14 نوفمبر، 2024 1:30 م
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (102): لا يوجد صيني مفكر لا يحفظ الشعر

قصة الحضارة (102): لا يوجد صيني مفكر لا يحفظ الشعر

خاص: قراءة- سماح عادل

حكي الكتاب عن الشعر في تاريخ الحضارة الصينية القديمة، وخصائصه، وصفة الإيجاز وجمال التعبير، التي يتصف بها الشعر وأهميته للشباب. وذلك في الحلقة المائة واثنين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
سجن لي- بو..
يكمل الكتاب قصة حياة الشاعر الشهير لي- بو: “خرج لي- لنج على خليفة منج هوانج، فلما أقلمت أظفار فتنته ألفى لي بو نفسه بين جدران السجن محكوماً عليه بالموت لأنه خان دولته. ثم توسط له جوُودزيئي القائد الذي أخمد ثورة آن لو شان، وطلب أن تفتدى حياة لي بو بنزوله هو عن رتبته ولقبه. وخفف الإمبراطور عنه الحكم واستبدل به النفي مدى الحياة. ثم صدر عفو عام بعد ذلك بقليل، وعاد الشاعر يتعثر إلى مسقط رأسه.
ومرض وتوفي بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت وتقول الأقاصيص، التي يعز عليها أن تموت نفس قل أن يوجد مثلها بين النفوس ميتة عادية، إنه غرق في أحد الأنهار، بينما كان يحاول وهو ثمل جزلان أن يعانق صورة القمر.
وديوان شعره الرقيق الجميل المؤلف من ثلاثين مجلداً لا يترك مجالاً للشك في أنه حامل لواء شعراء الصين بلا منازع. وقد وصفه ناقد صيني: “بأنه قمة تاي الشامخة المشرفة على مئات الجبال والتلال؛ والشمس إذا طلعت خبا وميض ملايين من نجوم السماء”.
لقد مات منج هوانج، وماتت يانج وعفا ذكرهما ولكن لي بو ما يزال يغني!
لقد بنيت سفينتي من خشب الأفاوية وصنع سكانها من خشب المولان.
وجلس العازفون عند طرفها وبيدهم الناي من الغاب المحلى بالجواهر والمزمار المرصع بالذهب.
ألا ما أعظم سروري إذا كان إلى جانبي دن الخمر اللذيذة وغيد حسان يغنين.
ونحن نطفو فوق ظهر الماء تدفعنا الأمواج ذات اليمين وذات الشمال!
إذاً لكنت أسعد من جنى الهواء الذي ركب على ظهر غرنيقه الأصفر،
حراً كعريس البحر الذي تعقب النوارس دون غرض يبتغيه،
إني الآن أهز الجبال الخمسة بضربات من وحي قلمي.
هاأنذا قد فرغت من قصيدتي. فأنا أضحك وسروري أوسع من البحر.
أيها الشعر الخالد! إن ألحان شوبنج لشبيهة في روعتها بالشمس والقمر،
أما قصور ملوك جو وأبراجهم فقد عفت آثارها من فوق التلال.
خصائص الشعر الصيني..
انتقل الكتاب للحديث عن خصائص الشعر في الحضارة الصينية القديمة: “ليس في وسعنا أن نحكم على الشعر الصيني بدراسة شعر لي وحده، فإذا أراد الإنسان إن يحس به وهذا خير من الحكم عليه وجب عليه أن يسلم نفسه في غير استعجال للكثيرين من الشعراء الصينيين وأساليبهم الشعرية الفذة. ولا جدال في أن بعض الصفات الدقيقة التي يتصف بها هذا الشعر تخفيها عنا ترجمته: فنحن لا نرى في هذه الترجمة الرموز الصينية الجميلة، التي يتكون كل منها من مقطع واحد ولكنه يعبر مع ذلك عن فكرة معقدة.
ولا نرى السطور تجري من أعلى إلى أسفل ومن اليمين إلى اليسار، ولا ندرك الوزن والقافية اللذين يتشبثان بقوة بالقواعد والسوابق القديمة؛ ولا نستمع إلى النغمات وما فيها من خفض ورفع، التي يترنم بها الشعر الصيني.
نصف ما في شعر الشرق الأقصى من جمال فني يضيع حين يقرؤه من يجب أن نسميه أجنبيا عنه. إن خير القصائد الصينية في لغتها الأصلية لصورة مصقولة ثمينة لا تقل في صقلها وعظيم فنها عن المزهرية المنقوشة النادرة الجميلة، ولكنه بالنسبة إلينا لا يكون إلا نتفاً من القريض الخداع “الطليق” من الوزن أو الشعر “التصويري” قد أدركه بعض الإدراك ونقله نقلا ضعيفا عقل جاد ولكنه عقل غريب عنه لا يمت إليه بصلة”.
الإيجاز..
وعن صفة الإيجاز: “إن أهم ما نراه في هذا الشعر هو إيجازه، فنميل إلى الظن بأن هذه القصائد تافهة، وإذا ما قرأناها شعرنا بأنا قد لا نجد فيها ما في شعر ملتن وهومر من عظمة تارة وملالة تارة أخرى. ولكن الصينيين يعتقدون أن الشعر كله يجب أن يكون قصيرا وأن القصيدة والطول لفظان متناقضان، لأن الشعر في نظرهم نشوة وقتية بنت ساعتها تموت إذا طالت ومدت حتى صارت ملحمة، وأن رسالة الشاعر أن يرى الصورة ويرسمها بضربة ويسجل الفلسفة في بضعة سطور، وأن مثله الأعلى أن يجمع المعاني الكثيرة في أنغام قليلة.
وإذ كانت الصور من جوهر الشعر، وكانت الكتابة الصينية في جوهرها كتابة تصويرية، كانت لغة الصين المكتوبة لغة شعرية بطبيعتها تنقاد للكتابة التصويرية، وتنفر من المعنويات المجردة التي لا يمكن التحدث عنها كما يتحدث عن المرئيات. وإذ كانت المعنويات تكثر كلما ارتقت الحضارة، فقد أضحت اللغة الصينية، في صورتها المكتوبة، أشبه بشفرة سرية ذات إيحاء دقيق.
وكذلك كان الشعر الصيني بالطريقة نفسها، وقد يكون للسبب عينه، يجمع بين الإيحاء والتركيز، ويهدف بما يرسم من الصور إلى الكشف عن شيء خفي عميق. فهو لا يجادل ولا يناقش، بل يوحي ويوعز، ويترك أكثر مما يقول؛ وليس في وسع أحد غير الشرقي أن يستجيب لما يوعز به ويملأ الفراغ الذي يتركه. وفي هذا المعنى يقول الصينيون:
كان الأقدمون يرون أن أحسن الشعر ما كان معناه أبعد من لفظه، وما اضطر قارئه أن يستخلص معناه لنفسه . الشعر الصيني كالأخلاق الصينية والفن الصيني ذو جمال رائع لا حد له تخفيه بساطة هادئة مستكنة. فهو لا يعمد إلى الاستعارة والمجاز والتشبيه بل يعتمد على إظهار ما يريد أن يتحدث عنه، ويشير من طرف خفي إلى ما يتضمنه، ويتصل به، وهو يتجنب المبالغات والانفعالات ويلجأ إلى العقل الناضج بما فيه من إيجاز في القول وما يتقيد به من قيود. وقلما تراه في صور روائية هائجة، ولكن في مقدوره أن يعبر عن المشاعر القوية بأسلوبه الهادئ الرصين:
الناس يقضون حياتهم متفرقين كالنجوم تتحرك ولكنها لا تلتقي أبداً.
أما هذه العين فما أسعدها، إذ ترى مصباحاً واحداً يبعث الضوء لي ولك!
ألا ما أقصر أيام الشباب!
وإن لما منا لتدل الآن على أن حياتنا قد آذنت بالزوال.
بل إن نصف من نعرفهم قد انتقلوا الآن إلى عالم الأرواح.
ألا ما أشد وقع هذا على نفسي”.
جمال التعبير..
وعن جمال التعبير في الشعر الصيني: “وقد يعترينا الملل في بعض الأحيان مما في هذه القصائد من التكلف العاطفي، وما تحويه من تحسر وتمن باطل بأن تقف عجلة الزمان دورتها حتى يبقى الرجال فتياناً وتحتفظ الدول بشبابها أبد الدهر. ونحن ندرك من هذا الشعر أن حضارة الصين كانت قد شاخت وانقضى عهد شبابها في أيام منج هوانج، وأن الشعراء في هذا العهد كالفنانين في الشرق بوجه عام قد أولعوا بتكرار الموضوعات التليدة، وأنهم كانوا يسخرون قدرتهم الفنية للاحتفاظ بالصيغ سليمة مبرأة من العيوب.
ولكننا رغم هذا كله لا نجد لهذا الشعر مثيلاً في غير بلاد الصين، ولا نرى ما يضارعه في جمال التعبير وما فيه من رقة العواطف رغم اعتدالها، ومن بساطة واقتصاد في التعبير عن أعمق الأفكار. ويقال لنا إن للشعر الذي كتب في عهد أباطرة تانج أثرا عظيما في تعليم كل شاب صيني وأن الإنسان لا يجد صينيا مفكرا لا يحفظ الكثير من ذلك الشعر عن ظهر قلب.
فإذا صح هذا كان في تاريخ لي بو ودوفو بعض ما نجيب به حين نسأل لِمَ يكاد كل صيني متعلم أن يكون فناناً وفيلسوفاً؟”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة