خاص: قراءة- سماح عادل
يكمل الكتاب الحكي عن الطباعة في الصين، وكيف اخترعوها ثم أجاد الكوريون فيها وانتشرت في الشرق الأقصى، وكيف ان اختراع الغرب للطباعة كان متواضعا. وذلك في الحلقة المائة والسادسة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الدين وتأثيره..
يكمل الكتاب عن تأثير الدين في اختراع الطباعة في الحضارة الصينية القديمة: “وقد كان الباعث الأول على اختراع الطباعة في بلاد الصين باعثاً دينياً، كما كانت الحال في أوربا في العصور الوسطى المتأخرة، وكما هي الحال بين بعض الشعوب البدائية في الوقت الحاضر. ذلك أن الأديان في ذلك الزمن القديم كانت تسعى لنشر عقائدها من طريق العين ومن طريق الأذن معا، ولجعل صلواتها ورقاها وأقاصيصها في متناول كل إنسان.
وتكاد أوراق اللعب أن تعادل هذه المطبوعات الدينية في قدم العهد فقد ظهرت هذه الأوراق في الصين في عام 969 أو قبل ذلك العام بقليل، ثم انتقلت من الصين إلى أوربا في أواخر القرن الرابع عشر.
وقد طبعت الكتب الأولى على قوالب خشبية، وأول ما وصل إلينا من نبأ عن هذا العمل ما ورد في رسالة صينية كتبت حوالي 870 . فقد جاء فيها: “حدث وأنا في سشوان أن فحصت في حانوت وراق كتابا مدرسيا مطبوعا عن أصل خشبي”.
ويلوح أن فن الطباعة كان قد تقدم تقدما كبيرا في الوقت الذي عثر فيه على هذا الخطاب. ومن الظريف أن نلاحظ أن هذا التقدم حدث أولا في الولايات الغربية مثل سشوان والتركستان- وهي الولايات التي دفعها في تيار المدينة المبشرون البوذيون الذين جاءوا من الهند والذين كانت لهم من عهد بعيد ثقافة خاصة مستقلة عن ثقافة العواصم الشرقية. ثم دخلت طريقة الطبع بالقوالب إلى الولايات الشرقية في أوائل القرن العاشر حين أقنع فنج – دو أحد رؤساء الوزارات الإمبراطور أن يخصص بعض المال لطبع أمهات الكتب الصينية القديمة. وتطلب القيام بهذا العمل عشرين عاما، وكان مقدار ما طبع منها مائة وثلاثين مجلداً، وذلك لأن المطبوع لم يكن مقصورا على نصوص هذه الكتب بل شمل أيضاً أشهر شروحها. ولما أن تم طبع هذه الكتب انتشرت في البلاد انتشارا واسعا كان سببا في إحياء المعارف القديمة وتقوية دعائم العقائد الكنفوشية في عهد الملوك من أسرة سونج”.
الأوراق النقدية..
وعن النقود يواصل الكتاب: “وكان صنع الأوراق النقدية من أقدم ما أخرجته الطباعة بالقوالب. وقد ظهرت هذه الأوراق أولا في سشوان في القرن العاشر الميلادي ثم أصبحت عملا هاما من أعمال الحكومة الصينية ولم يكد يمضى على اختراعها قرن من الزمان حتى أدت إلى تجارب في التضخم المالي، واتبعت بلاد في عام 1294 هذه الطريقة الجديدة من طرق خلق الثروة.
وقد وصف ماركو بولو في عام 1297 في دهشة بالغة ما يظهره الصينيون من تقدير لهذه القصاصات من الورق. أما أوربا فلم تعرف النقود الورقية إلا في عام 1656 حين أصدرت أولى عملتها منها”.
حروف الطباعة المنفصلة..
ويضيف الكتاب: “كذلك كانت حروف الطباعة المنفصلة المنتقلة من اختراع الصينيين، ولكن عدم وجود حروف هجائية محددة محصورة من جهة، ووجود نحو 000ر40 من العلامات في اللغة الصينية المكتوبة من جهة أخرى، جعلا استعمال هذا الاختراع ترفا يتعذر الانتفاع به في بلاد الشرق الأقصى. وقد صنع بى شنج حروف الطباعة المنفصلة المنتقلة من الخزف في عام 1041، ولكن هذا الاختراع لم ينتفع به إلا قليلا.
وفي عام 1403 صنع أهل كوريا أول ما عرف في التاريخ من حروف الطباعة المعدنية وكانت طريقة صنعها أن تحفر الحروف أولا على الخشب الصلب، ثم تصنع لهذه النماذج قوالب من عجين الخزف تجفف في الأفران، ثم تصب فيها الحروف المعدنية بعدئذ. وسرعان ما استخدم تاي دزونج أعظم أباطرة كوريا هذا الاختراع لتستعين به الحكومة في أعمالها، وللاحتفاظ بالضارة القائمة.
ومن أقوال هذا المليك المستنير: “من شاء أن يحكم فعليه أن يكون ذا علم واسع بالقوانين وبالآداب القديمة ذلك بأنه إذا عرف هذه القوانين والآداب استطاع أن يكون عادلا مستقيما في أعماله الخارجية وأمكنه أن يكون بينه وبين نفسه ذا خلق كريم وبهذا ينتشر السلام والنظام في البلاد. وإذ كانت بلادنا الشرقية تقع وراء البحار، فإن الكتب التي تصلنا من بلاد الصين قليلة العدد، وكثيراً ما تكون الكتب المطبوعة على القوالب ناقصة.
“هذا إلى أنه يتعذر طبع كل ما لدينا من الكتب كاملة. ولهذا آمر أن تصنع الحروف من البرونز، وأن يطبع كل ما تستطيع يداي أن تصل إليه بلا استثناء حتى ينتقل ما تحتويه هذه الكتب إلى أحفادنا من بعدنا، وتلك نعمة من أجل النعم التي تعود على البلاد إلى أبد الدهر. على أن نفقات هذا العمل الجليل لن تفرض ضرائب على الشعب، بل سأتحملها أنا وأسرتي ومن يريد أن يساهم فيها من الوزراء”.
انتشار حروف الطباعة..
ويشرح عن انتشار حروف الطباعة: “وانتشرت حروف الطباعة المفردة المنتقلة من كوريا إلى اليابان ثم عادت بعدئذ إلى الصين، ولكن يظهر أنها لم تعد إليها إلا بعد اختراع جوتنبرج الضئيل في أوربا. واستمر الكوريين يستخدمون حروف الطباعة المنتقلة قرنين كاملين ثم عفا عليها الزمان. أما في الصين فإن هذه الحروف لم تكن تستخدم إلا في أوقات متفرقة، حتى نقل التجار والمبشرين أساليب الطباعة الغربية إلى بلاد الشرق، كمن يعيد هدية قديمة إلى مهديها.
وظل الصينيون من أيام فنج دو إلى أيام لي هونج – جانج مستمسكين بطريق الطباعة على القوالب لأنهم كانوا يرونها أكثر الطرق ملاءمة للغتهم. واستطاعت المطابع الصينية رغم هذا القصور أن تغمر الشعب بما لا يحصى من الكتب، فأصدرت فيما بين عامي 994، 1063 مئات من المجلدات في تواريخ الأسر الحاكمة، كما أتمت في عام 972 إصدار قوانين الشريعة البوذية في خمسة آلاف مجلد. ذلك أن الكتاب وجدوا في يدهم سلاحا لم يكن لهم به عهد من قبل، وكثير عدد من يقرأ كتبهم فلم يعد مقصورا على أعيان البلاد، بل شمل الأعيان والطبقة الوسطى على السواء وشمل كذلك بعض أفراد الطبقة الدنيا نفسها. واصطبغ الأدب بصبغة أكثر ديمقراطية وأكثر تباينا مما كان عليه من قبل. وجملة القول أن فن الطباعة بالقوالب كان من أسباب النهضة العلمية في عهد أسرة سونج.
وكان من نتائج هذا الاختراع المجيد أن غمر البلاد فيض من الأدب لم يكن له مثيل من قبل، وأن عمت البلاد نهضة في الآداب الإنسانية شملت كل ما شملته النهضة في إيطاليا وسبقتها بمائتي عام كاملة. وطبعت من الآثار الأدبية القديمة نحو مائة طبعة، كما طبعت لها شروح وتعليقات تبلغ الألف عدّا. وأجاد المؤرخون العلماء دراسة الحياة الصينية في الأيام الخالية، ووضعوها بين أيدي ملايين القراء مطبوعة بحروف الطباعة الجديدة العجيبة. ونشرت مجموعات كبيرة من الأعمال الأدبية، ووضعت معاجم لغوية واسعة وألفت موسوعات ضخمة
جبارة انتشرت في طول البلاد وعرضها. وكانت أولى ما صدر من الموسوعات ذات الشأن هي الموسوعة التي أصدرها ووشو (947-1002)؛ وقد حالت الصعاب الناشئة من عدم وجود حروف هجائية سهلة دون إصدارها مرتبة ترتيباً هجائيا، فاضطر إلى تقسيمها حسب الموضوعات. وكان أهم ما احتوته من المعلومات ما يتصل منها بالعالم المادي.
وفي عام 977 أمر الإمبراطور تاي دزونج أحد أباطرة أسرة سونج أن تجمع موسوعة أخرى أوسع من الأولى، بلغت مجلداتها اثنين وثمانين مجلداً، معظمها مختارات من 1690 كتاباً كانت موجودة قبل ذلك الوقت. ثم وضعت موسوعة أخرى فيما بعد في عهد الإمبراطور يونج لو من أباطرة أسرة منج (1403- 1425)، وبلغت مجلداتها عشرة آلاف، ولكن كثرة النفقات حالت دون طبعها. وحدث في فتنة الملاكمين التي قامت في عام 1900 أن احترقت النسخة الوحيدة التي أورثتها ذلك العهد الأجيال التالية فلم يبق منها إلا مائة وستون مجلداً. إن التاريخ لم يشهد قبل تلك الأيام عهداً سيطر فيه العلماء على الحضارة كما سيطروا عليها في ذلك العهد”.