون بعض القلائد اليشيبية بمائة آلاف ريال. وكان المعنيون بجمع القطع النادرة منه يقضون السنين الطوال في البحث عن قطعة واحدة، ويقال إن ما يوجد في الصين من التحف اليشبية إذا جمعت في مكان واحد تكونت منها مجموعة لا تماثلها مجموعة من أية تحف صنعت من مادة أخرى في جميع أنحاء العالم”.