خاص: قراءة- سماح عادل
انتقل الكتاب إلى الحكي عن فن النحت في الصين القديمة، وكيف وصل الي حد من الجمال حين كان يخرج تماثيلا غاية في الروعة، إلا أن تدخلت النزعة الدينية الاخلاقية لتفسد فن النحت وتقيده ويصبح فنا بلا جمال. وذلك في الحلقة المائة والعشرة من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.
البرونز..
وعن استخدام الصينيين في الحضارة القديمة للبرونز: “ولا يكاد البرونز يقل قدماً عن اليشب في الفن الصيني، وهو يفوقه مقاما وتقديرا عند الصينيين. وتروى الأقاصيص الصينية أن الإمبراطور يو، أحد أباطرة الصين الأقدمين وبطل الطوفان الصيني، تلقى المعادن التي بعثت بها إليه الدويلات التسع الخاضعة لحكمه، وهى الخراج المفروض عليها، ثم صبها كلها وصنع منها ثلاث قدور لكل منها تسع أرجل، لها من القوة السحرية وتستطيع به أن تدفع المؤثرات البغيضة، وتجعل ما يوضع فيها من المواد يغلى بغير النار، ويخرج منها كل ما لذ وطاب من طعام وشراب.
ثم أصبحت هذه القدور الرمز المقدس للسلطة الإمبراطورية، وتوارثتها الأسر واحدة بعد واحدة، فكانت كل منها تتلقاها بعناية فائقة من التي قبلها، ولكنها اختفت بطريقة مجهولة غامضة بعد سقوط أسرة جو، وهي حادثة كان لها أسوأ الأثر في منزله شى هوانج – دي. ثم أصبح صب البرونز ونقشه فنا من الفنون الجميلة الصينية، وأخرجت منه البلاد مجموعات تطلب حصر أسمائها وتصنيفها اثنين وأربعين مجلدا. وكان يصنع منه أواني للحفلات الدينية التي تقيمها الحكومة أو يقيمها الأفراد في منازلهم، وقد أحال آلافاً من أنواع الأواني المنزلية إلى تحف فنية”.
أواني قربانية..
ويضيف الكتاب: “وليس في العالم كله ما يضاهي مصنوعات الصين البرونزية إلا ما صنع من في إيطاليا في عهد النهضة الأوربية، ولعلها لا يضاهيها من هذه المصنوعات إلا “أبواب الجنة” التي وضع تصميمها غبرتي ليزين بها موضع التعميد في فلورنس.
وأقدم ما لدينا من القطع البرنزية الصينية أواني قربانية كشفت حديثاً في هونان؛ ويرجعها العلماء الصينيون إلى عهد أسرة شانج، ولكن الخبراء الأوربيين يرجعونها إلى عهد متأخر عن ذلك الوقت وإن كانوا لا يحددون تحديداً مضبوطاً. وأقدم الآثار المعروفة تاريخها هي التي ترجع إلى عهد أسرة جو ومن أروعها كلها مجموعة آنية الحفلات المحفوظة في المتحف الفني بنيويورك. وقد استولى شى أونج – دي على معظم ما كان لدى أسرة جو من آنية برونزية لئلا يصهرها الأهلون ليتخذوا منها أسلحة. وصنع ما تجمع له من هذا المعدن اثنا عشر تمثالا ضخما يبلغ ارتفاع كل منها خمسين قدماً، ولكن هذه التماثيل كلها لم تبق منها قدم واحد. وقد صنعت في عهد أسرة هان كثير من الآنية الجميلة طعمت أحياناً بالذهب”.
تماثيل لأميدا – بوذا..
ويفصل الكتابة عن روعة الصنعة الصينية: “وليس أدل على رقي هذا الفن في الصين من أن الفنانين الذين دربوا في تلك البلاد هم الذين صنعوا عدداً من التحف التي تعد من روائع الفن، والتي زين بها هيكل هرتوجي في مدينة نارا اليابانية. وأجملها كلها ثلاثة تماثيل لأميدا – بوذا تصورها جالسة على أسرة في صورة زهرة الأزورد وهي أجمل ما وجد من تحف في تاريخ صناعة البرونز في العالم أجمع.
ووصل فن البرونز إلى ذروة مجده أيام أسرة سونج، وإذا كانت التحف التي صنعت منه لم ترق إلى ذروة الكمال فإنها قد بلغت الغاية في كثرة عددها وتباين أشكالها؛ فقد صنعت منه قدور ودنان خمر، وآنية، ومباخر، وأسلحة، ومرايا، ونواقيس، وطبول ومزهريات، وكانت الآنية المنقوشة والتماثيل الصغيرة تملأ الرفوف في دور خبراء الفن وهواته، وتجد لها مكاناً في كل بيت من بيوت الصينيين.
ومن أجمل النماذج الباقية من أيام أسرة سوج مبخرة في صورة جاموسة البحر، وقد ركب عليها لو – دزه وهو هادى مطمئن ليثبت بهذا قدرة الفلسفة على إخضاع الوحوش الكاسرة، ولا يزيد سمك جدران المبخرة على سمك الورقة، وقد اكتسبت على مر الزمان قشرة أو طبقة خضراء مرقشة خلعت عليها جمال القدم، ثم انحط هذا الفن انحطاطا تدريجيا بطيئا في عهد أسوة منج. فزاد حجم التحف وقلت جودتها، وأصبح البرونز، الذي كان مقصوراً على صنع آيات الفن في عهد الإمبراطور يو، فناً عاما تصنع منه الآنية العادية التي تستخدم في الأغراض اليومية، وتخلى في مكانته الأولى للخزف”.
النحت..
وعن النحت لدي الصينيين في الحضارة القديمة: “ولم يكن النحت من الفنون الكبرى، ولا من الفنون الجميلة، عند الصينيين. وسبب هذا أن تواضع الشرق الأقصى أبى عليه أن يتخذ الجسم البشرى نموذجا من نماذج الجمال. ولهذا فإن الذين اتخذوا صناعة التماثيل البشرية حرفة لهم وجهوا قليلا من عنايتهم إلى تمثيل ما على الأجسام من ملابس، واستخدموا تماثيل الرجال وقلما استخدموا تماثيل النساء لدراسة بعض أنواع الإحساسات أو لتصويرها، ولكنهم لم يمجدوا الأجسام البشرية. ومن أجل ذلك تراهم في الغالب قد قصروا تصوير الناس على تماثيل القديسين البوذيين والحكماء الدويين، وأغفلوا تصوير الرياضيين والسراري ممن كانوا وكن مصدر الإلهام للفنانين من اليونان.
وكان المثالون الصينيون يفضلون تمثيل الحيوانات على تمثيل الفلاسفة والحكماء أنفسهم وأقدم ما نعرفه من التماثيل الصينية التماثيل الإثنى عشر الضخمة المصنوعة من البرونز، والتي أقامها شى هوانج – دي. وقد صهرها فيما بعد أحد الحكام من أسرة هان لا يتخذ منها “فكة” برونزية. وبقي من أيام أسرة هان عدد قليل من التماثيل البرونزية، ولكن كل ما صنع منها في ذلك العهد إلا قلة ضئيلة قضت عليه الحرب أو قضى عليها الإهمال الطويل الأمد.
والتماثيل البشرية قليلة أيضا في هذه القلة الباقية، والأثر الهام الوحيد الباقي من أيام أسرة هان نقش بارز من نقوش القبور، عثر عليه في شانتونج. وصور الآدميين القليلة نادرة في هذا النقش أيضاً، وأهم ما يشغل رقعته صور حيوانات بارزة رقيقة. واقترب من هذا النقش إلى صناعة النحت التماثيل الجنازية الصغيرة المتخذة من الصلصال وأكثرها حيوانات منها قلة تمثل خدماً أو زوجات وكانت تدفن مع الموتى من الذكور عوضا عن الأزواج والخدم الأحياء.
وقد بقيت من هذا العهد تماثيل مستقلة لحيوانات منها تمثال رخامي لنمر كله عضلات يمثل اليقظة أدق تمثيل، وكان يتولى حراسة معبد اسنيانج – فو ومن هذا الدببة المزنجرة التي تشتمل عليها الآن مجموعة جاردنر في مدينة بوسطن، ومنها الآساد المجنحة المصابة بتضخم الغدة الدرقية والتي وجدت في مقابر نانكنج. وكل هذه الحيوانات والخيول المزهوة الممثلة في نقوش القبور البارزة السالفة الذكر تشهد بما كان للفن اليوناني البكتري والفن الآشوري والسكوذى من أثر في الفن الصيني، وليس فيها شيء من مميزات الفن الصيني الخالص.
الفن البوذي..
وعن الفن البوذي يواصل الكتاب: “وفي هذه الأثناء كانت الصين قد بدأت تتأثر بشيء آخر هو أثر الدين والفن البوذيين، وقد استوطن هذا الفن البوذي في أول الأمر التركستان، وأقام فيها صرح الحضارة كشف اشتين وبليوت في أنقاضها عن أطنان كثيرة من التماثيل المحطمة يضارع بعضها أكثر ما أخرجه الفن الهندي البوذي. واستعار الصينيون هذه الأشكال البوذية من غير تغيير كبير فيها، وأخرجوا على غرارها تماثيل لبوذا تضارع في جمالها ما صنع في جندارا أو في الهند.
وأقدم هذه التماثيل ما وضع في معابد يون كان الكهفية في شانسي (حوالي 490 م)، ومن أحسنها تماثيل مغارات لونج من هونان، فقد أقيمت في خارج هذه المغارات عدة تماثيل ضخمة أعجبها كلها تمثال بوذستوا الجميل، وأروعها بوذا “فيروشانا” (حوالي 672 م) الذي تحطم جزء منه عند قاعدته، ولكنه لا يزال محتفظا بروعته الموحية الملهمة. وإلى شرق هذا الإقليم في شانتونج وجد كثير من معابد الكهوف نقشت على جدرانها أساطير على الطريقة الهندية يظهر في أماكن متفرقة منها تمثال قوي لبوذيستوا شبيه بالتمثال الذي في الكهف بون ِمن، (ويرجع تاريخه إلى حوالي عام 600 م).
واحتفظت أسرة تانج بالتقاليد البوذية في النحت، وقد بلغ درجة الكمال في التمثال بوذا الجالس (حوالي 639 م) الذي عثر عليه في ولاية شنسي وأخرجت الأسر التي جاءت من بعدها تماثيل ضخمة من الصلصال تمثل أتباعا لبوذا الظريف لهم وجوه كالحة كوجوه رجال المال، كما أخرجت عددا من التماثيل الجميلة تمثل كوان- بن إله مهايانا وهو يوشك أن يتحول من إله إلى إله.
وفقد فن النحت إلهامه الديني بعد أسرة تانج، واصطبغ بصبغة دنيوية تنحط أحياناً إلى صبغة شهوانية، حتى شكا رجال الأخلاق في ذلك الوقت، كما شكا رجال الأخلاق في إيطاليا في عصر النهضة، من أن الفنانين ينحتون للقديسين تماثيل لا تقل رشاقة ورقة عن تماثيل النساء، فوضع الكهنة البوذيون قواعد للتصوير تحرم تحديد شخصية صاحب الصورة أو إبراز معالم الجسم.
النزعة الأخلاقية والنحت..
وعن إفساد النحت الصيني بسبب النزعة الاخلاقية يكمل الكتاب: “ولربما كانت النزعة الأخلاقية القوية عند الصينيين هي التي عاقت تقدم فن النحت. وذلك أنه لما أن فقد الدافع الديني أثره المحرك القوي في الفن، ولم يسمح لجاذبية الجمال الجثماني بأن يكون شأن فيه، اضمحل فن النحت في بلاد الصين، وقضى الدين على ما لم يعد في مقدوره أن يكون له ملهماً. وما أن اقترب عهد أسرة تانج من نهايته حتى أخذ الابتكار في فن النحت ينضب معينة. وليس لدينا من القطع الفنية الممتازة التي أخرجتها أسرة سونج إلا عدد قليل.
أما المغول فقد خصوا الحرب بجهودهم؛ وأما أباطرة المنج فقد نبغ في عهدهم بعض المثالين الذين أخرجوا تماثيل غريبة وأخرى ضخمة من الحجارة كالهولات التي تقف أمام مقابر أباطرة المنج. فلما ضيق الدين الخناق على فن النحت لفظ أنفاسه الأخيرة، وأخلي ميدان الفن الصيني للخزف والنقش”.