خاص: قراءة- سماح عادل
حكي الكتاب عن فترة رخاء، في تاريخ الحضارة الصينية القديمة، حين اقدم إمبراطور علي تحقيق العدل والمساواة وفرض السلام وحب الجمال، مما أسهم في ازدهار الشعر في ذلك الوقت . وذلك في الحلقة المائة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
الرخاء..
يحكي الكتاب عن عصر رخاء في تاريخ الصين القديم: “تعزى نهضة الصين الكبرى في العصر الذي سنتحدث عنه إلى أسباب ثلاثة وهي: امتزاج هذين الشعبين، والقوة الروحية التي انبعثت من دخول البوذية فيها، وعبقرية إمبراطور من أعظم أباطرتها وهو ناي دزونج الذي حكمها من عام 627 إلى عام 650 بعد الميلاد.
جلس هذا الإمبراطور على عرش الصين وهو في الحادية والعشرين من عمره بعد أن نزل عنه أبوه جو – دزو الثاني الذي أقام أسرة تانج قبل ذلك الوقت بتسع سنين. وقد بدأ حكمه بداية غير مبشرة بخير، وذلك بقتل أخوته الذين كانوا يهددونه باغتصاب عرشه، ثم أظهر كفايته العسكرية برد غارات القبائل الهمجية إلى مواطنها الأصلية، وإخضاع الأقاليم المجاورة التي خرجت على حكم الصين بعد سقوط أسرة هان.
ثم عافت نفسه الحرب فجأة وعاد إلى شانجان عاصمة ملكه وخصص جهوده كلها للأعمال السلمية، فقرأ مؤلفات كنفوشيوس مرة بعد مرة، وأمر بنشرها في شكل بديع رائع وقال في هذا: “إنك إذا استعنت بمرآة من الشبهان فقد تستطيع أن تعدل وضع قلنسوتك على رأسك؛ وإذا اتخذت الماضي مرآة لك فقد تستطيع أن تتنبأ بقيام الإمبراطوريات وسقوطها”. ورفض كل أسباب الترف وأخرج من قصره الثلاثة آلاف من السيدات اللاتي جيء بهن لتسليته”.
العدل..
وعن سعي ذلك الإمبراطور إلي تحقيق العدل يكمل الكتاب: “ولما أشار عليه وزراؤه بوضع القوانين الصارمة لقمع الجرائم قال لهم: “إني إذا أنقصت نفقات المعيشة، وخففت أعباء الضرائب، ولم أستعن إلا بالأمناء من الموظفين حتى يحصل الناس على كفايتهم من الكساء، كان أثر هذه الأعمال في منع السرقات أعظم من أثر أقسى أنواع العقاب”.
وزار الإمبراطور يوماً سجون شانجان فرأى فيها مائتين وتسعين سجيناً حكم عليهم بالإعدام. فلم يكن منه إلا أن أرسلهم ليحرثوا الأرض واكتفى منهم بأن يعدوه بشرفهم أن يعودوا إلى سجنهم. وكان أن عادوا جميعاً، وبلغ من سرور تاي دزونج أن أمر بالإفراج عنهم كلهم، وسن من ذلك الوقت قانوناً يقضي بالا يصادق أي إمبراطور على حكم بالإعدام إلا بعد أن يصوم ثلاثة أيام.
وجمّل عاصمة ملكه حتى أقبل عليها السياح من الهند ومن أوربا، وجاء إلى الصين عدد كبير من الرهبان البوذيين الهنود، وكان البوذيون الصينيون أمثال يوان جوانج يسافرون بكامل حريتهم إلى بلاد الهند ليأخذوا دين الصين الجديد عن مصادره الأصلية. وجاء المبشرون إلى شانجان ليبشروا بالأديان الزرادشتية والنسطورية المسيحية، وكان الإمبراطور يرحب بهم كما كان يرحب بهم أكبر، ويبسط عليهم حمايته، ويطلق لهم كامل حريتهم، ويعفي معابدهم من الضرائب، وذلك في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعاني آلام الفاقة والجهالة والمنازعات الدينية.
أما هو نفسه فقد بقى كنفوشياً بسيطاً بعيداً عن التحيز والتحكم في عقول رعاياه، وقد قال عنه مؤرخ نابه إنه لما مات حزن الناس عليه حزناً لم يقف عند حد، وبلغ من حزن المبعوثين الأجانب أنفسهم أن كانوا يثخنون أجسامهم بالجراح بالمدي والحراب، وينثرون دماءهم التي أراقوها بأنفسهم طائعين على نعش الإمبراطور المتوفي””.
أعظم عصور الصين..
ويصف الكتاب عهده بصفات مبالغ فيها: “لقد مهد هذا الإمبراطور السبيل إلى أعظم عصور الصين خلقاً وإبداعاً، فقد نعمت في عهده بخمسين عاماً من السلام النسبي واستقرار الحكم فشرعت تصدر ما زاد على حاجتها من الأرز والذرة والحرير والتوابل، وتنفق مكاسبها في ضروب من الترف لم يسبق لها مثيل. فغصت بحيرتها بقوارب التنزه المنقوشة الزاهية الألوان، واكتظت أنهارها وقنواتها بالسفن التجارية، وكانت المراكب تخرج من موانيها تمخر عباب البحار إلى الثغور البعيدة على شواطئ المحيط الهندي والخليج الفارسي.
ولم تعرف الصين قبل ذلك العهد مثل هذه الثروة الطائلة ولم تستمتع قط بما كانت تستمتع به وقتئذ من الطعام الوفير، والمساكن المريحة، والملابس الجميلة. وبينما كان الحرير يباع في أوربا بما يعادل وزنه ذهباً، كان هو الكساء المألوف لنصف سكان المدن الصينية الكبرى، وكانت الملابس المتخذة من الفراء في القرن الثامن في شانجان أكثر منها في نيويورك في القرن العشرين.
وكان في إحدى القرى القريبة من العاصمة مصانع للحرير تستخدم مائة ألف عامل. وصاح لي بو في إحدى الولائم: “ما أعظم هذا الكرم، وما أكثر هذا الإسراف في المال! أأقداح من اليشم الأحمر، وأطعمة شهية نادرة على موائد مرصعة بالجواهر الخضراء؟”. وكانت التماثيل تنحت من الياقوت، وأجسام الأثرياء من الموتى تدفن على فرش من اللؤلؤ. وكأنما أولع هذا الجنس العظيم بالجمال فجأة، وأخذ يكرم بكل ما في وسعه من كان قادراً على خلق هذا الجمال”.
الشعر..
وعن ازدهار الشعر مع الرخاء يضف الكتاب: “ومن أقوال أحد النقاد الصينيين في هذا: “ذلك عصر كان فيه كل رجل بحق شاعرا”. ورفع الأباطرة الشعراء والمصورين إلى أعلى المناصب. ويروي “سير جون مانفيل” أن أحداً من الناس لم يكن يجرؤ على أن يخاطب الإمبراطور إلا “إن كان شاعراً مطرباً يغني وينطق بالفكاهات”. وأمر أباطرة المانشو في القرن الثامن عشر الميلادي أن يوضع سجل يحوى ما قاله شعراء تانج، فكانت النتيجة أن وصل هذا السجل إلى ثلاثين مجلداً تحتوي 900ر48 قصيدة قالها 300ر2 شاعر، كانت هي التي أبقى عليها الدهر من هذه القصائد ومن أسماء أولئك الشعراء.
وزاد ما في دار الكتب الإمبراطورية حتى بلغ 000ر54 مجلداً؛ وفي هذا يقول مردك: “ولا جدال في أن الصين كانت في ذلك الوقت أرقى البلاد حضارة، فقد كانت وقتئذ أعظم الإمبراطوريات قوة، وأكثرها استنارة، وأعظمها رقياً، وأحسنها حكماً على الأرض”، “وقد شد ذلك العصر أرقى ما شهده العالم من الثقافات””.
منج هوانج – دي..
وعن إمبراطور آخر يتابع الكتاب: “وكان زينة هذا العصر كله منج هوانج – دي “الإمبراطور النابه” الذي حكم الصين نحو أربعين عاماً تخللتها فترات قصيرة كان فيها بعيداً عن العرش (713- 756 ب.م). وكان هذا الإمبراطور رجلاً اجتمعت فيه كثير من المتناقضات البشرية فقد كان يقرض الشعر ويشن الحرب على البلاد النائية، ومن أعماله أنه فرض الجزية على تركيا وفارس وسمرقند، وألغى حكم الإعدام وأصلح إدارة السجون والمحاكم، ولم يرحم من لا يبادر بأداء الضرائب، وكان يتحمل راضياً مسروراً عنت الشعراء والفنانين والعلماء.
وأنشأ كلية لتعليم الموسيقى في حديقة له تسمى “حديقة شجرة الكمثرى”، وقد بدأ حكمه متقشفاً متزمتاً، أغلق مصانع الحرير وحرم على نساء القصر التحلي بالجواهر أو الملابس المطرزة، ثم اختتمه أبيقورياً يستمتع بكل وسيلة من وسائل الترف، وضحى آخر الأمر بعرشه لينعم ببسمات يانج جوي- في.
وكان حين التقى بها في سن الستين، أما هي فكانت في السابعة والعشرين. وكانت قد قضت عشر سنين محظية لابنه الثامن عشر. وكانت بدينة ذات شعر مستعار، ولكن الإمبراطور أحبها لأنها كانت عنيدة، ذات أطوار شاذة، متغطرسة وقحة، وتقبلت منه إعجابه بها بقبول حسن، وعرفته بخمس أسر من أقاربها، وسمحت له بأن يعيّن أبناء هذه الأسر في وظائف مجزية سهلة في بلاطه”.
عشق..
وعن عشق الإمبراطور لإحدي المحظيات: “وكان منج يسمى هذه السيدة “الطاهرة العظيمة”، وقد أخذ عنها فن الاستمتاع بضروب الترف والملاذ، وانصرف ابن السماء عن الدولة وشؤونها وعهد بالسلطة الحكومية كلها إلى يانج جو- جونج أخى السيدة الطاهرة، وهو رجل فاسد عاجز؛ وبينما كانت نذر الخراب والدمار تحيط به من فوقه ومن أسفل منه، كان هو يواصل ليله بنهاره منهمكاً في ضروب اللهو والفساد.
وكان في بلاط مانج رجل تتاري يسمى آن لو – شان يعشق هو الآخر يانج جوي – في، وقد كسب هذا الرجل ثقة الإمبراطور فرفعه إلى منصب حاكم إحدى الولايات الشمالية، وأمره على زهرة جيوش الإمبراطورية. ولم يلبث آن لو – شان أن أعلن نفسه إمبراطوراً على البلاد وزحف بجيوشه على شانجان. وتداعت حصون المدينة وكانت قد طال إهمالهما، وفر منج من عاصمة ملكه”.
وتمرد الجنود الذين كانوا يحرسونه في فراره، وقتلوا يانج جو – جونج وجميع أفراد الأسر الخمس، واختطفوا يانج جوي – في من بين يدي الملك وقتلوها أمام عينيه. ونزل الإمبراطور عن عرشه بعد أن أذلته الشيخوخة والهزيمة، وعاثت جحافل آن شان الهمجية في المدينة فساداً، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها ولم تفرق بين كبير وصغير . ويقال أن ستة وثلاثين مليوناً من الأنفس قد قضى عليهم في هذه الفتنة الصماء. ولكن الفتنة أخفقت آخر الأمر في الوصول إلى أغراضها، وقتل آن لو – شان بيد ابنه نفسه، وقتل هذا الابن بيد أحد القواد، ثم قتل هذا القائد ابن له. وظلت نار الفتنة مشتعلة حتى أكلت وقودها وخمدت جذورها في عام 672، وعاد منج هوانج محطماً كسير القلب إلى عاصمته المخربة. ومات فيها بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت. وفي هذه الفترة من المآسي والحادثات الروائية العجيبة ازدهر الشعر الصيني ازدهاراً لم يكن له نظير من قبل”.