قرامطة وشيوعيون ؟ (7)

قرامطة وشيوعيون ؟ (7)

خاص : دراسة بقلم – سعيد العليمي :  

أما الدراسة المعنونة: (المجتمع القرمطي فى شرق الجزيرة العربية)؛ (45)، فهى نموذج للدعاية السياسية المعاصرة باستخدام الوقائع التاريخية. وكان من شأن حماس كاتبها أن جعل نموذج المجتمع القرمطي يتفوق؛ إن لم يكن على “ثورة أكتوبر الاشتراكية”، فعلى الأقل على “كومونة باريس”.

وقد أدت به طريقته لا إلى إضفاء رؤاه الذاتية على هذه الواقعة التاريخية فحسب، بل إلى تجاهل وقائع ما كان ينبغي له أن يتجاهلها، كوجود: 24 ألف عبد زنجي يعملون في المجتمع القرمطي في “البحرين”، وكان منشأ هذا التجاهل أنه أراد أن يفرض مثالاً شيوعيًا متعسفًا على التاريخ بدلاً من أن يفهمه ويفسره.

لقد علق “رودنسون” على مثل هذه الطريقة المنهجية؛ بالقول: “وليس لنا أبدًا أن نتهم أناس العصور الخوالي بأنهم لم يرتقوا إلى مثل أعلى لم يكن ليتطابق مع ظروف زمانهم، ولكننا لن نكون أقل بُعدًا عن المنطق إذا نحن نقلنا مثلنا الأعلى الراهن إلى ذلك الزمان وحاولنا أن نكتشفه فيه من خلال أساطير مصطنعة” (46).

إن معالجة المادة التاريخية وهي العمل الرئيس للمؤرخ؛ ينبغي أن تتميز بالموضوعية حتى تتطابق – بقدر الإمكان – مع واقع المضمون الذي يُعالجه، وعليه أن يتفادى تأثير ثقافته المعاصرة ونوازعة الذاتية أثناء دراسته لأحقاب تاريخية تختلف تمامًا عن الحقبة المعاصرة، وإلا عولجت المادة التاريخية بوصفها مادة سلبية، وزيفت حقيقتها بعد قسرها على التطابق مع فكرة مسيطرة قبلية.

ويُحذر “كارل كاوتسكي” من الأخطاء المنهجية التي تُهدد السياسي العملي إذا ما اشتغل بالبحث التاريخي؛ وهي تتمثل في منزلقين، أولهما رؤية الماضي وفق صورة الحاضر؛ وثانيهما حصر البحث في إطار وعلى ضوء الاحتياجات السياسية العملية. وهو إذ يُصبح حكمًا أخلاقيًا أو محاميًا مدافعًا عن الظاهرة موضع الدراسة؛ فإنما يفعل ذلك لا لسبب سوى أنه متبنٍ أو مدافع عن ظاهرة مماثلة في الحاضر. رغم أن هذه المماثلة ظاهرية لاختلاف المضمون التاريخي لكل منهما (47).

كتب “بليخانوف”: “وحيثما يكون على المؤرخ وصف الصراع بين قوى اجتماعية متضادة؛ فإنه سيتعاطف حتمًا مع طرف أو آخر، ما لم يكن هو ذاته قد أصبح متحذلقًا بغيضًا، ومن هذه الوجهة سيكون ذاتيًا سواء تعاطف مع الأقلية أو مع الأغلبية، لكن مثل هذه الذاتية لن تمنعه من أن يكون مؤرخًا موضوعيًا كاملاً إذا لم يبدأ في تشويه تلك العلاقة الاقتصادية الواقعية التي نمت على أساسها تلك القوى الاجتماعية المتصارعة. وحين ينس صاحب المنهج الذاتي هذه العلاقات الموضوعية، فإنه لن يُبرز سوى تعاطفه الغالي أو نفوره الرهيب” (47).

والواقع أن البروليتاريا القديمة في مجتمعات القرون الوسطى قد خاضت صراعاتها الطبقية في بيئة تاريخية مغايرة تمامًا، وتمايزت مضامينها وإيديولوجيتها وأهدافها بما لا يمكن معه مقارنتها بالبروليتاريا المعاصرة؛ سواء من وجهة نظر محبذة أو رافضة، واعتماد ذلك المنهج لدى بعض الكتاب قد أدى بهم إما إلى أخذ حقائق منعزلة، وتفادي التعمق في جميع الوقائع المنسوبة إلى النموذج القرمطي، أو إلى التسليم بأقوال المؤرخين والفقهاء مادامت تتسق مع ميولهم الذاتية دون تحقيق أو تمحيص. وهكذا حلت لديهم صورة جمالية لهذه التجربة التاريخية محل العلاقات الموضوعية التي تجاهلوها. وكما قيل فإن الوقائع إذا ما أخذت خارج إطارها وعلاقاتها، وإذا ما كانت مجتزأه وانتقائية؛ فما هي سوى لعبة.

من ناحية أخرى؛ يمكن القول إن الباحث الذي يُسهم في الصراع الطبقي المعاصر يمكنه بشكل أفضل من أي أكاديمي أن يفهم الدوافع الحقيقية اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية لحركات المعارضة في مجتمعات ما قبل الرأسمالية. وبصدد حركة مثل “حركة القرامطة” فإن طبيعة توجهاتها الاجتماعية وبعض من مواقفها الإيديولوجية والسياسية يمكن فهمها على نحو أعمق خاصة بنيتها التنظيمية ومراتبها، أساليب دعوتها، استتارها وسريتها، من قبل المناضل السياسي العملي في ظل دولة بوليسية معاصرة، خاصة إذا ما كانت له توجهات اشتراكية.

وقد خصص الكاتب الراحل؛ “حسين مروة”، بضع صفحات قليلة لـ”القرامطة” في كتابه: (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية)؛ (49)، وبالطبع لم يكن كتابه مخصصًا لبحث مثل هذه الحركات، فجاء ما كتبه تليخصًا لبعض ما كتبه الباحثين الذين سبقوه في تناول الموضوع. وقد أدان أعمال التخريب وسفك الدماء التى ارتكبتها “جمهورية” البحرين القرمطية؛ سواء في “مكة” أو “الكوفة” أو “البصرة”؛ دون أن يُلاحظ ارتباطها بمواقف الخلافة العباسية القمعية ذاتها، والتي لم تكن أقل تخريبًا أو سفكًا للدماء.

ومن الدراسات الرصينة التي صدرت؛ ينبغي أن نذكر الكتاب المعنون: (قرامطة العراق في القرنين الثالث والرابع الهجريين)؛ (51)، للباحث “محمد عبدالفتاح عليان”، وقد كان الكتاب في الأصل رسالة ماجستير، والواقع أن الكاتب تصدى لعديد من المشاكل المتعلقة بالموضوع وحاول أن يُقدم رؤى جديدة مستفيدًا بالمصادر المتاحة، ولكن فهمه للطبيعة الطبقية لـ”مشاعة القرامطة” في “الكوفة” لم يتجاوز إيراد الأوصاف الظاهرية لما طبقه “حمدان بن الأشعث”. كما أن الكاتب قد غالى أحيانًا فى الاعتماد على اجماع مؤرخي العصور الوسطى بشأن صحة ودقة بعض الوقائع.

ومن الأبحاث الموضوعية؛ ذلك القسم الذي خصصة الدكتور “محمود إسماعيل”؛ لـ”القرامطة”، في كتابه: (الحركات الاجتماعية في الإسلام)؛ (52). وقد أثار بحثه ضجة عظيمة في أوساط السلفيين حين صدوره.

ونأتى أخيرًا الى واحدة من أهم الدراسات التي صُدرت عن “القرامطة” في الأعوام الأخيرة؛ وهي المعنونة: (الإسماعيليون في المرحلة القرمطية)؛ (53)، للباحث “سامي العياش”. وأعتقد أن هذه الدراسة تعكس أصالة عميقة واستقلالية في التفكير والاستنباط، وهي تتعرض جديًا لكثير من المشاكل المُثارة في حقل موضوع البحث. وربما كانت الإضافة الأساسية التي قدمها الباحث هي محاولة تفسير الفكر الإسماعيلي برده إلى جذوره الماديه الواقعية، وهي محاولة تحفل بكثير من المصاعب، ولكنه حقق فيها نجاحًا لم يسبقه فيه أحد. وهي بكل المقاييس تُعتبر اسهامًا وإضافة جدية في موضوعها ولا يُقلل من أهمية الدراسة: “التوقف في حسم طبيعة التشكلية الاقتصادية الاجتماعية بالكوفة، وبالأحرى النظام الذي أقامة القرامطة في البحرين”.

وبعد؛ فإن هذا ينقلنا إلى خطة البحث ومشكلاته. تتطلع هذه الدراسات إلى تحليل تجربة “القرامطة” الثورية على ضوء النظرية المادية التاريخية. وهي إذ تستند إلى الإنجازات التي حقهها المستشرقين، والكُتاب العرب الذين أسهموا إلى هذا الحد أو ذاك بدرجات متفاوته في حل عديد من مشكلات البحث التاريخية المتعلقة بهذه الحركة الراديكالية، فإنها وهي تستند على المعارف التي قدمتها الأبحاث الأخيرة لن تتعرض إلا بشكل جزئي لما سبق أن تناولوه، بحيث لم يُعد هناك – على الأقل حتى الآن – ما يمكن إضافته. وعلى سبيل المثال حروب “القرامطة” وجوانبها العسكرية. ولأن تفسير الجانب الاجتماعي الاقتصادي من الحركة ذاتها وشكل النظام المشاعي الذي أقيم سواء في: “الكوفة”؛ بـ”العراق”، أم في “البحرين”، لم يلق إلا اهتمامًا وصفيًا ظاهريًا من معظم الباحثين، ولم يتجاوز إيراد السمات التي سبق أن أشار لها المؤرخون القدامى، فإن هذه الدراسة سوف تتخذ هذا الجانب بالذات موضع التركيز. ولا شك أن دراسة التجربة في حد ذاتها وتحديد هويتها الطبقية لن يتأتي إلا من خلال تشخيص البيئة التاريخية التي أحاطت بها، ونوعية التشكلية الاجتماعية الاقتصادية في ظل الخلافة العباسية، خاصة وأن هناك آراء متباينة لدى الباحثين العرب بهذا الصدد، فهي أحيانًا اقطاعية، أو رأسمالية بيروقراطية راكدة أو نمط خصوصي للإنتاج آسيويًا، أو خراجيًا أو عبوديًا، أو هي خليط من هذه جميعًا. وقد أثرت النقاش بصفة خاصة حول هذه القضايا تلك المناظرة التي بدأت في مطالع الستينيات ورافقت بروز دور العالم الثالث حول طبيعة المجتمعات ما قبل الرأسمالية في بلدانه. وهي المناظرة التي تمركزت في الشطر الأعظم منها حول نمط الإنتاج الآسيوى وأسهم فيها عدد الباحثين العرب ببعض الأبحاث، وترواحت مواقفهم بين القبول المطلق لهذه المقوله أو رفضها .

ورغم أن المادة التي نعتمد عليها في بحث “حركة القرامطة”؛ هي مادة سبق اكتشاف معظمها وشكلت محتوى تآليف عديدة، الا أنها مادة قابلة للقراءة بطرق مختلفة وفقًا للمنهج في رصد وقائعها، وخاصة وأن معظم الأبحاث التي اتخذت “القرامطة” موضوعًا لها قد أفتقد الترابط الداخلي لعدم استنادها بصفه أساسية على دارسة “حركة القرامطة” الثورية هذه؛ إنطلاقًا من الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية، وواقع العلاقات الفعلية بين الطبقات المتصارعة، ولتصويرها المؤسسات السياسية والأفكار الإيديولوجية، والصراعات العرقية، والتوجهات الدينية والسياسية باعتبارها هي العوامل الأساسية المحركة لهذه الثورة.

تنقسم الدراسة إلى خمسة أقسام رئيسة، الأول يستعرض الخط الأساس في التطور التاريخي من الناحية الاجتماعية الاقتصادية للدولة الإسلامية، ويكشف طبيعة المنازعات الدينية والفقهية والكلامية باعتبارها انعكاسًا للصراع الاجتماعي الذي فاقمته في البداية الفتوحات الإسلامية بين أطراف وأجنحة وقوى اجتماعية مختلفة في: “الجماعة الإسلامية؛ والتي لقيت امتداداتها المنطقية بعد وفاة الرسول، وبصفة خاصة بعد خلافة عثمان، والتي تكرست بعد إقامة الدولة الأموية”. ويصور هذا القسم التحولات التى اعترت الإرستقراطية القبلية القرشية خاصة، ورموز المجتمع الإسلامي الذين أصبحوا سادة للدولة الوليدة، باعتمادهم اقتصاديًا على شعوب البلدان المفتوحة، الذي أسهم في تعميق التمايز الاجتماعي داخل الجماعة الإسلامية ذاتها. وذلك يقود إلى رسم ملامح فرق المعارضة التي ظهرت، وتشخيص طبيعة الانتفاضات التي قامت ضد الأمويين، وتبيان محتواها الاجتماعي. وخاصة المعارضة التي حمل لواءها الفرعان العلوي والعباسي بالطبقات الاجتماعية التي انطوت تحت لوائهما. وجدير بالذكر أن هذه الفترة تترافق مع انتقال الدولة الإسلامية من العبودية إلى الإقطاع.

أما القسم الثاني؛ فيعالج التشكيلة الإقطاعية في دولة الخلافة العباسية بهياكلها الإنتاجية المختلفة؛ ويُناقش الآراء التي طرحت باعتبار وجود نمط آسيوي للإنتاج، أو نمط عبودي، أم خراجي، مع التركيز على الطبقات الاجتماعية والمراكز التي تُشغلها في عملية الإنتاج الاجتماعي، أشكال الملكية، بيروقراطية الدولة، الرأسمالية التجارية والمصرفية. باختصار أوضاع الصناعة والزراعة والتجارة والري والأشغال العامة، وخاصة أوضاع البروليتاريا القديمة، الفلاحون الأحرار والحرفيون ثم الأقنان والعبيد، الأعراب. وأشكال إقتطاع المُنتج الفائض من ضرائب وخراج وعشور ومكوس، وعوامل تدهور الوضع الاقتصادي عامة.

والقسم الثالث يتناول الإيديولوجية السائدة، وأشكال المعارضة الثورية في ظل الخلافة العباسية؛ إبان القرنين الثالث والرابع الهجريين، سواء اتخذت شكل الانتفاضة المسلحة مثل “الحركة البابكية”، أو “ثورة الزنج”، أو اتخذت شكل النِحل الصوفية، أو الهرطقات الدينية ذات الطابع الإلحادي، ومغزاها كأدوات في الصراع باعتبارها قد اتجهت نحو أسس السلطة لتجريدها من هالتها القدسية.

ويتعرض القسم الرابع؛ لتبيان الظروف الاجتماعية التي أسهمت في بروز “القرامطة” بأصلها الشيعي الإسماعيلي، وخصوصية مدينة “الكوفة” بمميزاتها الطبقية والفكرية. وإيضاح المحتوى الثوري المشروط تاريخيًا للفكر الإسماعيلي بتحديد ملامح التطور التاريخي للشيعة الإسماعيلية، وخاصة أهم أطروحاتها عن دولة “الإمام المهدي”: أى السلطة المقبلة: “والتأويل الباطني كأداة إيديولوجية تُضفي التجانس على وعي الأعضاء المنخرطين في الحركة وبلورة آراء مناقضة، الهيكل التنظيمي للدعوة بما يتضمنه من طرح لإمامة الاستقرار والاستيداع، ومراتب الدعوة، والأساليب المتبعة في اجتذاب المستجيبين. ثم تحديد الطبيعة الطبقية لمشاعة الألفة بـ”الكوفة” ومقارنتها بتجارب تاريخية مشابهة، وبصفة خاصة التنظيمات الاجتماعية التي أقامها المسيحيون الأوائل وأصولها في الفرق اليهودية السابقة، وكذلك “الحركة المزدكية” الفارسية، فضلاً عن المشاعات التي أقامتها مجموعات الفلاحين في “ألمانيا” القرون الوسطى، ثم مقارنة أخيرة بين طوباوية الفكر القرمطي وطوباوية الاشتراكيات ما قبل الماركسية. وسوف يكون لزامًا علينًا أن نناقش مسألة الموقف من العائلة، وخاصة وضع المرأة وظاهرة الحب الحر، ردًا على ما أشيع من الفقهاء القدامى والمؤرخين عن إباحية “القرامطة” وغلوهم في ذلك .

وإذا كان القسم السابق؛ يتمركز بصفة أساسية على حركات القرامطة في “العراق”، فسوف يتعرض بشكل جزئي إلى حركاتهم في “الشام” و”اليمن”. وينتهي بتحديد أسباب هزيمة هذه الانتفاضات، وأساليب دولة الخلافة في قمعها بما يتضمن ذلك من مناقشة طبيعة وحدود الوعي “البروليتاري”، في مجتمعات ما قبل الرأسمالية – أي الطبيعة التاريخية للعصر.

ويُخصص القسم الخامس لبحث “تجربة القرامطة” في “البحرين” بتحديد التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية للبلاد في القرون الوسطى؛ والتي تميزت بعزلة جغرافية عن مركز الخلافة، وتاريخ حركات المعارضة الثورية فيها، ثم أسباب وعوامل ظهور “دولة القرامطة”؛ الذي يعود إلى الشروط المادية التي أحاطت بها خلافًا لمشاعة “الكوفة”. ثم علاقة “القرامطة” بالإسماعيلية الفاطمية، والطبيعة الاجتماعية والسياسية للنظام القرمطي وحدوده التاريخية، ونوعية “المشاعة”، التي أقيمت، ومغزى الملكية العامة، الأشكال التعاونية التي ظهرت وصراعاتها السياسية الداخلية والخارجية.

وتختتم الدراسة؛ بتبيان الأفق التاريخي لمثل هذه الحركات التي يستحيل عليها أن تتخطى حدود العصر. وأن المآل الذي انتهى إليه الصراع الطبقي ذاته كان ضرورة ناجمة عن الظروف التاريخية للحياة الاجتماعية التي عاشتها الطبقات التي خاضت هذا الصراع التاريخي.

وبعد؛ فإن هذا ينقلنا إلى مشكلات البحث. ويمكن القول بأنه ما من مقدمة لأي من الكُتاب المحدثين قد خلت من الإشارة إلى مشكلات البحث حول “حركة القرامطة” خصوصًا، والفكر الإسماعيلي عمومًا، ويمكن أن نُعدد بعض هذه المصاعب التي تحول دون تقديم صورة تاريخية تتطابق مع الوقائع التاريخية ذاتها؛ فيما يلي:

أولاً: تقوم أول هذه المصاعب في حقيقة أن معظم المؤلفات التاريخية التي كُتبت عن “القرامطة” قد صُنفت من قبل كتاب معادين لها، وهي تُمثل وعيهم بها ورد فعلهم إزاءها أكثر مما تُمثل واقعهم التاريخي الفعلي. وإضافة إلى سوء فهم مذهبهم ورده إلى “الدهرية” أو “الثنوية”، فإن الجانب المذهبي هو الذي حظي بالأهمية، فضلا عن الفعالية الحربية بوجهها الصدامي مع الخلافة، وأهمل تقريبًا ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية.

ثانيًا: تجاهل الكُتاب، أو لم يعوا جذور الخلافات واعتبروها خلافات دينية غالبًا وفقهية أحيانًا، وهكذا أعطى المقام الأول خاصة في كتب الفرق والمقالات للخلافات المذهبية، وكان منطقيًا أن تدور الردود الإسماعيلية على ذات المحور. فقضايا مثل “الإمامة” أو “التأويل” أو “التفسير الفلسفي الإسماعيلي” للكون عامة باعتباره يكشف عن الطابع الإلحادي من وجهة نظر السُنة هو الذي حظي بالقسم الأعظم من الاهتمام بما فيه مجوسيتها المدعاة وبالطبع لم يع “القرامطة” تمامًا جذور مواقفهم، فكانت ردودهم بالتالي على الهجمات السُنية تظهر وكأن الصراع قد كان صراع أفكار مجردة لا علاقة له بالمصالح الواقعية للطبقات المعدمة؛ وبذلك الفرع العلوي المضطهد، ولذا بدا الصراع بين القوى الاجتماعية المتعارضة داخل إطار “الإسلام”، وكأنه صراع حول تأويل القرآن أو السُنة، أو حول شروط الإمامة ومواصفاتها ومدى عصمة الإمام، أو حول ميراث البنت، أو عدد التكبيرات على الميت أو صيغة الآذان.. إلى آخره، وفي الواقع لم يُدر الصراع الدموي بين الفئات المتصارعة حول تباينها في فهم هذه المقولات إلا ظاهريًا، وإنما دار حول المصالح الواقعية التي يمكن فهمها بالنفاذ إلى جوهر الشروط المادية واستجلاء الدوافع الكامنة خلف هذه المقولات الفكرية.

ثالثًا: نسب المؤرخون القدماء منشأ كثير من الحركات الاجتماعية إلى أفراد ذوي قدرات خارقة فوق بشرية معتمدين غالبًا على تبني التفسير التآمري للتاريخ. الذي يجعل شخصًا أسطوريًا مثل: “ابن سبأ”، سببًا لنشوء المعارضة ضد الخليفة الثالث؛ “عثمان”، أو لنشأة الشيعة. كما أن بعض المؤرخين قد اعتبر “ميمون القداح”؛ وابنه “عبدالله”؛ (حيث وصفا بأنهما ثنويين من نسل ديصان) سببًا في نشأة حركة اجتماعية كبرى كـ”الإسماعيلية القرمطية”، التي يمكن تفسيرها في الواقع بدون وجودهما بتبيان مصادرها ودوافعها. وقد كان من الممكن أن تختلف مواقف المؤرخين لو أنهم نظروا الى هذه الحركة الاجتماعية وأيديولوجيتها الاسماعيلية باعتبارها نتاجا للشروط المادية بدلاً من نسبتها إلى مواهب فرد خارق، أو بالأحرى إلى شيطانيته.

رابعًا: تباين روافد الفكر الإسماعيلي ذاته لدى أسلاف “الإسماعيلية”، حيث اتخذت هذه الروافد في بعض الأحيان وبعد انضواءها تحت لواء الفكر الإسماعيلي شكل انحرافات عن المذهب الأصلي، وخاصة نظرًا لتشعب الحركة في مناطق نائية متعددة عن مركز الدعوة، وإرتكازها على فئات اجتماعية متابينة، وعلى أصول آثنية متنوعة، وخضوعها لكثير من المؤثرات والتفاعلات مع المذاهب أو الفلسفات الأخرى. وقد لعبت المواريث التاريخية دورها لدى جماعات معينة لها سماتها الخاصة. وقد انعكس ذلك بالطبع على أفكارها وتوجهاتها، فضلاً عن أن كثيرًا من الأعمال الفكرية قد تطورت تاريخيًا، وهي من ثم تعكس مرحلة من المراحل التي مرت بها الحركة. أضف إلى ذلك أن المقولات المذهبية عامة، قد يتغير معناها ومحتواها عبر التاريخ، وهذا لا يستبعد بالطبع وجود تماثل ظاهري بينها، بما يعني أنها قد عكست ولبت احتياجات مختلفة في ظروف متغايرة، فكل فكرة قد تتخذ دلالة جديدة تتمايز عن دلالاتها القديمة. وفي ظروف المفهوم السابق يصعب التمييز ما بين العناصر والروافد التي شكلت الفكر الإسماعيلي مثل: “الحنفية، والكيسانية، والمباركية والخطابية” – وهم أسلاف الإسماعيلية، وتداخل تلك الشعب التي انبثقت منها وكونت ملامح مميزة مثل: “القرامطة، والحشاشين والدروز، والنصيرية”. ومهما يكن من شيء فإن تمييز المحتوى الاجتماعي للمقولات الفكرية وتصنيفها على هذا الأساس هو المعيار الذي يجنب من الانزلاق إلى الإعتقاد بثبات الأفكار رغم انصرام العصور.

خامسًا: لقد ظلت “حركة القرامطة” الإسماعيلية؛ لفترات طويلة في دور الاستتار وكانت حريصة على إخفاء إيديولوجيتها وإمامها ودعاتها، بل إنها لم تكشف عن أفكارها الأساسية جميعًا للمنضمين إليها، وإنما ارتبط الكشف عنها بتدرج المستجيب فى مراتب الدعوة. ولا شك أن الاضطهاد الشديد الذي ووجهت به هو الذي ألجأها إلى ذلك. وتاريخ الشيعة عمومًا حافل بأنباء قتل زعمائها وسجنهم وسمهم. لذا كان الزعماء من كبار الدعاة؛ وعلى رأسهم “الإمام”، يتسمون بأسماء مختلفة تمويهًا على “أضدادهم” من المناوئين متكتمين أحوالهم وحركاتهم، مرسين تقليدًا محكمًا للعمل السري في ظل الخلافة التي اعتبرت غير شرعية.

سادسًا: نادرًا ما تُشير الكتابات الإسماعيلية إلى “القرامطة”؛ وحتى التاريخية منها قليلة الفائدة؛ فيما يتعلق بتاريخ بدايات الحركة، حيث كتب أغلبها بعد انتصار الدولة الفاطمية.

ويمكن القول؛ رغم ما سبق أننا في وضع أفضل من وضع الرواد الذين بحثوا في تاريخ “الحركة الإسماعيلية القرمطية”، فعلى الأقل نحن ننطلق الآن استنادًا على إنجازاتهم سواء في كشفهم للمخطوطات الإسماعيلية وتحقيقها، أو على دراساتهم بالنتائج التي بلغوها في هذا الجانب أو ذاك. وأسهمت في تحقيق تقدم غير مسبوق. وينطبق هذا على كتابات المعاصرين من مستشرقين وعرب. ولا شك أن البوادر التي ظهرت على شكل محاولات لتطبيق المفهوم المادي للتاريخ على هذا الحقل أو ذاك من جوانب التراث يُسهم في كشف الروابط السببية بين الظواهر الاجتماعية وتجلياتها الفكرية وسوف يُقدم تشخيصًا واقعيًا لهذه الظواهر الثورية.

وإذا كان الباحثون قد عانوا بعض المصاعب في بحث الطبيعة الاجتماعية لمشاعيات “القرامطة”؛ فذلك لأنهم لم يستعينوا بالتجارب المشابهة التي كان يمكن أن يقارنوها بها ومن ثم كان بمقدورهم استخلاص ما هو جوهري وما هو عرضي فيها.

وإذا كان من الخيالي أن يوجد ذلك المنهج الذي يمكن أن يحل بضربة واحدة مشكلات البحث في التاريخ العربي الإسلامي، فإن المادية التاريخية رغم أنها بدأت بدخول هذا الحقل من وقت قريب؛ مقارنة بالمدرسة السلفية على تنوع طرائقها، فإنها الأقدر على أن تتغلب على مشكلاته أكثر من المدارس الأخرى صاحبة الاتجاهات المثالية أو اللاهوتية في التاريخ.

ولا شك أن تضافر جهود الباحثين الذين بدأت أعمالهم تظهر في العقدين الآخرين ممثلين تيارًا جديدًا يمكن أن يؤدي إلى انقلاب فكري في منهج البحث في التاريخ الإسلامي؛ وهو الذى لا يمكن إعادة كتابته بحال من الأحوال من قبل باحث فرد مهما اتسع نطاق معرفته. وخاصة وأن هذا التاريخ ذاته مازال من الناحية الأساسية عبارة عن مادة مجمعة إلى هذا الحد أو ذاك، وغير منظمة، ولا يربطها رابط فكري أو منهجي.

لذا فمهمة كتابه تاريخ المضطهدين مازالت تنتظر من يتصدى لها.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة