خاص : دراسة بقلم – سعيد العليمي :
يعود بي هذا النص – الذي لم يكتمل – في الزمن إلى أربعة عقود مضت تقريبًا – كنا نحن أعضاء وكوادر “حزب العمال الشيوعي المصري” قد انخرطنا نقاشًا ومناظرة حول نمط الإنتاج الآسيوي، وكان ذلك انعكاسًا لندوة جرت بين ماركسيي العالم حوله في “باريس”، مصدرها الوضع الذي اتخذه العالم الثالث في السياسة الدولية؛ وخاصة ما سُمي “حركات التحررالوطني”. وفي منتصف السبعينيات بدأت موجة من الكُتاب ذات تلاوين ديموقراطية وماركسية مختلفة تخترق حقل التراث العربي الإسلامي باحثة فيه عن الفكر الديموقراطي الثوري. فمن “أحمد عباس صالح” و”محمد عمارة” و”حسن حنفي”؛ إلى “حسين مروة” و”الطيب تيزيني” و”توفيق سلوم”، نشأت موجة قوية أخرجت التراث من أيدى التقليديين (سبق هؤلاء بكثير: “فيصل السامر” العراقي، و”أحمد علبي” اللبناني). ووصلت إلى أيدينا؛ آنذاك، دراسة صادرة عن مجلة (الجزيرة الجديدة)؛ لسان حال “حزب الشعب الديموقراطي” (السعودي !)، عن “القرامطة” في شرق الجزيرة العربية. بعد قراءتي حلقاتها الأربع أصبحت تراثيًا ! بذلت الكثير حتى أقتنيت مكتبة تراثية تتمحور حول الحركات الثورية وانتفاضات المضطهدين في القرون الوسطى – حركات: “البابكية والزنج والقرامطة” – وانهمكت فى قراءة الأصول والمصادر لسنوات وتوالت مكتشفاتي للعقلاني من الكتابات التراثية من “المعري” و”ابن الريوندي” و”الرازي”؛ حتى “أبوحيان التوحيدي” و”البيروني”. وعزمت أن أكتب كتابًا عن “القرامطة” لم أكتبه أبدًا – ولكني كنت قد شرعت في جمع المادة وتكوين الأفكار وكان يُفترض بهذا النص المنشور هنا؛ أن يكون تقويمًا نقديًا للمصادر والمراجع عن الموضوع حتى تاريخه. ويالدهشتي أن أجد بعض الكتابات الصادرة قريبًا تُكرر ما سبق أن كتب منذ عقود دون أدنى تمحيص نقدى بل وبإجترار لما تردد من إسقاطات تاريخية على واقع ومستوى للتطور الاجتماعي مختلف. يحمل هذا النص بذور الخطوط التي كنت سأستهدي بها. وبعد أن أعدت القراءة وجدتني مازلت مقتنعًا بما كتبت. فقد وضع “القرامطة” فوق التاريخ لأسباب سياسية معاصرة جعلت الكثيرين يُهدرون مبدأ ماديًا أساسيًا؛ وهو مبدأ التاريخية. لقد آثرت نشر النص كما هو لعل أحدًا يستلهم بعض أفكاره على تواضعها.
انتفاضات “القرامطة” وتنظيماتهم الاجتماعية فى القرنين الثالث والرابع الهجريين
نظرة على الأصول والمصادر..
مقدمة
إن السمة المميزة لتاريخ العصور الوسطى الإسلامية – في القرنين الثالث والرابع الهجريين – هو أنه كان قبل أي شيء آخر، تاريخ احتدام الصراعات الطبقية والمعارك الإيديولوجية الدينية والفلسفية، أو هو تاريخ الثورات العامية التي خاضت غمارها طبقات المجتمع الدنيا من فلاحين وبدو وحرفيين وعوام وعبيد. من عرب وزنج وفرس وأنباط وأكراد. هو عصر الهرطقات الدينية، والنحل الصوفية، والتمرد على الشريعة، والمهديين المنتظرين، هو دور الإستتار والتُقية في مدن الضلالة من أئمة الجور. وهو بعد كل شيء عصر القلق الاجتماعي والانتفاض المسلح والحروب الضاربة التي زعزعت سلطة الخلافة العباسية.
وهذه الدراسة إذ تتخذ موضوعًا لها انتفاضات “القرامطة” بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والفلسفية، وتنزع قدر الطاقة إلى تقديم رؤية شمولية للحركة الاجتماعية الأبرز في انتفاضات القرنين الثالث والرابع الهجريين؛ والتي كانت ذات طابع (خاص) ميزها عن كل ما سبقها من حركات مثل انتفاضتي: “البابكية” و”الزنج”، فهي لا تفعل ذلك بهدف أن تكون عملاً من أعمال البحث الأكاديمي التاريخي، كما أنها بالأحرى لا تُصدر تلبية لنزعة غرائبية هدفها اقتناص طرائف التاريخ، وفي الواقع فإن موضوعها يُعبر عنه تساؤل الشاعر الفارسي؛ “جلال الدين الرومي”، في إحدى قصائده التي وردت في ديوانه، (المثنوي)، حيث يقول:
.. هل يرسم أي رسام صورة جميلة حبًا في الصورة نفسها دون أن يأمل في المنفعة من وراءها ؟
وهل يصنع الفخاري جره على عجل حبًا في الجرة نفسها دون تفكير في الماء ؟..
والحال أن هذه الدراسة تنطلق من موقع إبراز الجانب الاجتماعي الثوري من تراثنا، وكشف المضامين الديمقراطية فيه بحدودها النسبية التي حتمها العصر، وهي تُحاول أن تُعيد إلى ذاكراتنا منهج الأسلاف الذين طرح عليهم عصرهم مشاكله الاجتماعية والفكرية والمذهبية فحاولوا أن يحلوها وفق شروط زمنهم ووعيهم، فهم حسبما تقول الحكمة التوحيدية الشريفة على لسان؛ “حمزة بن علي”، أحد دعاة “الحاكم بأمر الله”؛ وصاحب رسالة (السيرة المستقيمة):
“.. .. حسب طاقتهم ومبلغ مادتهم من الزمان تكلموا، وعلى مقدار المكان والإمكان تعلقوا ونطقوا.”.
وهم أيضًا؛ وإن كانوا قد استمدوا شكل فكرهم من الماضي فقد أضفوا عليه مضمونًا مستقبليًا أرتبط بتناقضات واقعهم الحى وكاد المحتوى فيه أن يتجاوز الشكل.
لقد استطاعت حركة “القرامطة”؛ استنادًا إلى فكرها الشيعى الإسماعيلي الباطني أن توظف أشكال الاستياء الاقتصادي والاجتماعي والديني، وخاصة بتبنيها حق “العلويين” (الشرعي) في الخلافة، في اتجاه الإطاحة بـ”الخلافة العباسية”، وابتدعت مذهبًا مزج بين العديد من العقائد الدينية الشرقية وبين بعض المذاهب اليونانية الفلسفية، وكان آداتها فى ذلك تنظيم سري شديد الفعالية لا يُماثله في أحكامه سوى تلك التنظيمات التي رافقت حروب الفلاحين في “ألمانيا” في القرون الوسطى. وقد استطاع مؤرخو العصور الوسطى أن يدركوا خطر هذه الحركة على النظام الاجتماعي؛ وخاصة ما استهدفته من نشدان المساواة الاجتماعية وشيوع الملكية، وتمكنوا من إدراك الطابع المشترك الذي يجمع بين انتفاضة “بابك الخرمي”، و”ثورة الزنج” وبين “حركة القرامطة”. يقول (مؤلف مجهول): “وقيل إنه لم يكن في الإسلام حادث أضر بالإسلام والمسلمين من ظهور؛ بابك الخرمي، بتلك المقالة التي تفرع عنها القرامطة والباطنية إلى اليوم، ومن ظهور الورزنيني المعروف بعلوي الزنج، على أنه أيضًا إلى مقالة بابك الخرمي أسند أمره”. (العيون والحدائق، ج 04، ق 01، ص 58).
ورغم طوباوية فكرة إقامة، “مملكة العدل”، على الأرض التي يُحققها القائم “المهدي”، والتي اتخذت شكلاً أسطوريًا تمثل في أنه حين تجيء دولته (حينئذ يشرب الثور والسبع من حوضٍ واحد، ويخلف الراعي الذئب على غنمه)، وفيها أيضًا: (لن نترك بدعة من البدع إلا أطفئت ومُحقت ويرد الحق إلى أهله حتى يعود الإنسان كما ولد)، وذلك على حد تعبير أحد دعاة “الإسماعيلية”؛ “ابن منصور اليمن”، في كتابه: (الكشف)، إلا أنه وكيفما كان الأمر لم ينتظر “القرامطة” خروج قائمهم حتى يُحققوا مدينتهم الفاضلة المشروطة تاريخيًا بطبيعة العصر. فقد سارعوا باتخاذ (دار الهجرة) وأقاموا مجتمع (الألفة)، وها هو “النويري” يُقدم لنا وصفًا للتدابير الاجتماعية التي اتخذوها. وقد بدأها “حمدان بن الأشعت”؛ بأن فرض على المستجيبين لدعوة “القرامطة” (الفطرة)، وهي درهم وأحد على كل أحد من الرجال والنساء. ثم فرض (الهجرة) وهي دينار على كل من أدرك، ثم فرض (البلغة) وهي سبعة دنانير.
يقول “النويري”: “فلما توطأ له الأمر فرض عليهم أخماس ما يملكون، وتلا عليهم: (وأعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خُمسة – الأنفال 41)، فقوموا جميع ما يملكون من ثوب وغيره وأدوا ذلك إليه، فكانت المرأة تخرج خُمس ما تغزل، والرجل يخرج ما يكسبه، فلما تم ذلك فرض عليهم الألفة، وهو أن يجمعوا أموالهم فى موضع واحد، وأن يكونوا فيه أسوة واحدة لا يفضل أحد منهم صاحبه وأخاه فى ملك يملكه وتلا عليهم: (وأذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا – سوره آل عمران 13). وقوله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم. ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم – سورة الأنفال 62)، وعرفهم أنه لا حاجة بهم إلى أموال تكون معهم، لأن الأرض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم”.
“وأقام الدعاة فى كل قرية رجلاً مختارًا من ثُقاتها يجمع عنده أموال أهل قريته من بقر وغنم وحُلى ومتاعٍ وغيره، وكان يكسو عاريهم وينفق على سائرهم ما يكفيهم، ولا يدع فقيرًا بينهم ولا محتاجًا ولا ضعيفًا، وأخذ كل رجل منهم بالانكماش فى صناعته والكسب بجهده ليكون له الفضل فى رتبته، وجمعت المرأة كسبها من مغزلها، والصبي أجرة نظارته للطير وآتوه بها، فلم يتملك أحد منهم إلا سيفه وسلاحه” (نهاية الأرب – ج 23 – صـ 58).
وحين انتفض “قرامطة العراق”؛ في “سواد الكوفة” على دولة “الخلافة العباسية” كتبوا على رايتهم آيه قرآنية تدل على مضمون فكرهم الاجتماعي، وهي: (ونُريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين – القصص 5).
فكيف كان الحال بصدد التدابير الاجتماعية التي اتخذها “قرامطة البحرين” ؟.. يقول “ناصر خسرو”: “وهم لا يأخذون عشورًا من الرعية؛ وإذا أفتقر إنسان أو أستدان يتعهدونه حتى يتيسر عمله، وإذا كان لأحدهم دين على آخر لا يُطالبه بأكثر من رأس المال الذي له . وكل غريب ينزل هذه المدينة وله صناعة يُعطى ما يكفيه من المال حتى يشتري ما يُلزم صناعته من عدد وآلات ويرد (إلى الحكام) ما أخذ حين يشاء. وإذا تخرب بيت أو طاحون أحد الملاك ولم تكن لديه القدرة على الإصلاح، أمروا جماعة من عبيدهم بأن يُصلحوا المنزل أو الطاحون. ولا يطلبون من المالك شيئًا. وفي الحسا مطاحن مملوكة للسلطان، تطحن الحبوب للرعية مجانًا، ويدفع فيها السلطان نفقات إصلاحها وأجور الطحانين”. (سفر نامة – صـ 3؛ ترجمة: يحيى الخشاب).
وربما كانت أحد أهم الآراء التي تبنتها بعض فروع “الحركة القرمطية الإسماعيلية”، هو أنها رغم إيمانها بظاهر الشريعة وباطنها؛ فإنها لم تعتبر جوانبها التشريعية أبدية، سرمدية، أزلية، متعالية في ملكوتها عن الزمان التاريخي، إنما رأت لها حدودًا نسبية تقف عندها، خاصة حين يظهر قائمها، وتخرج من دور “الستر” إلى دور “الظهور”، وتُسيطر وتسود حينئذ تنسخ الشرائح القديمة، ولا يبقى منها سوى التوحيد الخالص المتجرد من الشعائر والطقوس، ورغم طوباوية أفكارهم، فقد كانت أبعاد هذه الفكرة تتضمن فى طياتها منطق التغير الدائم المحتوم؛ خاصة في هذا العالم الأرضي الدنيوي. ولم تكن بحد ذاتها لتتسق مع إبتداع أنظمة فاضلة لكل العصور والشعوب.
وقد تحررت إيديولوجية “القرامطة” بالقياس إلى العصر من نوازع التعصب الديني، كما أنها أثرت بدعايتها فى عناصر تنتمي لكافة الأديان والمذاهب، فلم تُميز بين مسلم ونصراني ويهودي ومجوسي. وقد كان من مذهبهم: “إسقاط الجزية عن أهل الذمة”، كما أشار إلى ذلك؛ “محمد بن هلال المحسن الصابيء”. من ناحية أخرى لم تكن “دولة القرامطة”؛ في “البحرين”، دولة دينية متعصبة، وإنما كان الدين بمعنى ما مسألة خاصة. وهذه الظاهرة اللافتة للنظر فرضتها شروط محددة أهمها أن الاضطهاد الاجتماعي الاقتصادي؛ الذي كان يقع على عاتق الطبقات الدنيا لم يكن يُميز بين المنتمين إلى الإسلام أو إلى غيره، ومن ثم فإن القهر العام قد وحد بينها وألف بين قلوبها بغض النظر عن اختلاف مذاهبها وأديانها، وقد كانت فكرة إقامة “مملكة العدل” على الأرض؛ على غموضها، هي الهدف الذي ألتئم الجميع في إطاره.