قصائد فيلنيوس – قراءة في مجموعة ( قصائد فيلنيوس ) للشاعر العراقي جمال جمعة

قصائد فيلنيوس – قراءة في مجموعة ( قصائد فيلنيوس ) للشاعر العراقي جمال جمعة

كتب : هادي الحسيني / أوسلو
اختار الشاعر العراقي جمال جمعة أسم (قصائد فيلنيوس ) كعنوان لمجموعته الشعرية الأنيقة والتي صدرت في بيروت عن الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2015 . وفيلنيوس هي عاصمة جمهورية ليتوانيا التي كانت ضمن جمهوريات الإتحاد السوفيتي قبل تفككه بداية التسعينيات . فمن يقرأ قصائد المجموعة سيشعر بإرتياح وأحلام وردية تجعله يحلق في فضاء الشعر الصافي المنبثق من روح واسلوب الشاعر العذب وهو يوثق يومياته في شوارع المدينة ولقائه بالنساء الجميلات تحت سماء رصاصية أو كما أسماها الشاعر سماء ( رمادية ) ، هكذا هي أوروبا الشمالية في فصل الشتاء تكون سمائها رمادية داكنة خاصة حين يهطل الثلج فتصبح الأجواء كئيبة ومملة ليس بسبب البرد أو الثلج إنما بسبب السماء التي تسقط لونها الرمادي على النفس البشرية وتحيلها الى صحراء أو منفى حتى على أبناء البلد الأصليين فكيف بالغرباء ؟ . قصائد المجموعة تتحرك داخل مدينة فيلنيوس فيصف لنا الشاعر رذاذ المطر الخفيف والثلج حين ينهمر في شوارع المدينة وجلوسه في المقهى والنادلة حين تأتيه بالقهوة وقطعة الشوكلاته ، تفاصيل يومية فيها شحنات حب واضحة لقلب متيم بالجمال ، يصف لنا الشاعر حبه للناس الذين يستيقظون فجراً وهم ذاهبون الى وظائفهم ، ويصف كذلك حال السكارى والمدمنين حين يتناولون فطورهم على أرائك الحدائق العامة بعد رحلة شاقة .. في مجموعة ( قصائد فيلنيوس ) يتتبع الشاعر ذاته المسكونة بالحب ، فأسمه جمال ويتبع الجمال في كل أماكن المدينة سوى كان في الشارع أو المقهى أو الجامعة التي يعمل فيها كأستاذ وعلاقاته مع طالباته المعجونات بالحب والجمال الذي أراه في أغلب قصائد فيلنيوس وهو يقفز من عيونهن . ثم يأخذ بأيدنا الشاعر جمال جمعة ويعطي القاريء درساً في الحب الإيروتيكي ، والشاعر يعتبر من أوآئل الذين نظروا الى هذا المصطلح الإيروتيكي وكسر لنا التابوات في بعض ترجماته من العربية الى الدانماركية والإنكليزية . في قصائد فيلنيوس الشاعر كان أكثر وضوحاً وذكاءً ورقة وهو يكتب قصائد مثل ( البدوي التائه ) أو قصيدة ( قارِبُ منتصفِ الليل ) وكذلك قصيدة ( الأفعى والكأس ) وثمة قصائد أخرى ..
لقد استطاع الشاعر ان ينقلنا الى عالمه الذي يعيشه في تلك الفترة التي أقام فيها في عاصمة ليتوانيا ( فيلنيوس ) وبالرغم من عدم اختلاف طرق العيش في أغلب عواصم ومدن أوروبا الشمالية ، لكنه صور لنا مشاهد كأنها تتحرك أمام أعين القارىء لنصوصه التي تفوح منها رائحة الحب وعلاقته بالحياة والوجود ككل . القارىء ينتقل مع قصائد فيلنيوس من الواقع الى الخيال وأحياناً بالعكس ليدخلنا في الخيال الشعري ونصحو على واقع جميل ، جُمله داخل كل قصيدة كأنها ملحنة عبر أوتار الموسيقى ولهذا هي تشد القارىء ويعيش معها أحلام لا تنتهي ، وما الشعر سوى بضعة أحلام لتغيير الواقع المزري الذي يعيشه الإنسان في هذا العالم .. في أولى نصوص مجموعة ( قصائد فيلنيوس ) يبدأ الشاعر جمال جمعة في قصيدة بعنوان ( لا أريد أن أكون شاعراً ) وفيها يود أن يكون شخصاً عادياً ، فهو يرفض أن يكون شاعراً أو كاتباً مشهوراً ، لا يحبذ ان تتوجه الأنظار إليه من قبل الآخرين ، وسرعات ما يسخر كثيرون منه في أي انتكاسة حتى لو كانت بسيطة أو جراء كتابته لنص ضعيف أو أي مادة أخرى . هنا يفضح الشاعر سلوكيات البعض الغير مقبولة والتي جعلت من الوسط الثقافي العراقي منبوذاً ، سواء كان داخل العراق أو خارجه . وهذه الميزة ليس داخل العراق فحسب ، إنما في أغلب دولنا العربية ، الشاعر يحلم بأن يكون حراً طليقاً لا أحد ينظر إليه حين يمشي في الشارع أو حين يدخل مقهى ليشرب فنجان قهوته ، يسير في الشوارع التي لا تؤدي الى بيته ويقف في المفترقات وتحت المصابيح ، يريد أن يكون مثل التائه الذي يغازل الجميلات العابرات ويتحدث مع الشحاذين .. في هذه الأمنيات التي جاءت في هذا النص يريد الشاعر ان يرتكب الأخطاء كيفما شاء من دون أن ينتبه إليه أحد ، هو لا يريد إعترافات من الآخرين ولا يريد منصات ولا مصفقين لقراءة قصائده ولا تكريمات ، هو مقتنع فقط بالمصاطب الكالحة وخشخشة أوراق الخريف ، ويختم نصه بأن لا يريد أن يكون شاعراً حياته عبارة عن كلمات فقط ! . فكرة القصيدة تجعل كل الذين يكتبون الشعر أن يتأملوا جيداً بما كتبه الشاعر جمال جمعة ليكون درساً مهماً في مسيرة الشاعر الذي يجب أن يمارس حياته بشكلها الطبيعي بعيداً عن النرجسية والفوقية التي يتمتع بها الكثير من الشعراء ، وما أجمل الحرية التي يتندر عليها المشاهير ، يقول الشاعر جمال جمعة في قصيدته الأولى في المجموعة ( لا أريدُ أن أكون شاعراً ) ص 5 :
( لا أريدُ أن أكونَ شاعراً
حياته كلمات، لا أريدُ أن أكونَ كاتباً مشهوراً
يُشارُ إليه بالبَنان أو الأقدام،
يستقبله الجميعُ باحتفاءٍ
ثم يسخرون منه حالما يستدير.
أريدُ أن أكونَ شخصاً عاديّاً
لا يتلفَّتُ إليه المارّةُ حينما يسير في الطريق،
عابرَ سبيلٍ ، يقطعُ الشوارعَ التي لا تؤدِّي الى بيتهِ
ويقفُ مُتلكِّئاً في المفترقات وتحت المصابيح،
تائهاً في أزقّتها المُعتمة ، مغازلاً العابرات ومُدَردِشاً مع الشحّاذين.
أريدُ أن أكونَ إنساناً عابراً ..
لا أريدُ أن أكون شاعراً ، حياته كلمات ) ..
وفي قصيدة تحت عنوان ( مطر، رذاذ خفيف ) يحدثنا الشاعر عن رذاذ المطر الذي ينعش الروح تماماً حين تكون مختنقة داخل المنزل أو في أي مكان آخر ، رذاذ المطر الخفيف يستمر نزوله في أوروبا لمدة أيام وأسابيع طويلة خاصة في فصلي الربيع والخريف ، ففي المدينة التي عاش فيها الشاعر لفترة وجيزة كأستاذ في الجامعة قادماً من مدينته ( كوبنهاغن ) التي يعيش فيها منذ سنوات الثمانينيات . لكن رذاذ المطر إن زاد على حده سيجعل من الإنسان أن يدخل المقهى أو البيت ليحمي نفسه. وبالفعل دفع الرذاذ الخفيف الشاعر الى الدخول الى المقهى بالرغم من أنه لم يكن مبتلاً ولا يرتجف من شدة البرد ، فرذاذ المطر كما قلت أحيانا يتعش الروح ، لكنه كان دليل وصول قارب الشاعر الى مرسى الحبيبة ، فدخوله المقهى بسبب رذاذ المطر هيأ لهذا اللقاء ، ثمة كرسي وحيد في طاولتها بإنتظاره ، لا يحتاج الشاعر الى استئذان في الجلوس . وعند الجلوس أمامها في نفس الطاولة وهو القادم من خارج المقهى والجو الممطر برذاذه الخفيف وقطرات المطر التي ندته وبللته على أقل تقدير ، هكذا هيأته وهو يجلس أمامها في الطاولة ويصفها بشاعرية عالية ، شعرية تنم على قدرة الشاعر في استنطاق كل من حوله بروح الشاعر العارفة للحدث الذي يقرأه قبل البوح به من قبل صاحبه ، وهكذا وصفها وهو ينظر إليها عكس حالته : فقط كانت ( مشمسة / جافة ، ودافئة ) وهي تطالع كتاباً عن أصل الكون . شعرية رائعة وقراءة ثاقبة لكل ما حول الشاعر ،. في هذه القصيدة الجميلة ( مطر ، رذاذ خفيف ) يقول الشاعر ص 11 :
( مطَرٌ، بل رذاذٌ خفيف
دفعني الى داخل المقهى
لم أكن مبلَّلاً حتى
ولا أرتجف من البرد
لم يكن سوى مطرٍ، لا بل رذاذٌ خفيفٌ
ساقَ قاربي الى مرساكِ
حيث الكرسيّ الفارغ الوحيد
ينتظرني عند طاولتك.
ولم أكن بحاجة الى استئذانٍ لأستقرَّ عليه،
لأضعَ كُوعي على طاولتك وأنظر إليك
مُشمِسَة، جافّة، ودافئة
تطالعين كتاباً عن أصل الكون ) ..
وفي قصيدة ( البدويّ التائه ) تشبيه دقيق وفيه حرفية وتصور وخيال عالٍ ، الشاعر المحب مثل بدوي تائه على كثبان الحبيبة ، تائه تحت سماء بدون نجوم ، عكس الصحراء فالنجوم تتوارى حين تكون السماء رمادية في مدينة فيلنيوس الجميلة بطبيعتها وجمال نسائها الشقراوات ، فهذا البدوي التائه يتلمس مثل الأعمى جسدها الممشوق الذي يلفه الجمال من كل حدبٍ وصوب ، فيوغل الشاعر في القُبل على شفتيها مثلما يعصر النبيذ ، ويتعلم الحساب بعد الزغب على ظهرها الذي يشبه الصحراء ، وينديها الهواء دليل القوافل المنحدرة على بطنها ولا تبتلعها الرمال التي تحيط بسرتها ! ويدخل العشب والحصان والهلال والنبع والماء والسجود والصلاة وكل ما موجود في الصحراء وما يتعامل معه البدوي ويسقطه على جسدها الجميل ، تشبيه في الحب والإروتيكية التي لا يجيد تفعيلها داخل النص بمهارة عالية مثل ما يجيدها جمال جمعة . نقلة نوعية تأخذنا الى عوالم ومناطق لا يمكن وطأتها إلا من خلال الشعر ، الشعر وحده الذي يفجر المعجزات في كل الأزمان ، الشاعر أو البدوي التائه نجح ببراعة في تصوير مشهد القصيدة التي تتفوق على مشهد سينمائي في الصورة والصوت حين جعل من جسد المرأة صحراء لم تكن قاحلة إنما مثمرة بكل أنواع الثمار الطازجة !. يقول الشاعر جمال جمعة في قصيدته الباهرة بجمالها ( البدويّ التائه ) ص 15 :
( ها أنا ثانيةً على كُثبانكِ
بَدَويٌّ تائهٌ تحت سماءٍ بلا نجوم
أتلمَّسُ كالأعمى طريقي عبركِ
تاركاً لأصابعي أن تقودني، في هذا الظلام،
الى رَوضِك.وفي كلِّ مرّة عليّ أن أكون:
تلميذاً نابهاً، يتعلّم الحسابَ بِعَدِّ الزَّغَبِ على ظَهرِكِ
وأبجديّةَ القُبَل على شفتيكِ، عاصِرَ النبيذِ
الذي يحرّر الكُمَّثرى من الأسار
مُتيحاً لحبّات الزَّبيب أنْ تلفحَها الشمسُ
ويُنْدِيها الهواءُ ، دليلَ القوافل وهي تنحدر على بطنك
فلا تبتلعها الرّمالُ المتحرّكةُ المحيطةُ بسُرَّتكِ، راعيَ القطيعِ
الذي يرعى الأعشابَ في واديكِ المُقدَّسِ ، ويقود الأمطارَ الى نبعِكِ،
عَسّالَكِ الماهرَ ، الذي يغرف العَسَلَ من قَفِيركِ
دون أنْ يوقظَ الدَّبابير. بَدويٌّ تائهٌ أنا
وحصاني الظامئُ قادني الى بئرِك.
لساني هِلالٌ على حَلَمتك ،وأنا ساجدٌ في مِحرابِ البياض
أُصلّي… الحمدُ للهِ ، الذي جعل كلَّ هذه البساتين
تحت ردائك ) ..
نقرأ أيضاً قصيدة بعنوان ( مقهى غوركي ) نسبة الى الروائي الروسي مكسيم غوركي صاحب رواية ( الأم ) التي عرفها العراقيون وقرأوها جيداً في فترات سابقة وهي تتحدث عن ثورة البلاشفة التي حولت البلاد الى النظام الاشتراكي بالضد من البرجوازية ، وكانت ليتوانيا واحدة من جمهوريات الإتحاد السوفيتي الذي كان الأقوى في العالم قبل أن يتفكك . وفي ذلك الوقت واعجاباً بهذا الروائي سميت بأسمه العديد من الشوارع والمعاهد والأبنية والمطاعم والفنادق في أغلب دول العالم ، ففي مدينة فيلنيوس عاصمة ليتوانيا ثمة مقهى بأسم غوركي يقع في شارع يحمل أسم غوركي ايضاً ، فيحدثنا الشاعر جمال جمعة عن ذلك المقهىى ذات خريف قبل أن تتغير البلاد وتنتقل من الدول الإشتراكية التابعة للإتحاد السوفيتي الى دول مستقلة ، لكن الشاعر يصف تواجد حبيبته في نفس المقهى عندما كانت بأسم آخر ! كانوا يجلسون على مائدة واحدة فحين يحرك الشاي بالملعقة ويتطلع الى وجهها من خلال بخار الشايّ ، يهيم في عينيها ، ثم ينتقل بنا الى زمن آخر بعد التغيير واستقلال ليتوانيا فيتغير أسم المقهى من غوركي الى ( تيرانو ) وكذلك يتم تغيير أسم الشارع الى ( بيليس ) . وفي هذا التغيير الذي طرأ على أسمي المقهى والشارع يقلل المقهى من خدماته للزبائن ويصبح يقدم لهم القهوة فقط ، فلا شاي ولا مشروبات أخرى كما كان في الفترة السابقة بأسمه السابق ( غوركي ) ، لكن الشاعر ينقلنا إنتقالة باهرة في جمالها حين يجلس في مقهى ( تيرانو ) وهو نفس المقهى فيحرك السكر مرة أخرى ولكن ليس في الشاي إنما يحركه في القهوة الباردة ، هكذا أراد الشاعر وبذكاء ودقة متناهية بأن يعكس برودة القهوة على الشاي الذي كان في العصر الإشتراكي ، وصاحب برودة القهوة أن الشاعر يحاول أن يتذكر أسم حبيبته بعد أن كان يتطلع لوجهها ومفتونا بعينيها ، كذلك قد نسى المقعد الذي كانت تجلس فيه ، قصيدة باهرة في جمالها وروحها وهي تجعلنا نعيش ما بين زمنين ، لكن تناول الشاعر كان أكثر من مبهر وناجح وبدقة الشعر الذي يتعامل معه جمال جمعة مثلما يتعامل الساعاتي مع الساعة أثناء تصليحها .. أدناه نقرأ قصيدة ( مقهى غوركي ) لجمال جمعة من مجموعته الشعرية ( قصائد فيلنيوس ) ص 24 :
( في خريفٍ كهذا، في هذه البلاد قبل أن تتغيّر
كنتِ هنا معي في مقهى غوركي
الذي يقع في شارع غوركي،
قبل أن يتغيّر بدوره أيضاً.
وكنتُ هنا معكِ، لكن باسمٍ آخر
أُحرّكُ الشايَ بالملعقة وأتطلّع الى وجهك
عبر بخار الشايِّ، مفتوناً بعينيك.
المقهى الآن تغيّرَ، أصبحَ اسمه: تيرانو،
والشارع الذي هو فيه تغيَّرَ الى: بيليس
وأضحى يقدّم القهوة فقط
حيث أجلس هنا الآن، ساهماً
أُحرِّكُ السكَّرَ في القهوةِ الباردة ، محاولاً تذكّر اسمَكِ
والمقعدَ الذي كنتِ تجلسين عليه ، في خريفٍ كهذا،
قبل أن تتغيّر هذي البلاد. )..
وحين يشبه الشاعر حبيبته بالثلج في قصيدة ( ثمّة شبه بينك وبين الثلج ) فبياض الثلج الذي يطغي على الأرض والأشجار في فصل الشتاء يراه الشاعر في وجه حبيبته ، كما وأن تشبيهه لها بالثلج الذي هو رمز الصفاء والعفة والجمال ، الثلج لا يبلل الحبيبة ولا يلوثها بالوحل كما يفعل المطر حين يهطل ، فأقصى ما يفعله الثلج للحبية هو أن يزحلقها ويجعلها تطير في الهواء ، ويذهب بها الى انعدام الجاذبية وهذه فرصة كما يقول الشاعر للخروج عن قوانين الأرض .الشاعر جمال جمعة كمن يوجه لنا لكمات شعرية ما بين مقطع وآخر من هذه القصيدة التي تجعلنا نطير ونحلق في الهواء مع طيران الحبيبة حين زحلقها الثلج وطارت ،. نقرأ في هذه القصيدة المقطع الأول منها الذي يقول فيه ص 30 :
( بدأ الثلجُ بالذوبان فبدأتُ أحنُّ إليه.
هنالك شيء من الطفولة في الثلج
فهو لا يبلّلكَ كالمطر
ولا يلوّثك بالوحول
أقصى ما يفعله هو أن يزحلقك
ويجعلك تطير في الهواء
مانحاً إياك لحظةً من انعدام الجاذبية،
فرصةَ الطيران والخروج قليلاً عن قوانين الارض ) ..

في قصيدة (آلهات الثلاث ) ثلاث جميلات يهبطن من السماء وينظرن صوب الشاعر الذي يفتن بجمالهن ، الجميلات الثلاث يسرن على إيقاع واحد تم دوزنته مع الموسيقى ومع قلب الشاعر وقصيدته ، يستحضر الشاعر اسطورة ميدوزي اليونانية والأخوات الثلاث الشديدات الجمال ، واللواتي كن كاهنات في معبد أثينا . جمال الآلهات الثلاث حين نظر لهن الشاعر جمّد وكذلك جمدت الأشجار حين كانت تتأملهن ، الجميلات الفاتنات يمشن صوب الشاعر بخطوات واثقة موحدة وبإقاع واحد حسب وقع كعوب أحذيتهن العالية على الأرض ، ويشبه وقع الكعوب والدوزنة بالمارش العسكري من ثلاث فيالق وليس ثلاث جميلات ، وفي الجيش الفيلق يتكون من ثلاث فرق والفرقة تتكون من ألوية وأفواج وهلم جرا ، أي أن الفيلق الواحد فيه آلاف الجنود ، فكم هي إذاً قوة الجمال بهذه الفيالق .كان الشاعر جامداً في مكانه وفيالق الجمال الثلاثة تتجلى أمامه . ولا ينسى أن يتذكر الشاعر تجلي آلهات العرب أيام الجاهلية ( اللات ، والعزى ، ومناة ) . شعرية متفوقة في كل حرفٍ وكل كلمة وجملة حتى في ختام القصيدة يبقى جامداً أمام جمالهن ويـامل برضاء وبسكينة مثل قربان مسفوك على مذابح الجمال ، لا أروع من هذه الخاتمة للقصيدة التي تشع بجمالها بفراسة غير معهودة . قصيدة ( آلهات ثلاث ) درس جديد في الشعرية العربية كما نقرأها في ص 33 :
( هبطت الآلهاتُ الثلاث
وكنّ يسرنَ صوبي ، على إيقاع واحد
مثل روح واحدة تسيّرها الموسيقى.
كنّ آتيات من بوّابة السماء
واثقات من جمالهن الميدوزيّ
الذي جمّدني،جمّد الأشجار التي كانت تتأملهنّ.
ساحراتٍ، فاتناتٍ ، يسرن صوبي
على إيقاع موحّد ، تدوزنه كعوبهن العالية.
وكما في مارشٍ عسكريّ،
مارش جيش من ثلاثة فيالق،
تجَلَّينَ أمامي ، مثلما تتجلّى الآلهات في مذابح المعابد؛
اللاّت، العُزّى، ومَناة. وكنت جامداً في مكاني
أتأملهن، راضياً، مستكيناً
كقُربان مسفوكٍ ، على مذبحِ هذا الجمال ) ..
وكما قلت سابقاً فأن الشاعر ذهب من مدينته كوبنهاغن الى مدينة فيلنيوس ليعمل كأستاذ في الجامعة فكتب عن كلبٍ لواحدة من تلميذاته وأسمها ( ميلدا ) القصيدة بعنوان ( ضمير ميلدا ) يحدثنا عن ميلدا الجميلة ذات الشعر الذهبي والذي شبهه الشاعر بحقول القمح الصفراء وغالباً ما تكون الحقول قريبة جداً من اللون الذهبي حين يقترب حصاد القمح ، ميلدا غابت عن درس الأستاذ جراء عثورها وهي في الطريق على كلب مشرَّد ، عادت به الى البيت بعد أن أطعمته وحممته وأسمته ( ضميري ) كانت فرِّحة بالكلب الذي عطفت عليه وآوته لكنها لم تأتِ الى الدرس وهي على يقين بأن الأستاذ سيغفر لها الغياب ، وهنا يتضح النبل في عذر الغائب ، عذر ميلدا للأستاذ الذي سيعرف ما قامت به من عمل إنساني وهي ترفق بحيوان مشرد لا مأوى له ، بالتأكيد أن ميلدا تعرف أستاذها يكتب الشعر ولطالما كتب عن الإنسان والضمير والحب والجمال ، ستكون متأكدة من غفرانه لها . كما نقرأ في قصيدة جمال جمعة ( ضمير ميلدا ) ص 58 :
( ميلدا، تلميذتي الأثيرةُ
ذات الشَّعْرِ الذي يشبهُ حقولَ القمحِ
حين تكون متأهِّبةً للحصادِ. ، أمسِ، لم تأتِ إلى الدرسِ
عثرتْ في طريقِها على كلبٍ مُشرَّد،
فأخذته معها وقَفَلتْ راجعةً الى البيت.
حمَّمتهُ، أطعمتهُ، وأطلقتْ عليه اسماً:
«ضميري »، هكذا بالعربيَّةِ!
أمسِ، ميلدا لم تأتِ إلى الدرسِ
وكانت على يقينٍ من أنني ،
سأغفرُ لها هذا الغياب ) ..
وفي قصيدة ( قاربُ منتصفِ الليل ) وهي قصيدة تفوح منها رائحة الإيروتيكة وبلغة عذبة ، لغة شبقة ، نسمع من خلالها آهات وأنين وتوهج الجسد ، الشاعر الذي يبتدأ رحلته في الليل ، حيث الظلام الذي لا يمكن للمركب ان يسير دون بوصلة ترشده للطرق التي سيسلكها ، لكن الشاعر لا يحتاج للبوصلة حين ينزل أشرعة المركب على جسد حبيبته .. يتحدث جمال جمعة في القصيدة عن المركب والبحر والمد والجز وربان السفينة والأسماك والنجوم البحرية وعن المحارات واللآلىء والمرجان وسواحل البحر والمضايق واشياء أخرى ، كل هذا يتخيله في جسدها وهو يبحر فيه ليلا ، تشخيص ووصف غاية في الروعة والجمال ، إن انتقالات الشاعر داخل النص في الزمان والمكان هي انتقالات مدروسة بشكل كبير ورائع ، إنتقالات لا تشعر القارىء بتوقف داخل النص بل تزيد النص رونقاً وإبدعاً ، وهذا ينطبق على أغلب قصائد المجموعة والتي هي عبارة عن وحدة متكاملة ، نقرأ قصيدة الشاعر جمال جمعة ( قارب منتصف الليل ) التي يقول يقول فيها ص 64 :
( ابتدأتْ رحلةُ الليلِ
ولا حاجةَ لبوصلةٍ أو رُبّان،
فقاربي الذي مرَّ بهذهِ الجُزُرِ كثيراً
يعرفُ طريقَه عن ظهرِ قلب.ته
يعرفُ أوقات مَدَّكِ وجَزرك،
أسماءَ أسماكِكِ ونجومِكِ البحريّة،
مواعيدَ نومِها وتورايخَ ولاداتها،
ويعرف أين تخبّئُ محاراتُكِ لآلئَها.
فلطالما طوَّفَ حول شِعابِكِ المَرجانيّة
وأبحرَ بمُحاذاةِ سواحلِها المُتَراميةِ
على امتدادِ ساقَيكِ،
عابراً مضايقَ إبطيكِ العابقين برائحةِ البحرِ
ومهتدياً بفمِكِ المتوهِّجِ في عتَمةِ الليلِ.
إنّه يمخرُ الآن بين نهديكِ،
يدورُ عليهما كمَن يريد احتلالَ الصَّواري
ورَفْعَ بَيرقِهِ الأسود عليها كالقُرصان ) ..

وفي الختام لا بد من القول ان الجمال والحب ومغامرات العاشق وحنينه وروحه المفعمة بالمحبة التي أخذت بيد الشاعر الى كتابة هذه القصائد ، وهكذا هي مجموعة ( قصائد فيلنيوس ) للشاعر العراقي جمال جمعة والتي أحتوت على أثنان وخمسون قصيدة ، قصائد مليئة بالحب والجمال والشوق لمدينة فيلنيوس عاصمة ليتوانيا التي عاش فيها كأستاذ جامعي ، لكن الشاعر ترجم مشاعره عبر هذه القصائد الباهرة وهو يؤرشف لمدينة أحبها وأحبته ، أحب نساؤها وأحبته النساء فيها ، المقاهي والشوارع والحانات والأشجار والثلج والمطر ورذاذه وأشياء كثيرة أخرى كلها أحبها الشاعر ومازال يحن لها بالرغم من أنه يعيش في عاصمة الدانمارك كوبنهاغن ، الشعر في هذه المجموعة هو المسيطر تماماً على كل القصائد واحدة بعد الأخرى ، الشعر يسيطر بمهارة الشاعر الذي صور لنا المدينة والحياة ، ولا يسعني سوى أن أقول لقد كانت كل القصائد جميلة يا جمال ..

الكتاب : قصائد فيلنيوس
شعر / جمال جمعة
الناشر : الدار العربية للعلوم ناشرون / بيروت
الطبعة الأولى : 2015
الكتاب من القطع المتوسط وب87 صفحة

أوسلو / 01/05/2021

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة